وبين اليأس والاصرار، صرت حين أسافر الى أي بلد في العالم، يشغلني همّ الذهاب الى القرى القريبة من المدن، الشيء الذي أدهشني وعزز يقيني من حقيقة وجود الدولاب، ماكنت اسمعه من حكايات هناك، ظلت تكمل ما كان ينقص حكايات أهلنا عنه، انهم يتحدثون عن الدولاب نفسه...
قيل لي إنه موجود في المكان قبل أن توجد القرية وتلتئم بيوتها التي بدت مع الزمن، كما لو إنها تحتضنه.. دولاب عظيم يدور بشكل مستمر وتلقائي، ينزل نصفه لأعماق الأرض والآخر يشكل نصف قبة، تعلو في السماء وتشطر القرية الى نصفين..
لم أنتبه اليه الاّ بعد أن كبرت وأصبحت صبيا، لكن أهلي كانوا يحذروني من النظر الطويل اليه، إذ قالت لي أمي إنه يتلقف الذين يقتربون منه أو ينظرون اليه بإستمرار ويهبط بهم الى أعماق الأرض ولن يعودوا .. أساطير كثيرة سمعتها عن هذا الدولاب الذي ملأ قلبي خوفا منذ الصغر، منها أن أهل القرية حين تفرقوا عن ديارهم الأصلية وتاهوا بعد جفاف عمّ الأرض، سمعوا بأن هناك دولابا يهبط في الأرض ويعلو للسماء فيجلب معه الماء من الأعماق ويسقي الأرض، وانه ظهر فجأة في ليلة موغلة بالقدم، عندما كان أحد الأولياء الصالحين، مع عائلته يقطعون الطريق الى مكان يقصدونه، فمكثوا في المكان المقفر بعد أن ضلوا الطريق، وتقطعت بهم السبل، حينها صلّى الولي الصالح ورفع كفّيه الى السماء يدعو الرب أن يغثهم، فانتصب الدولاب فجأة وراح يدور ويدلق الماء في المكان، فشربوا وشربت حيواناتهم واخضرّ كل شيء من حولهم، ثم صار المكان مزارا للناس بعد أن طوى الزمن حكاية الولي الصالح، لكن الدولاب بقي يدور، نصفه في السماء ونصفه الآخر في جوف الأرض ...
بعد أن اتسعت مساحة القرية وباتت كبيرة جدا، ابتعدت أغلب بيوتها عن الدولاب ولم تعد تهتم به، أو إن كثرة الحكايات عنه جعلت اغلب الناس يرونه محض سراب يتراءى للبعض، وان الآمر لايعدو كونه أثرا قديما ليس فيه ما ينفع الناس اليوم، وان المشدودين اليه هم ممن يحبّون التعلق بالحكايات والقصص المثيرة لا أكثر.
لكن كثيرين يؤكدون إن الدولاب حقيقة وانه مازال منتصبا وسط القرية تماما، وإن البقية الباقية من المؤمنين والذين يخشون الله يقفون عند كل غروب يتأملون الدولاب أو طيفه، ويتضرعون للرب ان ينجيهم من عذاب الآخرة، فالدولاب أثر من آثار أهل الفضيلة والإيمان، وواحد من كراماتهم ... حين تقدم بي العمر شغلتني كثيرا حكاية الدولاب هذه، وصرت التقي مثقفين وباحثين، أسألهم عن حكاية الدولاب التي كنت أراه في قريتي وما حدثني أهلي عن أسراره وأساطيره التي تعددت، وظلت تلتقي عند نقطة واحدة، هي إن الدولاب حقيقة وإن حجمه ومتى وجد وكيف، ليست بالأمر المهم، أو هكذا قال لي أحد الباحثين ممن شغلتهم مثلي حكاية الدولاب وأصله حتى اهتدى الى إنه حقيقة وإن البحث عن تحديد تاريخ لوجوده غير مجد، لكثرة الروايات وعدم أهميتها ..
مساء أحد الايام كمنت في مكان ما في القرية، وصرت اراقب الدولاب وهو يعلو ويهبط .. هو أمامي حقيقة وليس خيالا كما يقول البعض، دولاب متصل الأضلاع وبحلقة عملاقة تهبط لتغوص في الأرض وترتفع، الاّ أن الذي أفزعني هو أني رأيت بشرا وقد تعلقوا به، وراحوا يرتفعون معه حتى تلاشوا من فرط ما يصله الدولاب من علو ثم هبطوا معه وغاصوا في الأرض ولم يخرجوا !
رحت ادقق اكثر في المشهد الذي صار يتكرر أمامي، ودقات قلبي أخذت تتسارع بعد أن استبدّ بي الخوف، بينما الناس من حولي يمارسون حياتهم الطبيعية .. هل كنت في غيبوبة أو حلم .. لاأدري ..؟ لكن الذي أصبحت متيقنا منه ان الدولاب حقيقة أمامي .. رأيت أناسا أعرفهم رحلوا منذ سنين وقد تعلقوا بالدولاب ثم غاصوا ولم يخرجوا، رأيت جدي الذي أتذكر ملامحه جيدا، كوني اصبحت صبيا أعي الحياة حين رحل عصر أحد الأيام في القرية .. ثم رأيت اشخاصا آخرين أعرفهم وبأعمار مختلفة، يتجهون الى ممارسة اللعبة التي لعبها جدي مع الدولاب أو التي لعبها الدولاب معه .. حاولت أن أمنعهم فصرخت بهم بقوة أن لايقتربوا، لكنهم لم يسمعوني، ركضت باتجاههم وقد تيقنت من إن الدولاب يبتلع الناس فعلا كما خوفوني أهلي منه، ركضت وركضت وركضت .. لكني لم أصل وأيقنت إني لو بقيت أركض العمر كله لم أصل .. لقد تقطعت انفاسي والدولاب ينأى بعيدا كإنه بات في قارة بعيدة .. شعرت بالعرق يبلل ثيابي، وجسدي يختض خوفا مما رأيت.
لقد شغلتني تماما حكاية الدولاب هذا، وها أنا في منتصف العمر أبحث عن حلّ لهذا اللّغز الذي حيّرني .. بعد أن قصصت حكايتي معه لصديقي الباحث في الميثولوجيات، شعرت إنه يسخر مني في ردوده على أسئلتي العديدة أو بالأصح مشاهداتي وما اعتقدته ذلك .. قال؛ يبدو إنك استغرقت في الولوج بعوالم هذا الوهم وصرت تعشقه ولعلك ذبت فيه، فصارت تتراءى لك أشياء تعتقدها صحيحة وهي ليست كذلك .. أتمنى عليك أن تتجاوز هذا الأمر، لأنك تبحث عن وهم غير موجود خارج رأسك أبدا..!
وبين اليأس والاصرار .. صرت حين أسافر الى أي بلد في العالم، يشغلني همّ الذهاب الى القرى القريبة من المدن .. الشيء الذي أدهشني وعزز يقيني من حقيقة وجود الدولاب، ماكنت اسمعه من حكايات هناك، ظلت تكمل ما كان ينقص حكايات أهلنا عنه، انهم يتحدثون عن الدولاب نفسه، حتى خيّل لي إني استمع لحكاية واحدة وان اختلفت فيها بعض المسميات .. وايقنت ان الدولاب الذي انتصب وسط قريتنا وعجزت عن الوصول اليه ركضا، سأبقى أركض خلفه بين البلدان .. ولا أعتقد اني سأصله ..!
اضف تعليق