ما زالت البرامج الحوارية السياسية (التوك شو)، على سبيل المثال لا الحصر، تتأطَّر بالأيديولوجيات الجاهزة، والمعلبة بالتحريض والتراشق والتسقيط السياسي والشخصي، فلا يجد المتابع لهذه البرامج صعوبة في تحليل الأسباب؛ فالبيئة السياسية مليئة بالأزمات والفوضى السياسية، والفساد السياسي والإعلامي، والصراع على السلطة والمال من جهة...

لا أحد يستطيع إنكارَ أن مستويات القنوات العراقية شهدت تطورًا واضحًا في التقنيات، وصناعة البرامج، وشهدت تراكمًا في الخبرات، بما يتناسب مع المتغيرات التي يشهدها عالم الميديا في وسائله المختلفة؛ لكن هذا التطور ما يزال بطيئًا على مستوى المضمون والأداء والوظيفة المطلوبة. 

فما زالت البرامج الحوارية السياسية (التوك شو)، على سبيل المثال لا الحصر، تتأطَّر بالأيديولوجيات الجاهزة، والمعلبة بالتحريض والتراشق والتسقيط السياسي والشخصي، وإثارة النعرات الطائفية والقومية. فلا يجد المتابع لهذه البرامج صعوبة في تحليل الأسباب؛ فالبيئة السياسية مليئة بالأزمات والفوضى السياسية، والفساد السياسي والإعلامي، والصراع على السلطة والمال من جهة، وتَحَكُّم رأس مال الأحزاب ورجال الأعمال بهذه البرامج من جهة أخرى. ومثلما نجد في الحياة السياسية صفقات فساد هنا وهناك؛ فإن معظم هذه البرامج تقع في منطقة الصفقات السرية، والرشاوي المبطنة بالمصالح الشخصية؛ حيث التلوث بالمال الحرام التي تجرى وراء الكواليس.

والظاهر للعيان أن معظم هذه البرامج، يسودها، في كثير من الأحيان، ضعف المهنية، والثقافة الخاصة والعامة لدى القائمين عليها؛ إذ يتبنَّوْن دورَ قاضي التحقيق، وفرضَ سلطة الحديث بما يعسكر التوجُّه، ويصرّون على الظهور نجومًا بما يصادر وجود الضيف ومحور النقاش. 

بينما يشكو الكثير من متابعي تلك البرامج من أنهم وبدلاً من الاستماع لمادة سياسية على مستوى عالٍ من التحليل السياسي؛ يُصدمون إذ يُشاهدون قناةً تعرض لهم شتى أنواع التهريج، كما أن عددًا غير قليل، من مقدميها لا يُوفَّق في إجراء حوار مفيد وناضج، يُغني المعرفةَ لدى المتلقِّي، حيث تراهم غالبًا ما يقاطعون حديث الضيف بأسلوب فج ومستفز مراتٍ ومرات؛ مما يتسبب في بث كلام مشوش ومبتور، وأفكارٍ مشوّهةٍ وغير مكتملة؛ ذلك أن مقدم البرنامج يحاول استعراض قدراته الحوارية والشخصية على حساب الفكرة الرئيسة والأصلية؛ بحجة ضيق الوقت؛ فتُبترُ الجمل وتقطّع الأفكار وتتهلهل؛ بينما نقطة احترام مساحة كلام الضيف من ناحية، ونقطة تقدير متابعة المشاهد لفكر الضيف وكلامه يبقى ذلك عند بعض الإعلاميين شيئًا ثانويًا، بعيدًا عن أصول الخطاب والحوار التلفازي.

والأخطر من ذلك، فقدان مقدم البرنامج حرّيته المهنية، حينما يتحول بالكامل إلى مُنفِّذٍ لخطط وتوجُّهات قناته، خاصة إذا كانت هي ضمن لعبة الصفقات السياسية أو المادية، كما يحدث في واقعنا الإعلامي. لذلك يصبح هدف مقدمي البرامج الحوارية، هو السعي لأرضاء صاحب القناة، وجذب انتباه الجمهور، وتوسيع القاعدة الجماهيرية لبرامجهم، وذلك من خلال اختيار موضوعات منتقاة ومثيرة للجدل والصراع؛ حتى لقد أصبحت مشاهد العراك والمشاحنات فقرة مكررة في الكثير من برامجهم المزعوم جاهزيتها.

ودون تحديدٍ للأسماء والمسمَّيات، وما يدور في كواليس الفضائيات، فإن الحالة الإعلامية شهدت بروز أسماء قليلة رصينة في المهنية، وأسماء كثيرة لا يبدو عليها أنها تحمل الجينات الإعلامية؛ بل هي من صنع الأحزاب وقنواتها؛ حيث الافتقار إلى المهنية والحرفية والموضوعية، والمعرفة الناقصة بفنون الحوار الإعلامي وأخلاقياته.


فالبرامج الحوارية تحفل بالكثير من المرضى؛ تجد منهم المهووس بالشهرة المتطابقة مع نرجسيته المريضة، والآخر مصاب بداء العظمة، وهناك الفاسد القبيح الذي يبحث عن شقة أو صفقة مالية لقاءَ تلميع وجهِ كالحٍ مرتشٍ أو سارقٍ للمال الحرام، وتجدهم أيضًا، وهم الأكثرية، من جاءت بهم الصدفة ليكونوا نجوماً في آخر هذا الزمان، أو تجد مقدماً لأحد البرامج، صنعته الفوضى الخلاقة؛ ليكون سمسارًا إعلاميًّا بين القنوات، شبيهًا بتنقُّلات (الغجر). لقد وجدنا، وسنجد، غرائب الدنيا في عالم التقديم والبهرجة الإعلامية!، وانبهرنا، وسننبهر، بنرجسيتهم، وانتهازيتهم وهيبتهم الفارغة!

بالمقابل، ينبغي الاعتراف أيضًا، بأن هناك جمهورًا عراقيًّا ليس على هذا القدر من الوعي، الذي يمكنه من التمييز بين البرامج التي تقدم موادَّ تحليلية سياسية -سواء تلك التي تخدم الحقيقة أو تلك التي تشوّهها-؛ لكن الكثير، مع الأسف، يميل إلى إعلام التهييج والتهريج، الذي هو إحدى نتائج التخلف الاجتماعي السائد بين عامة الناس. وهي صفات الشعبوية التي تلبي النزعات الانتقامية والتعويضية والتخريبية والتشويهية لدى المقهورين، الباحثين عن مشاهدة فوضوية تسلّيهم، وعن ترفيه يتنفّسون به عن إحباطاتهم.

وهذا الإعلام الشعبوي سيظل سائدًا ومحبَّبًا إلى الفئات المقهورة واليائسة، فجميعهم يريد للإعلام أن يكون فُرْجويا، وللسياسة أن تكون فضائحَ ترفيهية، تقدم لهم ذرائع للتخريب وللتشويه، وممارسة العنف -بكل أشكاله-، فنحن أمام أزمة حقيقية؛ لعبة القذارة والمصالح بين الإعلام والسياسة التي لا تصنع لنا سوى برامج جدلٍ مُسيَّسة، معلبة بالأحقاد والدسائس والتسقيط، ذات اتجاه واحد يتجاهل آراء ومعتقدات الآخرين.

باختصار شديد، البرامج الحوارية أصبحت مزاداً علنيًّا للصفقات المالية، وسوقاً للتسقيط بأنواعه، وهي في معظمها تخرج من عباءة بعض البرامج العربية الحوارية التي تعتمد على (نماذج التهييج)، و(إشعال الحرائق)؛ للحصول على الإثارة الإعلامية، حيث اختيار الشخصيات ذات الطبيعة الانفعالية أو الاستعراضية التي تمارس سلسلةً درامية من الفضائح السياسية والشخصية.

وبمنطق الرياضيات، فإن البرامج الحوارية ناتجها الرياضي واحدٌ غير قابلٍ للقسمة والطرح؛ إذ يُشبه بعضها بعضاً؛ متشابهة في أساليبها الإعلامية، وبوجوه ضيوفها المستنسخة والمكررة؛ فلا تجد فيهم سوى السلبية والانتهازية والخداع. ضيوف ذو غباء مركب في السياسة والمعرفة والحياة، ويُديرُ الحوار معهم مقدم برامج «زعطوط»، مهووس بادِّعاء المعرفة والأستاذية؛ عينُه تصوِّب على الشُّهرةِ أسهمَها، والعين الأخرى للحصول على شقة من الحرامية في مجمع سكني فئة خمس نجوم !

اضف تعليق