ترامب: فاشي عابر ام أصيل
ازدادت معدلات القلق المحلي والدولي من ثبات المرشح دونالد ترامب، وتصدره المشهد الانتخابي في الحزب الجمهوري، وما رافقه من انسحاب ما تبقى من منافسيه. فوزه يعادل هزيمة مدوية للمؤسسة الحاكمة في الحزب الجمهوري، التي ما برحت تستحدث حلولا قصيرة الأجل لإقصاء ترامب، او محاصرته، على اقل تعديل.
ترامب، في واقع الأمر، لا يشكل لغزا عصيا على الفهم بصرف النظر عن الموقف من آرائه السياسية الارتجالية والمثيرة للجدل، وسرعة انسحابه امام العواصف.
اثبت ترامب، بكل بساطة، انه أفلح في استثمار جملة تراكمات من الاحباط والنقمة الشعبية لدى قطاعات واسعة ضد اداء المؤسسة الحاكمة لا سيما فشلها في ادارة الازمات الاقتصادية المتعاقبة، وتلاشي امتيازات الطبقات الوسطى من المجتمع. علاوة على ذلك، النبض الشعبي العام لا يزال يعارض مسلسل الحروب والعدوان والتدخل الاميركي في شؤون الآخرين، بخلاف توجهات المؤسسة الحاكمة.
سياسات ترامب المعلنة، ويبدو انه لا يضمر غيرها، هي اصدق تعبير عن الذهنية السياسية في جنوبي الولايات المتحدة، المنطقة الاشد محافظة وعنصرية، التي تجاهر بعدائها للمهاجرين، من اي صنف او لون، وتجد تجلياتها في اعماق الحزب الجمهوري ونزعة العداء للإسلام التي دأبت اوساط عديدة على استثمارها منذ عقد التسعينيات، على الاقل، ومقولة صراع الحضارات.
"كراهية" المؤسسة الحاكمة لترامب، يحيلها البعض الى قلق النخب المصرفية والمالية من مضيه في تحقيق تعهداته الانتخابية التي تطيح بسياسات التوافق بين الحزبين على "عدم المساس بمصالح ومزايا شريحة 1%" من اشد اثرياء المجتمع الاميركي. فضلا عن تشنجات معسكر الحرب ضده لوعوده بتخفيض النفقات التسليحية الى النصف، وعدد آخر من قضايا "البقرة المقدسة" الحيوية للوبيات والشركات الضخمة. بيد ان هذا السياق العاجل لا ينبغي ان يؤدي لإعفاء ترامب من حاضره وماضيه كشخصية انتهازية كبرى تعتاش على عذابات القسم الاعظم من المجتمع.
علق احد اهم مفكري التيار اليميني في الحزب الجمهوري، روبرت كيغان، على ظهور وصعود ترامب، في شهر شباط الماضي، قائلا بمرارة "ترامب ليس ندبة حظ، ولم يختطف الحزب الجمهوري او تيار المحافظين، ان صحت التسمية. بل هو صنيعة الحزب، ووحش فرانكشتاين، دبت فيه الحياة عبر الحزب، وترعرع داخل الحزب والآن اضحى قوة معتبرة باستطاعته تدمير صانعيه."
جدير بالإشارة الى ان سلم الاجور للعاملين في اميركا لم يطرأ عليه تغيير حقيقي منذ عام 1973، وفق دراسات الاخصائيين الاقتصاديين، مما احال شرائح اجتماعية بأكملها خارج سياق "الحلم الاميركي" بالرفاهية. ولعل اتساع تلك المسافة في السلم الاجتماعي والفرص الاقتصادية هو أحد اهم العوامل التي ادت لانسلاخ "سكان الريف من البيض" عن المؤسسة والتحول نحو ترامب؛ مقابل توجه الشرائح المثقفة والمدينية لتأييد المرشح النقيض، بيرني ساندرز، عن الحزب الديموقراطي.
وامتدادا، لا تخشى المؤسسة الحاكمة، خاصة في الحزب الديموقراطي، من بروز ساندرز وتعمل باطمئنان ان منافسته هيلاري كلينتون "ستحمي مصالح شريحة 1%،" الأمر الذي قد يشهد تحولا في مناصري الحزب الجمهوري للاصطفاف خلف كلينتون لاحقا – كما يراهن ساسة الحزبين. بعضهم ذهب بعيدا في توصيفه للفارق بين ترامب وساندرز بالقول انه خيار بين "الفاشية والاشتراكية."
على الشاطئ المقابل من المحيط الاطلسي، تقدم حزب الحرية اليميني في النمسا الى المرتبة الاولى في الانتخابات، وحصل مرشحه الرئاسي نوربرت هوفر على اعلى نسبة تأييد، 36.4% من جمهور الناخبين، بتبنيه سياسة متشددة ضد موجات اللاجئين الى اوروبا، تقدر اعدادهم بنحو 100،000 لاجيء سياسي في النمسا وحدها. منصب الرئاسة النمساوي تناوب عليها الحزبين الرئيسيين، الحرية والخضر، منذ نحو 65 عاما.
حركة المعارضة للمؤسسات الحاكمة تمتد الى مناطق متعددة من دول الاتحاد الاوروبي، وغير محصورة في النمسا او اليونان فحسب، بل تشهد فرنسا والمانيا وهولندا وبلجيكا وسويسرا اضطرابات سياسية، كما بريطانيا ايضا.
سعى الرئيس اوباما في زيارته الاخيرة لبريطانيا، وخلافا للأعراف الديبلوماسية المعتمدة، التدخل في قرار وتوجه اغلبية بسيطة من المجتمع البريطاني التي تعد للتصويت على الانسحاب من الاتحاد الاوروبي، مما اثار موجة ردود فعل قاسية "لصلافة الاخ الاكبر." دول اخرى تترقب قرار بريطانيا لتتبعها في الخروج من قفص الاتحاد، وعلى رأسها اليونان واسبانيا والبرتغال، وتمرد مقاطعة كاتالونيا في اسبانيا التواقة للاستقلال عن مدريد.
صيف العام الجاري يعد بكونه موسم استياء وضجر من النخب السياسية في الولايات المتحدة واوروبا على السواء.
بروز ترامب
غني عن القول ان معظم وسائل الاعلام والنخب السياسية عاملت ترامب باستخفاف وازدراء كبيرين، منذ البداية، ليس اقلها لخبرته السطحية في الحياة السياسية والعمل مع القوى العالمية، وعدم تقيده بالأصول والاحكام المطلوب اتباعها من قبل اي مرشح رئاسي، وعلى رأسها التزام الحكمة والكياسة الديبلوماسية.
وسرعان ما اخترق ترامب كافة التوقعات وبرز مرشحا مميزا عن الحزب الجمهوري، يحظى بشعبية واسعة وبين قطاعات متعددة.
من اهم العوامل التي ادت لبروز "ظاهرة ترامب" ثلاث محطات داخلية بحتة:
الاولى، تنامي معدلات عدم الثقة الشعبية من الهياكل والمؤسسات الحكومية بشكل عام، اذ اشارت استطلاعات الرأي مطلع العام الجاري ازدياد نسبة الناخبين الجمهوريين الساخطين على الحكومة بمعدل 3 اضعاف عن قاعدة الناخبين الديموقراطيين، 32% مقابل 12%. وتتسع الفجوة ضد المؤسسة بين اشد مناصري الحزبين، 42% من الجمهوريين مقابل 11% من الديموقراطيين. اما مقدار السخرية والازدراء للنخب السياسية فقد بلغت معدلات غير مسبوقة: 89% بين الجمهوريين، 72% بين الديموقراطيين.
وعليه، باستطاعتنا القول ان مشاعر عدم الثقة تطال كل شيء له علاقة بالحكومة الاميركية، الرئيس اوباما ومنافسيه في الحزب الجمهوري على السواء، مقابل نسبة متدنية لا تتعدى 19% لا تزال تعول على دور ومكانة الساسة والحكومة في المجتمع، وتمثل ادنى نسب على امتداد ستة عقود من الزمن – وفق بيانات معهد بيو.
ترامب، كما اسلفنا، ولج باب الاحباط ودفعه على مصراعيه ليجد آذانا صاغية ونفوسا تواقة للنيل من سيطرة التيارات السياسية التقليدية، واستطاع الحفاظ على نسبة دعم بين الناخبين الجمهوريين لا تقل عن الثلث.
المحطة الثانية، ترامب كان معروفا وليس طارئا على المشهد السياسي الاميركي، وتميز بعدم توجهه لجمع تبرعات مالية لحملته، في البداية، معلنا انها بتمويل ذاتي، بخلاف اقرانه الآخرين من المرشحين والسياسيين. بل اخترق التغطية الاعلامية ببراعة والتي رافقته في كافة محطاته مجانا واضحى يملي عليها احيانا ما يعتقده قضايا هامة بالنسبة لحملته.
ارتكب ترامب عدد من الهفوات والاخطاء السياسية، بيد ان الوسائل الاعلامية حاذرت الدخول في مواجهة معه بخلاف الحملات السياسية الاخرى. تباهى ترامب بإنجازاته الاقتصادية كتذكرة أمان لدخول المشهد السياسي، مذكرا بكتابه الصادر عام 1987 بعنوان "فن الصفقة،" ابان عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان. واستغل ترامب تلك الخلفية المتواضعة، وحضوره على الشاشة التلفزيونية للترويج لمشروعه الاقتصادي، للنيل من منتقديه.
المحطة الثالثة، براعته في تقنين غضب القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري ضد تكلس المؤسسة الحزبية. بل انحاز بعض التيارات الحزبية لجانبه مبكرا مما وفر له حماية سياسية ضد قادة الحزب.
لا يجوز اغفال دور رموز المشهد الاعلامي للمحافظين في دعم ترامب، عن دراية او بخلافها، خاصة لعدائهم المتأصل للمهاجرين والاقليات وما يسمونه هجرة فرص العمل خارج البلاد سعيا وراء اليد العاملة الرخيصة. بل هم مصدر الانتقاد لقيادات الحزب الجمهوري لتقاعسهم عن مناهضة سياسات الرئيس اوباما.
ابرز تلك المنابر والشخصيات: المعلق على الراديو راش ليمباو؛ المرشحة لنائب الرئيس السابقة سارة بيلين؛ المعلق التلفزيوني شون هانيتي؛ والشخصية دائمة الحضور لدى المحافظين آن كولتر. وبلغ الأمر بالأخيرة مبلغه احتفالا بانسحاب المنافس تيد كروز، ذو اصول كوبية، من السباق بعد خسارته ولاية انديانا قائلة "استطاع اميركي هزيمة مهاجر."
في سياق الانفاق المالي، حافظ ترامب على شح انفاقه بخلاف منافسيه وخصومه، مستندا الى الدعم الاعلامي الهائل ومعظمه مجانا، مكنه من تفوق مناوراته على حملات خصومة الانتخابية التقليدية، سالفة الذكر.
ايضا، استطاع التغلب على العقبات التي وضعتها قيادات الحزب الجمهوري في طريقه للترشيح في وقت مبكر. يشار الى ان الحزب راهن بداية على المرشح جيب بوش، الذي اضطر للانسحاب المبكر من السباق بعد اداء باهت محرج؛ ثم راهنت على السيناتور ماركو روبيو الذي لم يكن أفضل حالا من سلفه وقدوته السياسي بوش. واسقط بيد قيادة الحزب بعد نتائج ولاية انديانا، الاسبوع الماضي، واقرارها على مضض بحتمية ترشيح دونالد ترامب.
تبارى عدد من قيادات الحزب السياسية والفكرية ورموز التمويل في اعلان عدم رضاهم عن ترامب ونيتهم عدم المشاركة في الانتخابات، على اقل تعديل، بل ان بعضهم اشار بوضوح الى الادلاء لصالح المرشحة هيلاري كلينتون نكاية بترامب. بيد ان الولاء الحزبي "الاعمى" يجد صدارته بعد فترة قصيرة من تلاشي الغضب والاحباط وسيدلي اولئك بأصواتهم الى جانب مرشحهم اللدود دونالد ترامب.
بيانات استطلاعات الرأي قد تسهم في حسم قرار بعض المترددين لصالح ترامب، لا سيما وان النتائج الاولية تشير الى امكانية فوزه على منافسته كلينتون، بنسبة 2%، كما اشار استطلاع راسموسين مطلع الاسبوع الجاري.
لماذا خسرت قيادة الحزب الجمهوري
استاذ السياسة الدولية في جامعة تافتس، دانيال دريزنر، اوجز المشهد السياسي ومراهنات قادة الحزب الجمهوري بالقول "استند قادة الحزب الى فرضية الثقة الزائدة بالنفس ادت بها للانتظار والمراهنة على تهور ترامب وتدمير حملته الانتخابية بنفسه، بيد ان المرشح الملياردير حافظ على فوزه المتتالي نظرا لعدم توفر تحالف جدي من الجمهوريين لكبح جماحه، حينما كانت هناك فرصة متاحة. وبالنتيجة، فقد هاجم المرشحون "المعتدلون" بعضهم بعضا حتى تشاركوا بالسقوط نحو الهاوية، ولم يبقى سوى (تيد) كروز و(جون) كاسيك في السباق واللذين فقدا كل حظوظهما للفوز بترشيح الحزب." واضاف دريزنر ان مراهنة قادة الحزب على نجاح مناورات سياسية داخل المؤتمر تؤدي لإقصاء ترامب والدفع بمرشح بديل دفنتها رياح انتخابات انديانا.
مصير تيد كروز السياسي، بعد هزيمته وانسحابه، مبهم الى حد بعيد، لكنه لا يخفي نيته الوثوب الى المنصب الشاغر في المحكمة العليا خاصة ان حالف الحظ دونالد ترامب بالمنصب الرئاسي ولديه صلاحية ترشيح من يراه مناسبا. لكروز سجل حافل بالعمل القضائي فقد شغل منصب مساعد لاحد قضاة المحكمة العليا سابقا، ورافع امامها، وهو المرشح الامثل لأشد التيارات المحافظة في الحزب الجمهوري خلفا للقاضي انتونين سكاليا.
المرشح لنائب الرئيس
قد يلجأ ترامب للبحث عن شخصية متمرسة سياسيا تعوضه نقص خبرته في هذا المضمار.
من بين الشخصيات والكفاءات المحتملة: رئيس مجلس النواب الاسبق نيوت غينغريتش، ومنافسه السابق حاكم ولاية نيو جيرسي كريس كريستي، بيد ان الاخير لا يحظى بدعم التيار المحافظ الاقوى داخل الحزب. اما غينغريتش فيشفع له سجله السابق ودهاءه السياسي وشعبيته الطاغية في صفوف الحزب الجمهوري والذي وصفه ترامب بانه "سيعينه على اصدار تشريعات جديدة، ولديه الكفاءة لتبوء منصب الرئيس."
ايضا، من بين المرشحين للمنصب حاكم ولاية فلوريدا ريك سكوت الذي كان من اوائل مؤيدي ترامب وساعده في الفوز بأصوات الولاية مطلع شهر آذار الماضي. سكوت يشاطر ترامب ثراءه وحظوظه العملية والذي تنطح لقيادة الحزب الجمهوري في الولاية وكسب منصب حاكمها بالرغم عنها؛ فضلا عن ان ولاية فلوريدا هي احدى الولايات المتأرجحة التي يعد الفوز فيها حيويا لمنصب الرئيس.
بعض المراقبين ينظر بعين العطف الى منافس ترامب السابق ماركو روبيو، الذي انسحب من السباق مبكرا ولم يعد له حظوظ قوية في منصب الممثل عن ولاية فلوريدا. ونظرا لاصوله الكوبية فقد يؤدي خدمة جليلة لترامب ليشكل جسرا لحشد الجالية الناطقة بالاسبانية والتي استعداها ترامب مبكرا.
وقد يلجأ ترامب الى القفز عن كل ذلك والتمسك برئيس حملته الانتخابية السيناتور السبعيني المتشدد جيف سشينز، عن ولاية الاباما، لمنصب نائب الرئيس وفاء له.
بعض الاعلاميين المخضرمين عن الحزب الجمهوري، بيل او رايلي، ناشد ترامب اختيار حاكم ولاية نيو مكسيكو، السيدة سوزانا مارتينيز، لمنصب نائب الرئيس لضمان فوزه في الانتخابات العامة.
مارتينيز هي اول امرأة من اصول لاتينية تشغل منصب حاكم ولاية، وأيدت المرشح ماركو روبيو مبكرا، وانضمت للجوقة المناهضة لترامب في تلك الآونة. بيد ان الخيارات السياسية لا تعرف حدودا مصطنعة.
من المرجح الا يقدم ترامب على اختيار مرشحه لمنصب الرئيس قبل انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري في شهر تموز/يوليو المقبل، وسيستغل الفترة الزمنية لإيلاء الأمر دراسة معمقة، كما يعتقد، ويميز نفسه عن خيار جون ماكين المتسرع في اختيار سارة بيلين عام 2008.
اضف تعليق