الإمارات لا تستطيع أن تمضي بعيداً وطويلاً في هذا الخيار، فقد أظهر الحوثي الذي لا يملك كثيراً ليخسره، أنه جاهز لخيارات شمشونية، كهدم المعبد، وهذا تحدٍ مقلق لدولة لديها الكثير لتخسره في مواجهة من هذا النوع، ثم أن حجم الضرر الذي سيصيب الإمارات الأخرى، غير النفطية، وغير الغنية...
منذ أن كثفت الإمارات حضورها الميداني في معارك شبوة والبيضاء وجنوب مأرب، مستحضرةً القوات الموالية لها والمحسوبة عليها، من "نخبة شبوانية" إلى "العمالقة" ووحدات من قوات طارق صالح، بدا أن اتفاق "الجنتلمان" المٌتَفّاهم عليه، بينها وبين أنصار الله الحوثيين، قد سقط... وفي التفاصيل أن الجانبين الحوثي والإماراتي، توصلا قبل ثلاثة أعوام تقريباً، وعبر قنوات غير مباشرة، إلى هذا الاتفاق، بعد أن أعلنت أبوظبي انتهاء حربها في اليمن وعليه، ليقابلها الحوثي، بإخراجها من "مهداف" صواريخه الباليستية وطائرته المسيّرة، التي لم تتوقف عن ضرب العمق السعودي في المقابل.
وفي التفاصيل أيضاً، والتي من دونها يصعب فهم هذا التصعيد في الحرب اليمنية، فإن "قراراً استراتيجياً" قد اتخذ بالتشاور ما بين الإمارات والسعودية والولايات المتحدة، ويقال إن بريطانيا كانت طرفاً رابعاً فيه، يقضي بوقف الحوثي عند أسوار مأرب وسدها التاريخي العتيق، وعدم السماح لقواته المندفعة جنوباً، ببسط سيطرتها على المحافظة الاستراتيجية، وبأي ثمن، طالما أنها آخر معاقل "الشرعية" في الشمال، وأقوى قلاع حزب الإصلاح – الإخوان، حليف الشرعية وذراعها الميداني الضارب، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي الواصل ما بين المحافظات اليمنية، وتحتفظ في باطنها بالخزان الرئيس للنفط اليمني.
ولمّا كانت القوات المسيّرة من الشرعية والسعودية على حد سواء، قد أظهرت ضعفاً مريعاً في مواجهة الطوفان الحوثي، فقد كان لا بد من استحضار الأذرع الإماراتية ذات التدريب العالي والتسليح الجيد والانضباطية العسكرية، فضلاً عن مرجعيتها "السلفية" التي تجعل من عناصرها مقاتلين أشداء، لا يخشون المواجهات الكبرى، ولا يتورعون عن تقديم التضحيات والخسائر.
وفي التفاصيل كذلك، أن الإمارات وجدت نفسها "محشورة" بين ضغوط أهم حليفين لها: واشنطن على المستوى الدولي، والرياض على المستوى الإقليمي، فقررت الخروج عن "استنكافها" عن المشاركة في معارك الشمال، بعد أن دان الجنوب لسيطرة ميليشيات محسوبة عليها (المجلس الانتقالي بالإضافة إلى كل ما ذكر)، فقررت السير مع الحليفين إلى "أم المعارك"، مأرب، مراهنة على أمرين اثنين:
الأول، أن علاقاتها النامية باضطراد مع إيران، مالياً وتجارياً وأمنيا ودبلوماسياً، ستمنع الحوثي من كسر الخطوط الحمراء، التي طالما لوّح وتوعد بكسرها: استهداف العمق الإماراتي.
والثاني، أن حسابات لوجستية خاطئة، ربما دفعت أبو ظبي للاطمئنان إلى بعدها الجغرافي عن مرمى الصواريخ والمسيّرات الحوثية، وأن جل ما يمكن أن يصدر عن صنعاء، ليس سوى حركات استعراضية بهلوانية، كأن يرسل طائرة تلتقط صوراً لمطاري دبي وأبو ظبي كما حصل من قبل، أو تفرغ حمولتها في الصحراء الإماراتية الممتدة.
كلا الرهانين، ثبت أنه غير صحيح، فلا إيران تدخلت لمنع الانزلاق إلى استهداف العمق الإيراني، ولا تجربة الحوثي مع المسيّرات والصواريخ، ظلت على "تواضعها"، كما يقول غير خبير عسكري... وإذا صحت الأنباء بأن مسيّرات الحوثي قد انطلقت من على الأرض اليمنية، فمعنى ذلك، أنها اجتازت بنجاح، جدران الصواريخ والدفاعات الجوية السعودية التي مرّت من فوقها، وهذه نقطة لافتة عسكرياً كذلك.
وفي ظني أن إيران لم تأت بجديد لا تعرفه الإمارات، عندما أحجمت عن وضع ثقلها لمنع قرار الحوثي باستهداف العمق الإماراتي، فطهران، كما تعلم أبو ظبي، سبق لها وأن رفضت الاستجابة لطلب سعودي، عبر القناة البغدادية، للتدخل لدى الحوثي، لوقف اندفاعته نحو مأرب، ظناّ من الرياض بأن الجمهورية الإسلامية قادرة على تحريك الحوثي بـ"الريموت كونترول"، وهذا أمرٌ لم ينطلِ على واشنطن، وعبرت عنه مبكراً، عندما صرح مسؤول رفيع لصحيفة وول ستريت جورنال، بأن الحوثي تصرف منفرداً، وأن إيران غير متورطة في العملية، قبل أن يعود بعض الناطقين الأميركيين لربط هجمات الحوثي بالدعم الإيراني، وبصورة خلقت إرباكاً كبيراً في معرفة حقيقة الموقف الأميركي ودقة المعلومات المتوفرة للولايات المتحدة.
السعودية، كما قلنا في المقال الأخير على هذا الموقع، حرصت على رد الصاع صاعين لطهران، لإحجامها عن "التدخل الإيجابي"، فصعدت حربها الجوية على اليمن، وبصورة غير مسبوقة طيلة سنوات الحرب السبع العجاف، وعمدت إلى "كسر" حملة الانفتاح العربي على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، والتي أسهمت في رفع منسوب الرهان على عودته إلى الجامعة العربية في قمة الجزائر المقبلة، وأعلنت أنها ليست بصدد التطبيع مع نظام "قتل شعبه"، كما أنها أفرغت كامل جعبتها، في الحملة الضروس على الحليف الأهم لإيران في المشرق: حزب الله.
سؤال المليون دولار اليوم، هو كيف ستتصرف الإمارات بعد العملية؟ هل ستذهب إلى تصعيد المواجهة الميدانية والسياسية والإعلامية مع الحوثي، وربما مع إيران (وبعض حلفائها الذين باركوا عملية الحوثي) استطراداً، أم أنها ستجنح للعودة إلى "اتفاق الجنتلمان" المشار إليه، وإن على نحو صامت ومتدرج؟
البعض يرجح السيناريو الأول، بالنظر إلى شخصية رجل الإمارات القوي محمد بن زايد، الذي حرص على بناء صورة "الزعيم الحازم" وصاحب اليد الطولى والممتدة، سيما وأن خياراً كهذا، قد ينجح في ترميم الشقوق التي اعتورت علاقاته بحليفه، رجل السعودية الأقوى، ومن دون خشية من ردود أفعال أميركية غاضبة، طالما أن واشنطن، شاركت الرياض وأبو ظبي في رسم خطوط حمراء حول مأرب، وترغب في تلقين الحوثي درساً، لا يخرجه من المعادلة اليمنية، ولكنه كفيل بإنزاله عن قمة الشجرة التي صعد إليها، لتمهيد الطريق أمام تيموثي ليندركينغ.
لكن أنصار السيناريو الثاني، يتكئون في المقابل، على فرضية "الهشاشة الأمنية" لدولة الإمارات، وافتقارها للعمق الاستراتيجي الذي تتوفر عليه السعودية، ولحقيقة أن لدى أبو ظبي ما تخسره، إن هي صارت هدفاً متكرراً لصواريخ الحوثي ومسيّراته، فاقتصاد الدولة برمته، يعتمد على الاستقرار والأمن والأمان، ثم أن تعرض الإمارات لهجمات لاحقة، قد يفاقم ما سبق أن تردد عن خلاف بين إمارة أبو ظبي وإمارات أخرى، من بينها دبي والشارقة، التي قيل أنها سجلت تحفظات جدية، على "روح المغامرة" التي ميّزت السياسة الخارجية الإمارتية في العشرية الفائتة، ووسعت دائرة "العداوات" للدولة الثرية.
لكأننا أمام صراع بين مستقبلين أو صورتين للإمارات، يتفاعل داخلياً وإقليمياً...الأولى، وتدعم فكرة "أسبارطة الصغيرة"، مع كل ما يترتب عليه من تداعيات على أمن الدولة ووحدتها وانسجام إماراتها السبع، أو الذهاب إلى سيناريو "سويسرا" الخليج والإقليم، أو بالأحرى، العودة إلى "إرث زايد"، الشيخ المؤسس للدولة.
أغلب الظن، أن الطريق الواقعي الذي ستختطه الإمارات، هو مزيج بين السيناريوهين، فالدولة ورجلها القوي، بجاجة لردود أفعال صلبة، لحفظ ماء وجهها وترميم صورتها الردعية، بدأت ميدانياً عل أية حال، بتكثيف المشاركة في الطلعات الجوية واستهداف مواقع الحوثي وقياداته، وتجلت سياسياً في دعوة واشنطن لإعادة الجماعة إلى القائمة السوداء لمنظمات الإرهابية، فضلاً عن الحملات الممتدة من مجلس الأمن إلى كل أصدقاء الإمارات وحلفائها.
لكن الإمارات لا تستطيع أن تمضي بعيداً وطويلاً في هذا الخيار، فقد أظهر الحوثي الذي لا يملك كثيراً ليخسره، أنه جاهز لخيارات "شمشونية"، كهدم المعبد، وهذا تحدٍ مقلق لدولة لديها الكثير لتخسره في مواجهة من هذا النوع، ثم أن حجم الضرر الذي سيصيب الإمارات الأخرى، غير النفطية، وغير الغنية، دبي بخاصة، سيُفجر جدلاً داخلياً لا يريده ابن زايد.
وفي التحصيل الأخير، تدرك الإمارات، أن اتفاقاً وشيكاً قيد الإنجاز في فيينا، إن لم يحدث ما ليس في الحسبان، ولدى الإمارات حسابات معقدة ومصالح كبرى مع إيران، وأبو ظبي ترقب قنوات الحوار بين طهران والرياض، وهي تعلم أكثر من غيرها، بأن واشنطن، تفضل خيار التسويات والدبلوماسية للتعاطي مع أزمات الشرق الأوسط، وأن آخر شيء تريده إدارة بايدن، هو التورط في حرب جديدة، كما أن الإمارات تلمس لمس اليد، أن الإقليم في العشرية الجديدة، ليس الإقليم في عشرية الربيع العربي، وأن حالة من السيولة والانفتاح المتدرج، تكاد تطبع العلاقة بين محاوره وعواصمه المختلفة، ومن غير المرجح أن تعود الأطراف إلى العسكرة وحروب الوكالة ونشر المليشيات والمرتزقة، المكلفة والمنهكة، وأن "الجيو-إيكونوميكس" بات مقدماً على "الجيو-بوليتكس" في حسابات معظم دول المنطقة الوازنة.
نحن إذاّ، أمام تجربة جديدة في لعبة "عض الأصابع الدامية"، أمام تصعيد عسكري من ضمن استراتيجية التهدئة وإطفاء بؤر التوتر التي تشهدها المنطقة، ولسنا بصدد العودة للغة الحسم العسكري لا للصراع اليمني أو غيره من نزاعات المنطقة، نحن أمام اختبار آخر لتكتيك "التفاوض بالنار والرصاص الحيّ"، ولعله أمرٌ ذو دلالة، أن تتزامن عودة ليندركينغ لنشاطه الدبلوماسي الكثيف مع انكفاء الحوثي عن شبوة وأسوار مأرب، واشتداد غارات التحالف على اليمن، ووصول "مسيّرات" الحوثي وصواريخه إلى قلب العاصمة الإماراتية وعلى مقربة من أدنوك" بعد أن طاولت الرياض و"أرامكو".
اضف تعليق