حينما يشعر الشاب أنه في محلّ تقدير اجتماعي وأن أمامه أكثر من فرصة لتحقيق تطلعاته، وأحلامه في ميدان الخروج من أسر الحاجة، وإحراز الاستقلال الاقتصادي، فمن الراجح جدا أن يكون عضوا فاعلا، ومساهما إيجابيا في بناء بلده وازدهاره، وبطبيعة الحال فإن نقيض هذه النتيجة تماما سيكون تفكيرا منطقيا في الحالة المعاكسة...

حينما يشعر الشاب أنه في محلّ تقدير اجتماعي وأن أمامه أكثر من فرصة لتحقيق تطلعاته، وأحلامه في ميدان الخروج من أسر الحاجة، وإحراز الاستقلال الاقتصادي، فمن الراجح جدا أن يكون عضوا فاعلا، ومساهما إيجابيا في بناء بلده وازدهاره، وبطبيعة الحال فإن نقيض هذه النتيجة تماما سيكون تفكيرا منطقيا في الحالة المعاكسة، أي عندما يكون الشاب عرضة للإهمال الاجتماعي ويعاني من انعدام فرص التطور الشخصي على الصعيد الاقتصادي، فتبدو لوحة المستقبل في ناظريه حينئذ أشبه ما تكون بالسير نحو المجهول، ويبدو سلوكه تبعا لهذه الرؤية محفوفا بالخطورة الشديدة سواء ما يتصل منه بالبعد الشخصي أو البعد الاجتماعي! 

وهذا السلوك الملازم للخطورة في السياق الذي ذكرناه آنفا لا ينحصر بالشباب الأميين وغير المتعلمين تعليما جيدا، بل يتعداه إلى المتعلمين حتى الحاصلين منهم على تعليم جامعي! ويمكن – إلى حد ما- تعميم حال الشاب الفرد المنفلت من عقال التعقل والحكمة لأسباب اقتصادية، يمكن تعميمه على المجتمع بأسره في أكثر من سياق، لاسيما في المجتمعات التي تمثّل فيها شريحة الشباب الكتلة (الأكبر) من إجمالي عدد السكان، وهو واقع حال العراق في الوقت الحاضر، إذ إن الشباب من كلا الجنسين بحسب بيانات متفرقة على الإنترنت يمثلون نسبة 60% تقريبا من المواطنين العراقيين، وهي نسبة تبعث على التفاؤل لولا أن 40% منهم يعانون من البطالة، ويقاسون من مرارة تعذّر سبل الكسب الكريم. 

فالعامل الاقتصادي -كما لا يخفى-له التأثير المباشر على حياة الإنسان صحة وفسادا، ولا يكاد ينجو من ربقة هذه المعادلة الآسرة إلا استثناءات قليلة، وتبعا للقاعدة السائدة ينعكس أثر الحالة المادية للفرد بوضوح على تعاطيه للشأنين السياسي والاجتماعي سلبا وإيجابا. فالنظرة السلبية للذات وللآخر نظرة ملازمة غالبا للعاطل عن العمل، والعكس من ذلك هو الطابع العام لشخصية الكاسب الموسر.

والمجتمع الذي تجاوز خط الحاجات الأساسية إلى الاحتياجات الكمالية وفقا لـ (سلّم ماسلو) يتوافق مع سلوك الفرد الموسر غالبا، فتراه يكرّس وقتا للعمل الاجتماعي والسياسي بخلاف المجتمع الذي لم يحرز حالة الكفاف، فمثل هذا المجتمع لا يمكن أن يعطي العمل الاجتماعي والسياسي حقهما إلا نادرا، وهو أميل بطبيعته إلى انتهاج العنف والثورة إذا دعته الضرورة إلى العمل بالسياسة بوجه خاص، وهذه الصورة إن لم تصدق على المجتمعات كافة فلا شك في أنها تصدق على عدد كبير منها، وبقدر ما يتعلق الأمر بالمجتمع العراقي فثمة ظاهرة لافتة للانتباه هي ظاهرة النفور من الجو السياسي على وجه التحديد، وهي ناجمة على الأكثر من عدم وجود ثقة للجمهور بمختلف فئاته العمرية بالطاقم السياسي الذي يدير رحى العملية السياسية ابتداءً من عام 2003م وحتى اليوم. 

ولعل نسبة كبيرة من فئة الشباب خاصة في مناطق وسط العراق وجنوبه تحوز على معدلات نفور قياسية تجاه السياسيين القابضين على مقاليد الحكم في البلاد، وذلك بعد خوضهم لتجربة مريرة في مظاهرات تشرين عام 2019م، هذه المظاهرات التي تألّفت بدرجة كبيرة منهم، وتخللتها أعمال عنف دموية طالت عددا لا يُستهان به من الشباب المنتفضين ضد البطالة، ونقص الخدمات، والفساد السياسي. 

وكان من تداعيات تلك المظاهرات بعد إخمادها أو تمييعها هو استشراء حالة الإحباط في صفوف الغالبية العظمى من المتظاهرين الشباب، وتنامي شعور الخذلان وخيبة الأمل في نفوسهم، كما بدا لأكثرهم أنهم كانوا فريسة للاستغلال السياسي من لدن بعض الجهات، وكذلك بعض الأفراد الذين بدأوا ناشطين تشرينيين ثم تحولوا إلى برلمانيين أو مستشارين!

وحتى على فرض تغيير الشباب لهذه القناعة في الحاضر أو المستقبل مع بقاء أوضاعهم المادية بصورتها المزرية على حالها فإن انخراطهم أي الشباب في (حراك شعبي) جديد أو (انتفاضة غضب جديدة)، وهي بعض أشهر الأوصاف التي اطلقت على مظاهرات سنة 2019م ستنتهي حتما إلى نتائج لا تساوي ولو جزءا يسيرا مما يمكن أن يبذله هؤلاء الشباب من تضحيات قد تكون أكثر جسامة، وأكثر مرارة...

إن الخطة التي ينبغي أن تنتهجها الدولة العراقية وعلى رأسها الحكومة إذا ما أريد لفئة الشباب الخير والسلام، وأن تتاح لهم فرص التعاطي الإيجابي مع الشأنين الاجتماعي والسياسي هي خطة اقتصادية في المقام الأول تأخذ بنظر الاعتبار تمكين الشباب اقتصاديا عن طريق تزويدهم بالمهارات، والخبرات اللازمة لدخول أسواق العمل بحريّة، وأهليّة بحيث يغدو الشاب العراقي مثالا للكفاءة والاتقان، فضلا عن تدريبه على مشاريع ريادة الأعمال، وقيادتها... 

وفي ما يتعلق بالشق السياسي لا بد للدولة بأسرها وليس الحكومة وحدها من انتهاج أساليب تشجّع الشباب على دخول العملية السياسية، وذلك من خلال حثهم على ولوج بوابة الانتخابات مشاركة، وشراكة، وهذه الغاية لا تنحصر بتخفيض عمر المرشحين للانتخابات فحسب، ولكن من خلال الإتيان بنظام انتخابي (عادل) لا يحابي النخبة، و(مُحكَم) لا يُتلاعَب به، و(واضح) بمعنى كونه مفهوما لعموم المواطنين...

وبالجملة فإن تمكين الشباب اجتماعيا وسياسيا هي نتيجة حتمية لمقدمة منطقية تأخذ على عاتقها ضمان الاستقلال المالي أو الاقتصادي لهؤلاء الشباب، ولا يمكن توفير ظروف موضوعية لتلك المقدمة المنشودة من غير رسم وتنفيذ سياسات اقتصادية حازمة تحول دون تغوّل التفاوت الطبقي إلى الحدّ الذي يطيح بما بقي من معالم الطبقة الوسطى، وإلى الحدّ الذي سيؤدي في النهاية -لا قدّر الله- إلى اختزال المجتمع العراقي بطبقة مالكة وأخرى مملوكة...  

اضف تعليق