توصل علماء ومفكرون الى أن القرآن الكريم وسيرة رسول الله والأئمة المعصومين، تمثل منظومة تشريعية وأخلاقية متكاملة قادرة على تنظيم حياة الانسان على مر الزمن، هنالك نوعين من الحل قدمه الإسلام منذ بزوغ فجره، حيث استبدل شيء بآخر لينهي أزمة انسانية وأخرى أخلاقية في المجتمع...
{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
سورة البقرة، الآية61
بهذا التساؤل الاستنكاري واجه نبي الله موسى، عليه السلام، بني اسرائيل في مسيرة التحول من الذل والعبودية الى العزّ والكرامة، كانت حافلة بالمعاجز والتكريم من قبل السماء، بدأت بالخلاص من نظام حكم فرعون في حادثة شقّ البحر نصفين، ثم غضّ النظر عن تمردهم ومعصيتهم باتخاذهم العجل إلهاً دون الله الواحد الأحد، رغم أن أقدامهم بعد لم تجفّ من مياه البحر الذي ساروا في قعره وأطبقه الله على فرعون وجنوده، ثم الحظوة الإلهية اللاحقة بأن يسكنوا بيت المقدس محفوفين بالتكريم الإلهي بتفجير الأرض ينابيع مياه عذبة، لاثني عشر قبيلة كانوا مع النبي تحاشياً لوقوع النزاع بينهم على الماء، وأكثر من هذا؛ أن تظللهم الغيوم لئلا تؤذيهم حرارة الشمس، مع إنزال طعام لذيذ لا نظير له؛ طائر السلوى، وغذاء المنّ، كل هذا يحدثنا عنه القرآن الكريم في آيات متوالية من سورة البقرة، ثم يبين كيف أن هؤلاء تنكروا لكل هذه المكرمات ليفكروا بما هو أدنى من ناحية القيمة الغذائية ولذة التذوق، فقالوا لنبيهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}، ربما لأن الطعام الواحد يسبب الملل، فلابد من التنويع! علماً؛ أنهم استبدلوا ايضاً أشياء أخرى بما هي دونها، وأبرزها؛ التوحيد.
البديل.. الحل
من أبرز ما تميّز به الإسلام، كعقيدة وفكر، مواكبته لتطور الانسان في فكره و وسائل حياته، فهو جرب شرائع وقوانين ونظريات عدّة خبرها في زمانها، فكان لابد من جديد يواكب الزمن، ويسدي له خدمة أكبر وأفضل، ليس فقط هذا، بل توصل علماء ومفكرون الى أن القرآن الكريم وسيرة رسول الله والأئمة المعصومين، تمثل منظومة تشريعية وأخلاقية متكاملة قادرة على تنظيم حياة الانسان على مر الزمن.
هنالك نوعين من الحل قدمه الإسلام منذ بزوغ فجره، حيث استبدل شيء بآخر لينهي أزمة انسانية وأخرى أخلاقية في المجتمع، النوع الأول: اتسم بالحالة الوقتية مثل الرقّ، فجاءت المعالجة تدريجياً غير صادم لمجتمع ذلك الزمان، بتشريع عقوبات لمن يتجاهل أحكام الله بأن يعتق رقبة (عبد)، كالافطار المتعمد في شهر رمضان، وما أشبه، فكان الحل الجذري والرائع ليكون المسلمون كلهم أحراراً وسواسية كأسنان المشط كما كان طموح نبيهم الأكرم، صلى الله عليه وآله.
أما النوع الثاني: فقد اتسم بالحالة المستدامة التي تحتاج تفعيل وتفاعل مستمرين، وهي؛ مشكلة الغريزة الجنسية، فكان البديل للزنا والإباحية في العهود الماضية؛ الزواج، وصدر الهتاف النبوي المدوي بأن "ما بُني بناء في الإسلام أفضل من الزواج"، فهو لُبنة لبناء المجتمع الكبير، وفي نفس الوقت هو عامل تفعيل للاقتصاد، بأن "استنزلوا الرزق بالزواج".
وهكذا الأمر ينسحب على صغائر الأمور في حياة الانسان، حتى لفظ التحية والسلام، صاغها بشكل جميل؛ رسول الانسانية فصارت: "السلام عليكم و رحمة الله وبركاته"، بعد أن كانت؛ "أنعم صباحاً"، او "أنعم مساءً"، وعندما جاء عُمير بن وهب، أحد وجوه المجتمع المكّي، الى رسول الله قال: "أنعموا صباحاً"، فقال رسول الله: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عُمير؛ بالسلام، تحية أهل الجنة"، فصارت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأن تقول للمتزوج: "على الخير والبركة" بدلاً من "بالرفاء والبنين"، ومسائل البيع والشراء واستبدال الربا بحرية العمل والتملك لمكافحة الفقر والاستغلال، والقائمة تطول، إنما هذه للإشارة الى أن النظام الاسلامي جاء ببدائل للحل وليس لفرض ما هو أدنى بالذي هو خير للانسان مطلقاً. ولكن!
الذي حصل التنكّر لهذه الهبة السماوية والفرصة الحضارية الاستثنائية من أمة الإسلام –للأسف- من خطين متوازين؛ الأول: الحكام من بداية المسيرة وحتى اليوم، ممن وجدوا في قوانين الإسلام خسارة لمصالحهم، مثلاً؛ قانون "الأرض لمن عمرها"، وهو قانون اقتصادي وتنموي رائد في تاريخ الحضارة الانسانية، فوقفت الانظمة الحاكمة أمامه، وجعلت تملّك الانسان للأرض للزراعة والعمل والسكن مشروطاً بإذن الدولة كونها المالك للأرض وليس الانسان، ثم تعاقبت القوانين المصطنعة بتسديد الرسوم والضرائب، ثم الرشاوى للحصول على الأرض!
والخط الثاني، مع غير قليل من الغرابة؛ الناس في معظمهم، فلم يستوعبوا، او يتحملوا قانون "البيع الجائز"، أي يحق للمشتري إعادة البضاعة الى البائع لأي سبب، فالبيع والشراء عقد غير ملزم، وكذا قضية الزواج والتقليل من المهر، وهي مسألة ذات علاقة عضوية بالمجتمع والأمة، وبتفرعات كثيرة تمسّ الأمن الاجتماعي، والأخلاق العامة، فالناس في الوقت الحاضر يمارسون الزواج وفق أعراف وتقاليد وقوانين خاصة تمت صياغتها في أزمان وظروف مختلفة، وليس وفق ما أقرّه بصراحة؛ القرآن الكريم، وبينه رسول الله، صلى الله عليه وآله.
البديل المفروض!
إن استبدال الذي هو أدنى يعني أننا نقبل بالقشور القابلة للاهتزاز والتغيّر في كل حين، بينما الذي هو أسمى يرتبط بجذور عميقة في واقع الحياة، مع ارتباط عضوي بفطرة الانسان، فمن يزهد بهذا عليه ان يتوقع المكاره من بدائل مصطنعة يجهل خلفيتها ومدى مطابقتها مع وضعه النفسي والاجتماعي، فربما ينجح الأمر، وربما يحصل الاصطدام وتقع الخسائر.
فعندما لا نفهم معاني العفّة للرجل في النظر، وعند المرأة في ملابسها ومظهرها، ولا نعي بشكل عام فلسفة الحجاب، فمن الطبيعي أن تُفرض علينا بدائل أخرى تكون الى جانب العباءة السوداء التي باتت مظهراً شكلياً للحجاب –على الأغلب مع وجود المؤمنات الواعيات للموضوع- بأشكال مختلفة، كأن تكون "الجبة الاسلامية"، ثم تأتي الينا البدلة الرسمية المشابهة لبدلة الرجل؛ "البنطلون والجاكيت" مع غطاء الرأس بألوان جميلة تكون متناسقة مع ألوان البدلة!
وعندما لا نفهم معاني الدعاء الى الله –تعالى- والاحاديث من العلماء والخطباء ذات المضامين الانسانية المثيرة للمشاعر والمحفزة على فعل الخير وتهذيب النفس، فمن الطبيعي تقبّل مقاطع فيديو لكلمات من دعاء لمعصوم، ربما، او احاديث لخطباء المنبر الحسيني، او حتى مقاطع من كلام لمراجع الدين، مع خلفية موسيقية هادئة، بآلات النايّ، او العود، او الكمان! بدعوى إعطاء مقطع الفيديو جاذبية اكثر للسمع والنفس!
وقد كتب أحد المتصدين لأمر الثقافة والوعي في المجتمع أعرب عن استيائه من اختراق الموسيقى للمساجد والمحافل الدينية والمناسبات، كما لو أنها اصبحت جزءاً لا يتجزأ من التغطية الاعلامية لأي نشاط ديني او اجتماعي، مثل حفلات التكليف للبنات، وربما ينبري البعض لتسوية الموقف من خلال "الاعتدال"، او "الوسطية"، بين الاباحية والطرب، و"الزمّت" والانغلاق الذي يدّعيه هذا البعض، بينما الثقافة الاسلامية بريئة مطلقاً من أي تزّمت او تعصّب أو طرح "اسقاطي" للأفكار الدينية إنما ينشد العقل والمنطق بشرط الاستفادة المثلى من هذه الهبة الإلهية.
لست من دعاة التبرّم والتشكّي بغية إلغاء الآخر لنستريح منه، فهو موجود في كل الاحوال، يظهر في الساحة ببدائله الثقافية بأشكال مختلفة إن اليوم أو غداً، كما ظهر أول مرة في تاريخنا الاسلامي على يد المأمون العباسي الذي استبدل الفكر الاسلامي بالفكر المستورد والمترجم، إنما ندعو الى العودة للقرآن الكريم والى سيرة النبي الأكرم، والأئمة المعصومين، عليهم السلام، وما أقروه من نظم وقوانين لصياغة ثقافة متكاملة لحياتنا، حتى لأصغر الأمور المتعلقة بنظام التغذية وتناول الطعام، والنظافة، وآداب المعاشرة والطريق، والعلاقات الجنسية والأسرية، علّنا نهتدي الى سواء السبيل.
اضف تعليق