إن صحافي اليوم يُواجه تحدياً كبيراً في مجال التحرير الصحافي الرقمي، وهو تَحدٍّ مُركَّب، لا يرتبط فقط بمهاراته الصحافية، كما كان سابقاً، وإنما يرتبط بثقافته الإلكترونية، وبرامجها ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي والواقع المعزز، وتطبيقاتها المختلفة؛ مثل (إنستغرام، سناب شات وواتس آب وغيرها)، وكذلك توليد المحتوى الإخباري الجديد والمثير للاهتمام، واكتساب المهارات الكتابية الرقمية...
مازال الجدل مُحتدماً بين مَن يرى بأن الكتابة الرقمية لا تختلف عن الكتابة التقليدية؛ إلا بفروقات بسيطة للغاية، وبين مَن يرى بوجود فروقات جوهرية كبيرة، وأن المقارنات بينهما فيه إجحافٌ في توصيف الحالة التي تبتعد عن العلم، وتقترب إلى حالة التعصُّب بثوابت القديم أو الجهل بأساسيات التكنولوجيا، ومتطلبات العمل الصحفي الرقمي.
لقد قرأت رأياً لزميل مُحترف في الصحافة المطبوعة؛ قال فيه: إن الفرق بين الوسيلتين في تحرير الخبر هو الاختصار فقط، وهو مُحقٌّ في القول إذا كان الأمر يتعلق بأسلوب كتابة الخبر أو الموضوع؛ لكن الأمر في النظام الرقمي تعدَّاه إلى وظائفَ أخرى، ترتبط بمتطلبات الشكل والنوع والأهداف المرتبطة بالتكنولوجيا ومتطلباتها الفنية.
لقد تغيَّرت القوالب الفنية للخبر الصحفي، بما يتناسب مع التكنولوجيا الحديثة ووفرة المعلومات، وصارت القوالب الهرمية التقليدية المتعددة المسميات تأخذ شكلاً آخر؛ حيث الكتابة بطريقة خطية سردية، دون وصلات تُتيح الانتقال غير الخطي، وعرض المادة على شكل وحدات أو كتل، كلٌّ منها بحجم شاشة واحدة، وتكون بينها وصلات؛ لكنها تنقل المستخدم بشكلٍ خطي بين الوحدات؛ بهدف عرض النص على شاشات متتالية، بحيث يتصفحه المستخدم عن طريق أشرطة التصفُّح.
صار لدينا أيضاً أسلوبُ كتابة المقاطع؛ ما يسمى بنمط المقاطع، حيث يُقسَّم الخبر إلى أجزاء وفقاً لترتيب وقوع الأحداث، أو وفقاً للتطور الزمني للحدث، وهناك نمط القائمة الذي يقوم على وضع معلومات الخبر في شكل قوائمَ داخل الخبر أو في خاتمته، ونمط الدائرة يتم فيه تحرير الخبر في شكل دائرة، يكون الاستهلال فيها هو النقطة الرئيسة. والقائمة تطول…؛ لكن الواقع المؤكَّد أن هناك ثورةً في أساليب التحرير الصحفي، وتغييراً في وظيفة ومهام الإعلامي الرقمي.
بات الصحافي لا يقوم بمهام الكتابة فقط في الصحيفة الإلكترونية؛ ولكنه يقوم بعددٍ من المهام المتداخلة، فهو: يُعدّ التقرير، ويُجهّز التطبيقات المستخدمة في الموقع، ويُتابع تعليقات الجمهور، ويجمع قاعدة البيانات الخاصة بالجمهور المستخدم، وهو مَعنيٌّ بإثراء المحتوى بالوصلات الخارجية، ويقوم بالتأكُّد من عدم احتواء هذه الوصلات على موادَّ تُسيء إلى الموقع أو الجمهور المُستخدِم. وهذا الضغط الكبير في المهام وغياب التخصص يُؤديان إلى الوقوع في الأخطاء التي تتعلق بالدقة والموضوعية، وإلى خلق المشاكل المختلفة والمتعددة.
ولأن المهمة صارت أعقد؛ فقد جعل المؤسسات الإعلامية تبحث اليوم عن الصحافي متعدد المهام، الذي يقوم بأكثر من دور؛ ما بين التصوير، والتحرير، والتدقيق، والمونتاج، وإدارة حساب المؤسسة على شبكات التواصل الاجتماعي، والمراسلة وتغطية الأخبار بكافة أنواعها، والكتابة بكل فنونها.
لقد أصبح امتلاك الصحافي للثقافة الإلكترونية من ضرورات النجاح المُلحَّة، التي منها أيضاً، معرفة جمهور الأونلاين وخصائصه، فما يُميّزه هو الإلمام بأدوات ومحركات البحث، والحصول على المعلومات والبيانات من مصادرها المُتاحة والمُناسبة، ومعرفة تطبيقات المحمول وبرامج الحاسوب من (وورد وإكسل وفوتوشوب ومونتاج)، وتطويعها لتخدم صحافة الويب، بالإضافة إلى صناعة الإنفو غرافيكس، التي أصبحت مطلوبةً بشكلٍ كبير.
كما نتج عن التحوُّل إلى نظام التحرير الإلكتروني تعديل العلاقة بين المحررين بالصحيفة والكُتَّاب من خارجها؛ من ناحية، ومراسليها؛ من ناحية أخرى؛ فأصبح المحررون اليوم يستخدمون الأدوات التكنولوجية الحديثة في التعامل مع الكُتَّاب، ويُطالبونهم بالإلمام بالطرق المختلفة للتعامل مع هذه التكنولوجيا الجديدة.
وفي ظل وجود صحافة المواطن، التي شكَّلت عائقاً كبيراً للبعض، خاصة من أجل الحصول على السبق الصحافي؛ أضحت عملاً مُضنياً قدرةُ الصحافي في معرفة المعلومة، وسرعة لملمة عناصر الخبر ومصادره الموثوقة، وإرسالها للمؤسسة، تقابله سرعة انتشار الخبر، سواء عبر مواطن صحافي استطاع نقل المعلومة، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إن الكتابة الجيدة للصحافة الرقمية أو صحافة الإنترنت، تعتمد، بشكلٍ أساسي، على ما يُعرف بالاقتصاد في اللغة، أي لغة (ما قلَّ ودلَّ). والاختصار المقصود هنا ليس مجرد تقليل عدد كلمات النص فحسب؛ وإنما المقصود به أن يكون التركيز مُنصبًّا في الأساس على التكثيف المفيد للقارئ. والاقتصاد في اللغة مبدأٌ مطلوبٌ في الكتابة؛ ذلك أن المساحة في المواقع الإلكترونية الصحفية تقتضي ذلك؛ ولكي تكون أيضاً متوافقة مع حاجات القارئ الرقمي.
خلاصة القول، إن صحافي اليوم يُواجه تحدياً كبيراً في مجال التحرير الصحافي الرقمي، وهو تَحدٍّ مُركَّب، لا يرتبط فقط بمهاراته الصحافية، كما كان سابقاً، وإنما يرتبط بثقافته الإلكترونية، وبرامجها ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي والواقع المعزز، وتطبيقاتها المختلفة؛ مثل (إنستغرام، سناب شات وواتس آب وغيرها)، وكذلك توليد المحتوى الإخباري الجديد والمثير للاهتمام، واكتساب المهارات الكتابية الرقمية التي ينبغي أن تتلاءم مع رؤية العصر الرقمي.
لكن الثابت، هو أنّ الكتابة الحديثة الجيدة تترافق مع رؤية الصحافي المتعدد المهام، وثقافته الإلكترونية، مثلما هي مسؤولية أقسام الإعلام الرقمي في إعداد المهارات الإعلامية الحديثة لطلّابها، تلك التي تكون متوافقة مع العصر الرقمي، وسوق العمل الإعلامي الحديث.
شخصياً، تستهويني قراءة الأخبار على منصات العالم الرقمي، بخرائطه التفاعلية وصوره، وفيديوهاته، وروابطه، وبياناته التصويرية؛ لكن ينتابني الحنين إلى عصر ورق الصحيفة والكتاب، ولربما هذا الحنين حنيناً من الجسد للروح؛ حيث عصر الجدية والالتزام والرصانة و….الكتابة الصافية.
اضف تعليق