ان جوهر ممارسة العنف ضد الصحفيين وقتلهم لا يقوم على التخلص من الآخر لأنه يختلف معنا فقط، بل على اجتثاث الاختلاف، وان احتكار الرأي الذي تسعى له الأنظمة والجماعات الذي تسعى له مثل هكذا جماعات لا يمكن أن يكون إلا تحت عالم محكوم بدمى متحركة...
عندما نستحضر الوقع العنيف للصدمة التي نعيشها يومياً نؤمن بأن ماضينا لازال لم يقهر.
الإهداء، الى الصحفي الشجاع المدافع عن حرية الرأي.
الحياة والفكر عند الصحفي اللبيب والوطني تعطيه دورا بوصفه منتجا لقيم نبيلة وجديدة، وان الحياة لصاحب الرسالة ليست مسألة جمالية بقدر ما تكون حياته مكرسة، فان جل حياته تركز على التحرر من الواقع المأساوي بحيث يعيد نهر الحياة لدولة باتت متوحشة ويكون فيها الجهل مقدسا، فانه الأداة المسؤولة عن التصدي لكل انتهاك وخيانة.
في الاتجاه الآخر تعتقد بعض الجماعات والأفراد بما تعيشه من نشوة القوة أو المال أو السلاح فهم خصوا نفسهم فعلا بهذا الكبرياء ويتخيلون بمنطقهم هذا يمتلكون مفاتيح العقول والقلوب ويمتلكون المعرفة السامية بالأشياء، لكن فات الأوان من التنبيه إلى ما يرتكب من جرائم أشاعوها تحت مبررات واهية.
إن الذي دفع بنا لكتابة هذا المقال نرى العراق أشبه بكراس تحترق أوراقه تباعا، فكلما قلت أن اليوم سيكون أفضل متمنيا سكون نفسي وجسدي حتى نصحو أو نطالع خبر مفجع، يهتز الوجدان ويشتعل الضمير وترتجف الأصابع بغير إرادة تشعر بالانتقام لدماء الأبرياء الذين يتساقطون كل لحظة، آخرها الزميلين الصحفي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي الذين تم اغتيالهم اليوم 10/1/2010 في محافظة البصرة بعد تغطيتهما لحركة الاحتجاجات التي انطلقت في 1/10/2019، وفي يوم صاخب من الأحداث وتصاعد الأزمات الدولية على أرض العراق.
الصراعات انعكست على المواطنة وأخرجتها من الفضاء الرحب إلى مفهوم الانتماءات الضيقة والجماعية وتقديم الشاهد الحي على هذه الحقيقة، هو شاهد مفهوم تكميم الأفواه والتغييب والقتل، ويأتي دور اليقظة من أن تنطلي علينا الشعارات والخوف من تحقيق ما كنا نصبو إليه من حرية وكرامة.
كان للنقاشات التي اجريت حول علاقة السلطة والسلاح المنفلت أثر ضعيف في كيفية حماية الصحفيين واقناع السلطة والمجتمع لمسؤوليتهم تجاه حرية الرأي ونبذ العنف ضد من يعمل في هذه المهنة المحترمة التي في أصولها وأخلاقيتها تحث على حرية الرأي والدفاع عن حقوق المواطنين سواء.
الحكم الاستبدادي دفع تجاه استباحة السلطة الرابعة، فان النظامين الشموليين (السلطة السياسية الديكتاتورية والمجتمع العنيف)، اللذين ظهرا بشدة منذ اندلاع حركة الاحتجاجات، مع أن العراق من المفترض انتقل من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي وهناك نظام وشرائع وصدرت قوانين وقدمت على انها قوانين ستحمي حرية الرأي. والواقع لم تكن عمليات الاغتيالات والتغييب والترهيب وسيلة الجماعات التي تريد ان تكمم الأفواه بقدر ما كان جوهرها.
ولو عدنا الى جوهر ممارسة العنف ضد الصحفيين وقتلهم انه لا يقوم على التخلص من الآخر لأنه يختلف معنا فقط، بل على اجتثاث الاختلاف. ان احتكار الرأي الذي تسعى له الأنظمة والجماعات الذي تسعى له مثل هكذا جماعات لا يمكن أن يكون إلا تحت عالم محكوم بدمى متحركة لا تبدي أي رحمة.
العيش تحت سطوة الايدولوجيا المتطرفة جعلتنا كعراقيين على حافة الموت فالشعارات المرفوعة باسم الديمقراطية المفروضة قهرا من جهة والمستنكرة جهلا من جهة أخرى، ويبقى مابين هذين الخيارين واقع محزن من أجل السير أعمياء.
يتفق المشرعون على أن المنظومة التشريعية والسياسية المكونة للقانون الدولي وللمؤسسات التي عملت في مختلف الظروف، تقوم على أن الصحافة يجب أن تكون محمية لأنها تستند على نقل كل حدث من شانه ينقل معاناة الناس ويجعلهم في إطلاع دائم بما يجري من حولهم من تحولات. أضف إلى ذلك أيضا أن قمع الصحفيين ولجم أفواههم والنزعة العنيفة ليست محددة بقواعد.
صار لفت النظر إلى عقلنة العقل هو انبعاث الاهتمام في سياق ما يجري من حروب بالوكالة أو مباشرة على أرض جاوزت القرن في العصر الحديث ولازالت تخضع لإرادات تمزقه وعاثت فسادا من جهة وبين إرادة مستضعفة تحاول غرس الحياة من خلال حرية الذات التي نصنعها لنفسنا والتي كتب عنها فريدريك لوبياس "هي طريقة عينية للوجود، وان الذات الحرة هي الذات الفردية أو الجماعية غير الواقعة تحت وصاية ذات أخرى".
إن الثقافة والإعلام ليست منظومة قوانين جامدة ومجردة، إنما هي مركب من أخلاق للمهنة والتربية ولهما سلطة على القلوب والعقول، بل لها حماية من السيد الأكبر وهو القانون.
مراجعة تقييم حرية الصحافة في العراق صارت ضرورية، فقد استدعت ظروف العنف ومستوى ردة الفعل والمعالجة ضعيفة ولا توجد إجراءات حقيقية مثل مدى بقاء الصحافة لها وجود وصلاحية في دفع عجلة الإصلاح من واقع إنساني.
*كاتب صحفي
اضف تعليق