قبل عقود ليست طويلة، كان اكثر من خيط يفصل بين الحقيقة والخيال، احيانا تكون مرئية وواضحة شديدة الوضوح، واحيانا تكون ضبابية تحتاج الى تركيز اكبر لاكتشافها، لكنها رغم ذلك تبقى حقائق او خيالا عند تصنيفها.. قبل هذه العقود، واتحدث عن وسائل الاعلام، من صحافة مطبوعة ومن بث تلفزيوني ومن اذاعات، وما بينها من اعلانات تقوم بتسويقها.
الصحافة الورقية الان تعيش لحظات اندثار حبرها الذي امتازت به ، والمحطات الاذاعية ليست كسابق عهدها، من حيث الجماهيرية وبالتالي التاثير، والتلفزيون بدل ان يبقى لسانا واحدا في كل دولة اصبح له عددا من الالسن وعبر تخوم الجغرافيا والزمن التي كان يرتدي معطفها.
قبل عقود كانت الاحداث تقع ولم نكن نعرف بها الا بعد مضي وقت عليها، او حتى لانعرف بها اصلا.. الان تغير واقع المعرفة، فما يقع من احداث قد تجدها قربك لحظة الوقوع، وان كان وجودها افتراضي الا انه يترك اثرا بالغا على حياتك.
اتحدث عن ثورة الاتصالات التي غيرت الكثير من حياتنا واطاحت بالكثير من المسلمات والبديهيات، واصبح التفريق بين الحقيقة والخيال ليس ممكنا ان لم يكن مستحيلا، واصبحت الخيوط الفاصلة بين الحقيقة والخيال لشدة ضبابيتها تلتف حول اعناقنا ولا نستطيع الفكاك منها..
اذا كانت وسائل الاعلام والاتصال تصنع لنا حياة متخيلة قبل عقود وتتيح لنا الهرب لها عبر خيالنا، الا انها في الزمن الراهن اخذت تصنع واقعا افتراضيا نهرب منه ولا يمكن ان نلجأ اليه، لانه واقع مخيف وان كان متخيلا..
يرتبط بصناعة الحدث مفهوم (قديم - جديد) هو التسويق، وان كان في قدمه يحقق غاية لصانعه ولا يعبر الى متلقيه الا في ما يتعلق بمفهوم اخر هو الدعاية والاعلان، الا انه في جديده اصبح يستبيح المتلقي وهو الغرض الرئيسي من صنعه، لتحقيق اهداف اكبر من سابقاتها، وهو اعادة تشكيل العقول.. يمكن ان ان نستشهد بمثال عن الفارق بين صنع الحدث وتسويقه، وهو حيث اندثار الحدث بعد لحظته، واتساع تاثيره بعد التركيز على جزئية صغيرة اعقبت الحدث.
في العام 1988 صدرت في بريطانيا رواية (ايات شيطانية) للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي. بعد 9 أيام من إصدار هذا الكتاب منعت الهند سلمان رشدي من دخول بلادها وتلقى دار النشر الذي طبع الكتاب الآلاف من رسائل التهديد والاتصالات التلفونية المطالبة بسحب الكتاب من دور بيع الكتب. قامت بنغلاديش والسودان وجنوب أفريقيا وكينيا وسريلانكا وتايلاند وجمهورية تنزانيا المتحدة وإندونيسيا وفنزويلا وسنغافورة بمنع الكتاب وخرجت مظاهرات تنديد بالكتاب في إسلام آباد ولندن وطهران وبومبي ودكا وإسطنبول والخرطوم ونيويورك.
انه حدث يقع كثيرا، تظاهرات واحتجاجات، لكن مالفت انظار العالم حادثتان الاولى حرق أعداد كبيرة من الكتاب في برادفورد في المملكة المتحدة في 14 يناير 1989 والحادثة الثانية هي صدور فتوى من الخميني في 14 فبراير 1989 بإباحة دم سلمان رشدي، هاتان الحادثتان لفتتا نظر وسائل الأعلام الغربية بشدة، واصبح همها تغطية اثارها المترتبة عن ذلك.
ردة الفعل الأولية من الإعلام الغربي اتت متعاطفة مع المؤلف حيث اعتبرت أن (التهديدات تجاهه هي تهديد لحرية التعبير).
المؤلف نفسه يؤكد فى حوار له مع مجلة (دير شبيجل) الألمانية أن سبب شهرته ليس روايته (آيات شيطانية) بل سبب شهرته فى الواقع الفتوى التى أصدرها الخمينى بإهدار دمه وتخصيص مكافاة 2.6 مليون دولار لمن يقتله أو يدلى بمعلومات عنه هو ماشهره.
مثل قريب من هذا المثل، وهو الفلم الامريكي المقابلة والذي احتل صدارة الأفلام الأكثر مبيعًا على الانترنت في تاريخ شركة سوني بيكتشرز ، وذلك بعد أربعة أيام من طرحه، وقد بلغت ايراداته حتى اللحظة 15 مليون دينار من تحميله عبر الانترنت فقط، وهويتحدث عن محاولة اغتيال للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون .
لايبتعد هذا الفلم عن صناعة الحدث وتسويقه، بعد ان اعلنت الشركة عن تخليها عن عرض الفلم اثر تعرضها لقرصنة معلوماتية قيل انها من كوريا الشمالية قبل ان يتم الاعلان ان القرصنة من داخل موظفي الشركة نفسها، اضافة الى تلقيها تهديدات من قبل كوريا الشمالية، او هكذا قيل، وقد جاء الدعم للشركة والفلم حتى من البيت الابيض، العديد من المشاهدين اكدوا ان ما دفعهم الى القدوم هو الدفاع عن حرية التعبير.
صناعة الحدث وتسويقه، تقترن بحاجات واهتمامات المتلقي، فهو في الحالتين يؤمن بحرية التعبير بغثها وسمينها، بايجابها وسلبها، بانتهاك حقوق الاخرين او الدفاع عنها، والاشخاص او القائمون على وسائل الاعلام يعرفون تلك الحقيقة جيدا، وبالتالي فهم حين يصنعون حدثا معينا، حتى لو كان قادما من الفراغ، يتوقعون ان يكون تسويقه ناجحا ويحقق اغراضهم.
مثل اخير اسوقه ختاما لهذه السطور، من خلال التقرير الاحصائي الذي اصدرته شركة الاعلام الامريكية (فوكاتف) بعنوان (داعش جعلتنا ننسى كل شيء عن طالبان).
التقرير يعقد مقارنة بين العنف الذي تقوم به حركة طالبان والعنف الذي تقوم به داعش، لتصل الى نتيجة هي ان عنف طالبان يفوق عنف داعش، رغم ان الماثل امامنا والمتصدر للمشهد هو عنف داعش، والسبب كما يراه التقرير هو ببساطة الإعلام والدعاية، فداعش أقل عنفاً لكنها أكثر ضجيجاً وبروباجندا. داعش أظهرت ولعاً بالإعلام وعرض أعمالها الوحشية لجذب الانتباه. فحسب تقرير فوكاتف فإن داعش لديها أربعة أجنحة للتعامل مع وسائل الإعلام، ونحو 15 من قادة وسائل الإعلام لكل ولاية من «الدولة الإسلامية»، بينما لدى طالبان اثنان من المتحدثين باسمها، وواحدة فقط من لجانها العشرة تتعامل مع الإعلام. لقد أظهرت داعش بالفعل كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي الإعلامية أكثر فعالية بكثير من الأسلحة والعبوات الناسفة في إثارة الإرهاب والرعب.
ما هي النتيجة التي يخلص اليها صاحب السطور؟
انها باختصار شديد وعلى ضوء واقع الاعلام العراقي بعد العام 2003، ان وسائل الاعلام والاتصال لايمكن لها ان تصنع حدثا وتنجح في تسويقه دون قراءة حقيقية ودقيقة لحاجات ورغبات المتلقي، ولا يكفي الضجيج والصراخ في صناعة الحدث دون رؤية لما يريده هذا المتلقي، ولعل ابرز مثال على ذلك ان جميع الصخب والضجيج الذي احدثته وسائل الاعلام والاتصال العراقية حول الفساد المالي والاداري لم تستطع ان تسوقه للمتلقين لسبب بسيط هو عدم وجود تلك الثقافة المجتمعية الرافضة للفساد والمفسدين، اصدقاء واقارب، وظلت منحنيات الصراخ تتجه الى الاعلى الذي ليس له لون او شكل محدد فهو كل موظف حكومي وفي اي منصب كان، دون النظر الى العلائق الاجتماعية والقرابية التي تربط هؤلاء الموظفين في المجتمع العراقي.
اضف تعليق