في حين لا يُـعَـد العمل الخيري بديلا عن العمل الحكومي في مجالات مثل الصحة، والتعليم، وتوزيع الدخل والثروة، فإنه من الممكن أن يساعد بكل تأكيد ــ شريطة توظيف الحوافز المناسبة. لتحقيق هذه الغاية، يتعين علينا تصميم مؤسسات تقدم فوائد السمعة والشبكات للمانحين الذين يدعمون قضايا مثل...
بقلم: مايكل سبنس

فورت لودرديل- تتوالى أحداث أكبر عام انتخابي في التاريخ في وقت حيث تعمل الثروة المتزايدة وفجوات التفاوت في الدخل على تغذية الاستقطاب وتقويض التماسك الاجتماعي في عدد كبير من البلدان. ويبدو أن مؤشرات مثل مستويات الدخل المتوسط والأداء الاقتصادي الإجمالي لا تُـحـدِث فارقا كبيرا؛ وتتحول الفجوات المتزايدة الاتساع بين من يملكون ومن لا يملكون إلى ظاهرة عالمية في الواقع العملي، وهي تترجم على نحو متزايد إلى رؤى متباينة بشكل حاد للعوامل التي تشكل التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا يجعل الحكم صعبا، في أفضل تقدير.

إذا كانت آليات الحكم الرسمية معطلة بسبب الاستقطاب السياسي الذي يبدو مستعصيا على الحل، فكيف من الممكن أن نتصدى لتحديات على قدر عظيم من الأهمية، مثل تحسين تكافؤ الفرص، وبناء اقتصادات مستدامة، وتسليم المنافع العامة الـحَـرِجة؟ تتلخص إحدى الإجابات في العمل الخيري.

ذات يوم، كان العمل الخيري يُـعَـد حكرا على قِلة من الأشخاص الأكثر ثراء، لكنها اليوم أصبحت ظاهرة جماعية. تعمل منصات التمويل الجماعي على تمكين صِـغار المانحين من دعم شتى ضروب الناس والمشاريع، ويكرس المتطوعون من مستويات الدخل كافة وقتهم وطاقاتهم لمنظمات خيرية. ولكن إذا كانت الثروة تتراكم بسرعة عند أعلى جدول التوزيع، فمن المنطقي الاستفادة من الفئة الأكثر ثراء لتمويل مشاريع مفيدة عالميا.

يقدم لنا بِـل جيتس، مؤسس شركة ميكروسوفت، نموذجا واحدا لمثل هذا العمل الخيري: كان لمؤسسة بِـل وميليندا جيتس، التي يشارك بِـل في رئاستها، أثـر بعيد المدى في مجموعة من المجالات، من الصحة العالمية إلى الاستدامة. كما يضطلع كبار المستثمرين بدور متزايد الأهمية في البحوث الأساسية، وهو ما يمكن اعتباره أيضا ضربا من العمل الخيري، اعتمادا على كيفية تقاسم النتائج واستخدامها.

في سبعينيات القرن العشرين، كان أكثر من 70% من تمويل البحوث الأساسية غير المسجلة ملكيتها يأتي من الحكومة. ثم انخفض هذا الرقم على نحو مضطرد مع توسع التمويل التجاري والخيري. ولكن عندما يتعلق الأمر بالبحث في التكنولوجيات الرقمية، وخاصة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، تمثل الحكومة ثلث التمويل فقط. ويأتي الباقي من شركات التكنولوجيا العملاقة مثل ميكروسوفت وجوجل (الثلث) وفاعلي الخير والمنظمات الخيرية (الثلث المتبقي).

بعبارة أخرى، يمثل القطاع الخاص الآن ثلثي تمويل البحوث الأساسية ــ معظمها مفتوح المصدر والوصول إليه مفتوح أيضا ــ في التكنولوجيات التحويلية مثل الذكاء الاصطناعي. مثل هذه المشاركة المؤسسية في البحوث الأساسية ليست بلا سابقة. كانت مختبرات بِـل التابعة لشركة AT&T مسؤولة عن مجموعة من الابتكارات الحاسمة، من الترانزستور إلى الخلايا الكهروضوئية، قبل أن يفكك إجراء مكافحة الاحتكار شركتها الأم. وفي وقت حيث يحاول القائمون على التنظيم تحديد أفضل طريقة لتنظيم شركات التكنولوجيا الضخمة، يستحق الأمر أن نتذكر مصير مختبرات بِـل.

يُنظر إلى العمل الخيري غالبا على أنه تعبير عن تعاطف فردي، لكن الأمر أشد تعقيدا من ذلك. الواقع أن العمل الخيري ظاهرة اجتماعية معقدة تشكلها مجموعة من الاعتبارات والحوافز، بما في ذلك الحوافز المالية المباشرة. في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، يُـشَـجَّـعَ العطاء الخيري من خلال جعل التبرعات قابلة للخصم من الضرائب. لكن فوائد أخرى ــ تلك التي تعود على سمعة المحسنين على سبيل المثال ــ تحمل أيضا وزنا كبيرا.

كما يوضح جوناثان ك. نيلسون وريتشارد جيه زيكهاوزر في كتابهما الصادر عام 2008 بعنوان "جزاء الراعي: التكليفات الفاضحة في فن عصر النهضة الإيطالي"، كان هذا صحيحا في القرن الخامس عشر كما هو اليوم. في ذلك الوقت، كان أثرياء إيطاليا يرغبون في تعزيز الفنون، وبدرجة أقل، العلوم؛ والإشارة إلى ثرواتهم والإنجازات التي خلقتها؛ وإظهار تقواهم في مجتمع تهيمن عليه الكنيسة الكاثوليكية.

زودت الكنيسة الأثرياء بوسيلة لتحقيق كل هذه الأهداف: فقد بنت كاتدرائيات مع عدد كبير من (المصليات) الكنائس الصغرى حول الصحن المركزي، ثم باعت حقوق تزيين وتسمية المصليات للأسر الثرية، التي كانت تكلف فنانين عظماء بإنتاج لوحات، ولوحات جدارية، ومنحوتات. وبهذا جرى تمويل الكنيسة، وازدهر الفن، وعزز الأثرياء أجنداتهم الخيرية، وعززوا سمعتهم، بل واكتسبوا درجة من الخلود.

تسلط هذه التجربة الضوء على أهمية آليات الإشارة، والشبكات، والتقدير ليس فقط في تشجيع النشاط الخيري ولكن أيضا في توجيهه. هناك سبب لوضع أسماء كبار المانحين للجامعات الكبرى، على سبيل المثال، على المباني وربطها بمبادرات بحثية كبرى: فَـهُم مثلهم كمثل رعاة الفن في عصر النهضة، يريدون دعم التقدم البشري وتعزيز مكانتهم الشخصية، وخاصة في إطار الشبكة التي يهتمون بها. وكما زعم الفلاسفة من أرسطو إلى هيجل، فإن التقدير ــ وخاصة لمساعدة آخرين ــ يمثل رغبة إنسانية أساسية.

ومثلها كمثل الجامعات، تجتذب مؤسسات نخبوية أخرى ــ مثل المعارض الفنية، والمكتبات، والمتاحف، والأوركسترا ودور الأوبرا ــ العطاء الخيري جزئيا من خلال ضمان حصول المانحين على التقدير الذي يتوقون إليه. لكن قضايا حيوية عديدة، بما في ذلك دعم أولئك الذين يجاهدون من أجل تلبية احتياجاتهم وخلق الفرص لأبنائهم، تفتقر إلى آليات قوية مماثلة لاجتذاب التمويل من المانحين.

في حين لا يُـعَـد العمل الخيري بديلا عن العمل الحكومي في مجالات مثل الصحة، والتعليم، وتوزيع الدخل والثروة، فإنه من الممكن أن يساعد بكل تأكيد ــ شريطة توظيف الحوافز المناسبة. لتحقيق هذه الغاية، يتعين علينا تصميم مؤسسات تقدم فوائد السمعة والشبكات للمانحين الذين يدعمون قضايا مثل الحد من الفقر وتعزيز الصحة العامة. ويبدو أن العنصر المفقود الرئيسي هو الوسيط الذي يعمل كمستثمر تأثير محترم ويشكل جوهر آلية الإشارة.

الأمر الأكثر جوهرية هو أننا يجب أن نتوقف عن التهليل للثروة كغاية في حد ذاتها. فبرغم أن الثروة من الممكن أن تشير إلى ضروب بعينها من الإنجاز، فإنها لا تصبح جديرة بالاحتفال إلا عندما تُـنـشَـر في خدمة رفاهة البشر.

* مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، أستاذ الاقتصاد الفخري والعميد السابق لكلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف كتاب التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات، ومؤلف مشارك (مع محمد العريان، وجوردون براون، وريد ليدو) لكتاب الأزمة الدائمة: خطة لإصلاح عالم ممزق

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق