تختلف الروايات لناحية تحديد زمن انطلاق ونشأة الميليشيات المسلحة في الداخل الاميركي، كتعبيرات عن شرائح اجتماعية مناهضة لنفوذ وسيطرة الدولة المركزية، بيد انها اتخذت طابع الاشتباك المباشر مع اجهزة الدولة، ربيع عام 1995، حين استهدف مجمع مباني حكومية في مدينة (اوكلاهوما سيتي)، ما رافقه من تقصي وتحقيق كشفت عن وجود منظم لوحدات مسلحة جلها من التيارات اليمينية المتشددة، قوامها الشرائح الشعبية المهمشة من البيض، بتسليح وتدريب من افراد ومجموعات انخرطت في القوات المسلحة الاميركية – بعضها بهدف اكتساب الخبرة القتالية وتدريب الآخرين.
في الآونة الاخيرة، ومنذ عامين تقريبا، اشتبكت بعض تلك المجموعات مع الاجهزة الحكومية الفيدرالية في الشطر الغربي من الولايات المتحدة، محورها "حق التصرف الفردي" بمساحات شاسعة من الاراضي الاميركية المملوكة للدولة بغرض استغلالها في رعي قطاعات البقر والماشية دون الحصول على اذونات مسبقة او دفع ثمن مقابل ذلك. الطبيعة الوعرة لجبال الروكي حصرت استغلال الاراضي كمراعي للماشية، والبعض انشأ مراكز مدنية عليها.
جدير بالذكر ان الدولة المركزية (الفيدرالية) تمتلك نحو 47% من كافة مساحة الاراضي "البرية" في غربي القارة الاميركية، وفق بيانات يومية نيويورك تايمز، 5 يناير الجاري؛ وتصل نسبة ملكيتها الى اغلبية اراضي ولايات "اوريغون ويوتاه ونيفادا." في الخلفية يتجدد الصراع بين الدولة الفيدرالية "والمستوطنون" البيض في الشطر الغربي من القارة منذ ولادة النظام الاميركي، والتي استولت عليها القوات الفيدرالية بعد طرد السكان الاصليين.
غضت الحكومة المركزية الطرف عن استثمار مربي الماشية لمساحات شاسعة من الاراضي المذكورة لمصالحهم الخاصة، لفترات زمنية طويلة، بل وفرت الحماية لاولئك ضد مقاومة السكان الاصليين ضمن رؤيتها "لتوزيع" الاراضي، الأمر الذي عاد عليها "بنتائج ايجابية مذهلة في اواسط البلاد الغنية، شرقي ضفاف نهر الميسيسيبي." في تلك المنطقة، نسبة ممتلكات الدولة المركزية لا تتعدى 4% من مجموع الاراضي البرية – ايضا وفق مصادر صحيفة نيويورك تايمز.
شهدت سياسات الدولة المركزية تعديلات متعددة في العقود الاخيرة على آلية منح الاراضي للاستثمار الريفي، كمزارع او مساكن، وبلورت برامج فيدرالية تتيح لها التحكم والتصرف بما تبقى من اراضي تحت سيطرتها؛ وهي التي اضحت بؤرة صراع مع الميليشيات المسلحة المنتشرة بكثرة في المناطق الريفية البعيدة.
اوكلت مهام الاشراف والتصرف الى "هيئة ادارة الاراضي،" التي تتحكم بالإشراف على مساحات شاسعة تبلغ مساحتها الاجمالية 247 مليون فدان، مليار كلم مربع، تعلن عنه "تأجيرها" لمزارعي ومربي الماشية، وكذلك لشركات المناجم والتنقيب عن النفط والغاز.
اخر تعبيرات التحدي برزت في اقصى الشمال الغربي من الاراضي الاميركية في ولاية اوريغون بإقدام مجموعة مسلحة "متمرسة" باحتلال والسيطرة على مباني حكومية تعود لمحمية للحياة البرية، واستقدامها اعوان ومسلحين من مناطق اخرى كنوع من العصيان المدني.
الميليشيات اتخذت قرارها على خلفية رفضها الامتثال لقرار قضائي بسجن اثنين من كبار مربي الماشية، دوايت هاموند ونجله، لاضرامهما النار في اراضي مملوكة للدولة، قبل بضع سنوات. اضفت ادارة الرئيس اوباما على الحادثة بعدا سياسيا ووصفته بعمل ارهابي مما يتأتى عليه اصدار احكام بالسجن لمدة طويلة بحق الفاعليْن؛ ونزل القاضي الفيدرالي عند رغبة او ضغوط المجموعات المتطرفة واصدر احكاما مخففة بالسجن لمدة خمس سنوات، مما دفع الحكومة الاميركية اللجوء الى استئناف القرار.
في هذا السياق، تسابق عدد من المسلحين المؤيدين لنزعات تحدي الحكومة الاميركية للتطوع بحماية مربي الماشية ان ابقوا على قرارهم برفض احكام السجن. وجاءت المفاجأة من قبل المتهميْن باعلان قبولهما الامتثال لقرار السجن، مما شكل حرجا للمسلحين الذين ابقوا على قرارهم بالتحدي.
وعليه، اقدم نحو 20 من اعضاء الميليشيات المسلحة على "احتلال" مقر المحمية البرية، مالهور، الذي كان خاليا من الموظفين، ولم يواجهوا اي مقاومة. منطقة المحمية تمنع رسميا التصرف بها واستثمارها لاي هدف كان باستثناء حماية الحياة البرية؛ بخلاف المزارع التي تسببت في المواجهة مع كلايفن بندي، 2014، التي كانت مصنفة لرعاية الابقار والمواشي مقابل مردود مالي للدولة التي "تؤجر الاراضي بأثمان متدنية لأغراض الماشية والتنقيب،" كما ورد في ادبيات "هيئة الخدمات البحثية للكونغرس."
بخلاف تحركات الميلشيات السابقة ضد منشآت الدولة، لقيت الحملة الاخيرة تنديدا من قبل مجموعات مسلحة اخرى جنبا الى جنب مع تنديد مرشحي الرئاسة الاميركية من الحزبين؛ فضلا عن معارضة وتنديد عائلتي العنصرين اللذين يقضيان حكم السجن.
المجموعة المحتلة يتزعمها آمن بندي، نجل راعي الماشية الشهير كلايفن بندي ابان تصديه للأجهزة الأمنية المركزية عام 2014 في ولاية نيفادا. واعرب بندي الابن عن جهوزيته واقرانه لاحتلال الموقع "لسنوات عدة ان تطلب الأمر."
من بين الاسماء المعروفة للأجهزة الاميركية دوايت هاموند الذي برز على المسرح الحكومي منذ بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم، واقدامه على التعدي على الممتلكات الحكومية من اراضي وانتهاك قوانين حماية البيئة السارية، واطلاقه تهديدات بالقتل ضد موظفي الدولة العاملين في المحميات البرية. آنذاك، لم يتعرض هاموند لأي عقوبة او ملاحقة من قبل ادارة الرئيس كلينتون، كما كان يفترض، ومضى بتجنيد اعوان له ورفد ميلشياته بالمسلحين "ومضايقة موظفي الدولة" دون رادع.
اخفاق الدولة المركزية باتخاذ اجراءات فورية ضد منتهكي القوانين في الحالة الراهنة لا يجوز تفسيره بعدم رغبتها بذلك او احجامها عن الصدام مع الميليشيات؛ ويرجح انها آثرت التروي باعتمادها على عامل الاحوال الجوية شديد القسوة في مناطق جبال الروكي بولاية اوريغون، الذي سيكفل اخلاء الميليشيات للمحمية دون عناء، لا سيما وان فرص البقاء على الحياة تتراجع بسرعة امام فقدان وسائل التدفئة والموارد الغذائية، التي تمثلت بإطلاق المجموعات المسيطرة نداءات استغاثة بتزويدها بمواد غذائية مهما كانت طبيعتها.
الميليشيات المسلحة العائدة للمجموعات العنصرية من البيض، بشكل خاص، تعتبر ان من حقها "احتلال" المنشآت الحكومية كوسيلة من وسائل العصيان المدني، والتي تزداد وتيرتها طردا مع تنامي قوة الميليشيات.
في زمن تنامي مظاهرات المعادية للحرب الاميركية على فيتنام، سجل في احدى الحوادث احتلال طلاب جامعيين لمركز تجنيد وتدريب في حرم جامعة كولومبيا، عام 1970، شارك فيه وزير العدل السابق في عهد اوباما، اريك هولدر، استمر لمدة خمسة ايام، بادرت اليه منظمة الطلاب السود التي الصقت بها تهمة الاحتلال المسلح. وطالبت قيادات المنظمة ادارة الجامعة بإطلاق اسم المناضل الاسود الذي اغتالته المؤسسة الاميركية الحاكمة، مالكولم اكس، تكريما له.
تعاظمت في الآونة الاخيرة نزعات التحدي بين الادارة الاميركية بشكل خاص وشركات تصنيع السلاح على خلفية "حق المواطن حمل السلاح،" كما ينص عليه الدستور؛ بل صعدت بعض الولايات في الجنوب الاميركي مستويات تحديها للدولة بتشريع حمل السلاح في الاماكن العامة، امعانا في معارضة توجهات الادارة بتقنين السلاح.
اقلية من كبار المزارعين ورعاة الماشية اتخذوا مواقف متباينة مع بندي وهاموند، وادانوا احتلال المنشآت الحكومية، من ابرزهم مايك فاندربوغ، رئيس "ميليشيا ثري بيرسنت،" وايد قرار الحكومة التي تمتلك "الحق المطلق لانهاء الوضع دون اللجوء للعنف.. والخشية من وقوع ضحايا، مما سيسبب باندلاع حريق على المستوى الوطني العام."
تتداخل عوامل الصراع مع الدولة المركزية، ويسعى البعض لإقحام مسألة حق اقتناء السلاح كقضية مركزية. وحين اعلن الرئيس اوباما مطلع العام الجديد عن اجراءات رئاسية تتخذ مفعول القانون للحد من انتشار السلاح، اقدم حاكم ولاية تكساس، غريغ آبوت، على تحدي الرئيس ان كان لديه الجرأة لمصادرة سلاحه الفردي؛ واستطاع استصدار قانون في ذات اليوم يسمح بحمل السلاح في الاماكن العامة، امعانا في التحدي.
استنادا الى المعطيات السابقة المتعلقة بتنامي حوادث تحدي السلطات المركزية، لدوافع متعددة، باستطاعتنا القول ان العام الجديد سيشهد مزيدا من تلك المشاهد والاضطرابات المدنية.
اضف تعليق