ما كان لعقلٍ أنْ يَتخيّلَ لبنانَ يَبلُغُ يومًا ما بَلغهُ اليوم. لم يَعرِف اللبنانيّون عبرَ تاريخِهم ذُلَّا شبيهًا بالذُّلِ الذي يَعيشونه هذه الفترة. ويُوائِمُ الذُلَّ قَهرٌ حين يَتبيّنُ أنَّ إذلالَ اللبنانيّين فعلٌ متعمَّدٌ، يَرتكِبُه مُقترِفوه عن سابقِ تصوّرٍ وتصميم. وتَنضمُّ إلى الذُلِّ والقَهرِ نقمةٌ حين نُدركُ...
منذ سنةِ 1633 وكاتدرائيّةُ الكبوشيّين في ڤيينا تَضُمُّ أضْرحةَ آل هابسْبورغ أباطرةِ النمسا/هنغاريا. وكانت لجنازاتِـهم طقوسٌ خاصّة: عندَ بلوغِ جُثمان الإمبراطور بابَ الكاتدرائيّةِ الـمُقفَلَ، يَسألُ راهبٌ من الداخل: "مَن الآتي؟" فيُجيبُ ضابطٌ: "أنا الإمبراطورُ الفُلاني..." ويَسرُدُ ألقابَ الإمبراطورِ كاملةً. فيَـرُدّ الراهب: "لا نَعرِفُه، مَن الآتي؟" فيُكرِّرُ الضابطُ الجواب: "أنا الإمبراطور الفلاني..." ويُعدِّدُ الألقابَ مختَصرَةً. فيعودُ الراهبُ ويقول للمرّةِ الثالِثة: "لا نعرِفُه، مَن الآتي؟" حينئذٍ يُعلن الضابط: "أنا الإنسانُ الخاطئُ الحقير". فيَفتحُ الراهبُ البابَ ويتمُّ إِدخالُ النعش.
لا مكانَ للـــ"أَنا" أمامَ الله ولا أمامَ الشعب. ما قيمةُ أمجادِ المناصبِ تجاه اللهِ خالقِ الكونِ، وإزاءَ الشعبِ اللبنانيِّ مصدرِ السلطات (مبدئيًّا). أخَذوا على رئيسِ الجمهوريّةِ قولَه: "أنا ميشال عون"، وتَناسَوا أنَّ هذه الــ"أنا" تَنتشرُ أيضًا بين أركانِ المنظومةِ السياسيّةِ، القديمةِ والمخَضرَمةِ والمستَحدَثة. لدى الزعماءِ الفاشلين قبل الناجِحين. ولدى الـمُعقَّدين قبل الصفائيّين. لدى الّذين صُنِعوا وَهُمْ لا شيءَ قبلَ الّذين صَنَعوا وَهُمْ شيءٌ ما. الــ"أَنا" موجودةٌ كذلك بوَفرةٍ في عددٍ من أحزابِنا ومؤسّساتِنا.
هي الديكتاتوريّةُ الـمُضْمَرةُ في الديمقراطيةِّ المعلَنةِ. وأصلًا، الديمقراطيّةُ في لبنان فَشِلَت لأنَّ الديمقراطيّةَ عمومًا هي نظامٌ تَسلْسُليٌّ مترابِطٌ يَسقُطُ بكاملِه حين تَنقطعُ حَلْقةٌ من حلَقاتِه. ولأنَّ أحزابَنا انتَقلَت بــــ"أناها" الديكتاتوريّةِ إلى الدولةِ، وحتّى إلى المعارضَة، عَطَّلت ديمقراطيّتَها. أنّى لدولةٍ أن تكونَ ديمقراطيّةً وأحزابُها ديكتاتوريّة، خصوصًا أنَّ الديكتاتوريّةَ مثلُ الديمقراطيّةِ هما نزعةٌ نفسيّةٌ وثقافيّةٌ قبلَ أن تكونا نِظامًا دستوريًّا. وآخِرُ مثلٍ على ذلك "أَنا" القاضيةِ غادة عون، فـــــ"أناها" ليست "أناها" الشخصيّةَ بقدْرِ ما هي "أنا" بيئتِها السياسيّة.
الشعبُ يَغفِرُ أحيانًا "أنا" الحاكِمِ والزعيمِ والرئيس إذا وفّرَ هؤلاء الأمنَ والحرّياتِ والإنماءَ والاستقرارَ والازدهارَ والبحبوحةَ والنهضةَ الوطنيّةَ والحضاريّة، لكنّه لا يَغفِرُها لهم والانهيارُ يَسري في أرجاءِ المجتمعِ والدولة. ما كان لعقلٍ أنْ يَتخيّلَ لبنانَ يَبلُغُ يومًا ما بَلغهُ اليوم. لم يَعرِف اللبنانيّون عبرَ تاريخِهم ذُلَّا شبيهًا بالذُّلِ الذي يَعيشونه هذه الفترة. ويُوائِمُ الذُلَّ قَهرٌ حين يَتبيّنُ أنَّ إذلالَ اللبنانيّين فعلٌ متعمَّدٌ، يَرتكِبُه مُقترِفوه عن سابقِ تصوّرٍ وتصميم. وتَنضمُّ إلى الذُلِّ والقَهرِ نقمةٌ حين نُدركُ أنَّ الحلولَ موجودةٌ وممكِنةٌ لجميعِ المشاكل. لكنَّ السلطةَ تنأى عنها بحكمِ تحالفاتِـها الخطيرةِ، واستثمارِها هذه المشاكلَ في طموحاتٍ تَبدأ بانتخاباتِ رئاسةِ الجُمهوريّةِ المقبلةِ ولا تَنتهي بتغييرِ هوّيةِ الجُمهورية... هذه جريمةٌ. ولــمّا تَطالُ الجريمةُ مجموعةً تُسَمّى مَجزرةً، ولــمّا تَطالُ المجزرةُ شعبًا بكاملِه تُدعى جريمةً ضِدَّ الإنسانيّة.
ماذا فَعلَت هذه المنظومةُ السياسيّةُ بهذا الشعبِ العظيم؟ بمجدِه وكرامتِه والعنفوان؟ ماذا اقترفَت بحقِّ تاريخِه وكفاحِه وتضحياتِه؟ حوّلت أعراسَه مآتمَ وعيونَه ينابيعَ دموعِ، وهي تَبتسمُ ولا تُبالي. تَستقيلُ من مسؤوليّاتِـها وتَبقى في مناصبِها. صارت هذه المنظومةُ قارئةَ صفحةِ وَفَيات. مُذْ متى يَتسكّعُ اللبنانيّون ويَتسوّلون؟ مُذ متى كانوا شعبَ إعاشةٍ وإغاثة؟ دولةٌ تُرسِل مساعداتٍ ماليّةً لرفعِ أجورِ العسكريّين وأُخرى قَمحًا وألبانًا وموادَّ طبّية. دولةٌ تُهدي مُستلزماتِ إيواءٍ وأحْرمةً وأخرى أرُزًّا وقَمحًا وحليبًا. دولةٌ تَبعثُ طحينًا ودقيقًا وأُخرى ثيابًا وعقاقير. الميْسورون يُقدِّمون وجَباتٍ غذائيّةً لعائلاتٍ والجمعياتُ الخيريّةُ توزِّعُ إعانات. وبنغلاديش، الدولةُ الفقيرة، تبرَّعت بمساعداتٍ طبيّةٍ وغذائيّة.
لا هذا هو لبنان، ولا هؤلاءِ هُمُ اللبنانيّون، ولا هذه هي دولةُ لبنان. لا يَحتمِلُ لبنانُ هذه السلطةَ المحاذيةَ الفراغِ، ولا هذه الطوائفَ المتعدِّدةَ الولاءات. ولا أدري متى سيَنتفِضُ الشعبُ ويَصرخُ فيهم: وطني وطنُ المحبّةِ يُدعى وأنتم جَعلتُموه وطنَ الأحقاد. وطني وطنُ السلامِ يُدعى وأنتم جعلتُموه وطنَ الحروبِ والفتنِ والاغتيالات. وطني وطنُ الحضارةِ يُدعى وأنتم جعلتُموه وطنَ الانحطاط. وطني وطنُ الانفتاحِ يُدعى وأنتم جعلتُموه وطنَ الانعزال.
لا بُدَّ أن يَنتفِضَ الشعبُ ويَصرُخَ: أَوْقفوا خِداعَ الناسِ وتمويهَ الحقائق. أَوْقفوا غَسْلَ الأيادي والتَنصُّلَ من المسؤولية. أَوْقِفوا تغييرَ النظامِ الليبراليِّ والـمَصرِفي. أَوْقِفوا محاولاتِ إحياءِ الحكومةِ المستقيلة، أَوْقفوا التمادي في المماطَلة. أوْقِفوا إسقاطَ السلطةِ القضائيّةِ. أوْقِفوا الانتحارَ الجَماعيَّ. فلعَمْري ما رأيتُ دولةً تغتالُ نفسَها بعدما اغتالَت شعبَها.
لا فقدانُ السيادةِ هَزَّ هذه المنظومَة ولا فقدانُ الكرامةِ هالَها. لا الاعتداءُ على الدستورِ أزعَجها ولا الأزمةُ السياسيّةُ رَدَعتْها. لا انهيارُ الاقتصادِ أَقلَقها ولا الوباءُ الجارفُ أخافَها. لا تفجيرُ المرفأِ أرْعبَها ولا عويلُ الأمّهاتِ رَقَّقَ قلبَها. حبّذا لو يَستمعُ الحاكمون إلى صوتِ الشعبِ مثلما كان يَستمعُ الفلاسفةُ الإغريقُ إلى أسئلةِ التلامذة. لقد اختَنقَ الشعبُ من الجمود. قَدِّموا له شيئًا من أشياءَ، وحلًّا من حلولٍ، وتسويةً من تسوياتٍ، وحقيقةً من حقائق. قَدِّموا له لُقمةً من رغيفٍ، وشُعاعًا من نورٍ، وحبّةً من عنقود. دولُ العالم أحْسَنت إليه وأنتم إليه تُسيئون. استخفافُكم بالشعبِ مرفوضٌ، وسيؤدّي بكم إلى داهيةٍ جديدة.
إنَّ الخطرَ الحقيقيَّ الذي يواجِه لبنانَ ليس الانزلاقُ في المحورِ السوريِّ ـــ الإيرانيّ فقط، بل الانزلاقُ في محورِ الانحطاط. فبقدْرِ ما يجب أن نَبقى على الحِيادِ الإيجابيِّ تجاه المحاورِ الإقليميّةِ يجب أن نَنحازَ إلى محورِ الحضارةِ والنهضةِ والرقيِّ من دونِ اعتدال. الحيادُ لا يَشمُل الحضارة.
مع تغييبِ الدولة، قسريًّا أو طوعيًّا، تُحتِّمُ مصلحةُ لبنان أن تقومَ هيئةٌ وطنيّةٌ تؤمِنُ بسيادةِ لبنان ووِحدتِه وبكيانِه وشراكتِه الوطنيّةِ، فتتولّى مسؤوليّةَ طرحِ إنقاذِ لبنان على المجتمعِ الدوليِّ بجديّةٍ قبلَ فواتِ الأوان. طريقُ الإنقاذِ صار معروفًا: مؤتمرٌ دوليٌّ وحياد؛ ويَحتاجان إلى حركةٍ تواكبُ الكلمةَ لئلّا تأتيَ الرمالُ وتَجرُفَ الكلام.
في جميعِ الأحوال، نُطَمْئِنُ من يُهِمُّهم الأمرَ بأنّنا لن نَكفُرَ بلبنان. سيَقوى إيمانُنا به، ستَشْتدُّ عزيمتُنا على البقاءِ والصمودِ. وستَصْلُبُ إرادتُنا على التصديِّ لمشروعِ هدمِ لبنان. فلا يُراهِنَّنَ أحدٌ على سكونِ المسالـِمين، إنَّ في قلوبِهم شُعلةَ النضالِ ورَدَّةَ العنفوان. المسالـِمون هم الشعب، والشعبُ دائمًا يَنتصر./////
اضف تعليق