ما الذي دفع الرئيس دونالد ترامب لعرض حوار غير مشروط مع إيران، وفي الزمان والمكان اللذان تحددهما الأخيرة سؤال يشغل اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية التي سبق لها وأن انهمكت في تحليل شروط مايك بومبيو الاثنتي عشرة، للوصول إلى اتفاق جديد مع إيران، يحل محل الاتفاق...
ما الذي دفع الرئيس دونالد ترامب لعرض حوار "غير مشروط" مع إيران، وفي الزمان والمكان اللذان تحددهما الأخيرة؟
سؤال يشغل اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية التي سبق لها وأن انهمكت في تحليل شروط مايك بومبيو الاثنتي عشرة، للوصول إلى اتفاق جديد مع إيران، يحل محل "الاتفاق النووي" الذي انسحبت منه واشنطن، من جانب واحد، وبالضد من رغبة حلفائها الدوليين.
والحقيقة أن ثمة أجواء "انفراج" يستشعرها المراقبون، تخيّم فوق العلاقات بين طهران وواشنطن، بعد أن ساد الاعتقاد بأن الدولتين ذاهبتان إلى مواجهة شاملة، في أعقاب الكشف عن "شروط بومبيو"، تلك الشروط التي سبق وأن وصِفت بأنها "صك إذعان" و"إعلان حرب" من قبل العديد من المراقبين والمحللين في المنطقة، بالنظر لما تضمنته من مطالب لا تنتهي إلا بإنهاء أية فاعلية قتالية أو ردعية للبرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين، وتقليم أظافر طهران الإقليمية وتقليع أنيابها، من أفغانستان حتى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا واليمن.
اليوم، "يغرد" الرئيس الأمريكي بأنه مستعد للحوار مع إيران من دون التزام بأي من هذه الشروط، ويعرب عن عميق "إحساسه" بأن قيادات إيرانية ستبادر للاتصال بإدارته مبديةً استعدادها للحوار، فيما الوساطات الإقليمية والدولية، تنشط في القنوات الخلفية، لتبديد الصعوبات والعقبات التي تحول دون التئام مائدة المفاوضات بين الجانبين.
من ضمن الأسباب التي يرد ذكرها، ما يرتبط بنتائج قمة ترامب – بوتين في هلسنكي، حيث تشير مصادر إلى أن عرضاً روسياً للوساطة بين واشنطن وطهران، قد تلقاه الرئيس ترامب بكثير من الاهتمام، سيما بعد أن تعهد فلاديمير بوتين بالعمل سوياً مع إدارته، من أجل "تدوير الزوايا" في السياسات والممارسات الإيرانية في الإقليم، بدءاً من سوريا، وهو الأمر الذي بدأت تتضح أولى معالمه، بإعلان الجانب الروسي خلو منطقة الجنوب السوري من وجود قوات لإيران أو حلفائها، ولمسافة قد تمتد شمالاً لخمسة وثمانين كيلومتراً.
والوساطة العُمانية التي كانت حاضرة في خلفية المشهد الدولي الذي أنتج الاتفاق النووي بين إيران والمجتمع الدولي، عاودت نشاطها بقوة في الآونة الأخيرة، وثمة من المصادر من يتحدث عن "طلب مزدوج"، أمريكي وإيراني، لتفعيل هذه الوساطة "الموثوقة" و"المجربة" بين الجانبين، وقد تابع المراقبون والمحللون بكثير من الاهتمام، أنباء الزيارة التي قام بها لواشنطن مؤخراً، الوزير العُماني المخضرم، يوسف بن علوي عبد الله... ومشهود لسلطنة عُمان، أنها لطالما قامت بجهود وساطة أدت إلى الإفراج عن محتجزين ورهائن أمريكيين وغربيين في إيران أو لدى جماعة أنصار الله في اليمن.
لكن مراقبين أخرين، يرون أن من بين أهم الأسباب التي حدت بالرئيس ترامب، لـ "الهبوط عن شجرة بومبيو" وشروطه القاسية، إنما يعود لتعثر مبادراته الدولية التي حاول من خلالها، تسجيل انجاز شخصي، يسجل في رصيد رئاسته... فالمبادرة المعروفة باسم "صفقة القرن"، تتعثر في ظل رفض فلسطيني جماعي للتعامل معها، أو حتى التفاوض بشأنها، ومع إحجام معظم إن لم نقل جميع، ما يُعرف باسم "دول الاعتدال العربي" عن الانخراط النشط في مساعي تمريرها، وتمهيد الطريق أمامها... حيث لاحظ المراقبون والمحللون في المنطقة، إن المملكة العربية السعودية على وجه التحديد، حرصت في غير مناسبة، على تأكيد التزامها بمبادرة السلام العربية، ورفضها لأي حل سياسي للقضية الفلسطينية، يستثني موضوع القدس ومقدساتها، وفي هذا السياق، اكدت مصادر عربية مطلعة، أن المملكة التي استشعرت حرجاً شديداً بقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إليها، أكدت في غير مناسبة، أن ما كان بمقدورها أن تقدمه لتسهيل مهمة ترامب وفريقه، قبل هذا القرار، لم يعد ممكناً بعده.
وفي سياق آخر، يبدو أن الأجواء الاحتفالية التي رافقت وأعقبت قمة سنغافورة بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون، في طريقها للتبدد، حيث تتوالى التقارير عن عقبات وعوائق تعرض التقدم على طريق تجريد شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي... كما أن التقارير تترى كذلك، عن نية بيونغ يانع المضي في تطوير برنامجه الصاروخي... شبح الفشل يطل أيضاً من الكوريتين وليس من الشرق الأوسط فحسب، الأمر الذي يزعج ترامب، ويبدد صورته كرجل خبير في إبرام الصفقات الكبرى، وإنجاز التسويات التي عجز من سبقه من رؤساء أمريكيين عن إنجازها.
حرص ترامب على صورته كـ"صناع للمبادرات" و"مُبرم للصفقات"، ربما تدفعه لتجريب حظه في الملف الإيراني، بعد تعثره في ملفي كوريا الشمالية والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي... هكذا ينظر كثيرٌ من المراقبين، للتطور المفاجئ في موقف إدارة ترامب ومقاربته للملف الإيراني، وربما هذا ما تحاوله بعض المقالات والتقارير التي تسعى في "سبر أغوار" عقل ترامب، وما الذي يدور في خلده، وهو يلقي خطاباته أو يطلق العنان لـ"تغريداته".
على أية حال، لا أحد من مؤيدي "مبادرة الحوار غير المشروط" التي أطلقها الرئيس الأمريكي أو معارضها، لديه "وهم" بأن قطار الأزمة الإيرانية – الأمريكية قد وضع على سكة الحل والتسويات والمفاوضات، فثمة الكثير من "الألغام" التي قد تنفجر على طريقه، منها ما يتعلق بالانقسام الداخلي في إدارة ترامب ذاتها، وتعدد زوايا النظر واختلاف المقاربات بين مؤسسات صنع القرار الأمريكي.
ومنها ما يتصل بانقسام الطبقة الحاكم ومؤسسات صنع القرار في إيران، بين تيار متشدد، محافظ وثوري، يرفض فكرة الحوار مع واشنطن من أصلها، وتيار معتدل وإصلاحي يبدو مصيره ومستقبله، مرتبطان بقدرة إيران على الاندماج في المجتمع الدولي وقطف ثمار الاتفاق المبرم وتفادي موجة جديدة من الحصار والعقوبات، دع عنك حالة انعدام الثقة المتأسسة بين الجانبين جراء سنوات وعقود من المواجهة المباشرة وغير المباشرة، في شتى الساحات والميادين.
وإذا كان من المستبعد أن يلقى مطلب إيران (شرطها) بعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أحادياً، القبول من الرئيس الأمريكي... فإن من غير المتوقع أن تشرع طهران في حوار حول اتفاق جديد، وهي التي وضعت مهمة استنقاذ الاتفاق المبرم، على رأس أولويات ديبلوماسيتها، ومن دون أن تطمئن إلى أنها ستحصل على اتفاق أفضل، أو مثيل على أقل تقدير... يبدو أنه سيتعين على الوسطاء، البحث عن طريق آخر، يُبقي لإيران اتفاقها مع "مجموعة 5+1"، وإن إلى حين، ويشق طريقاً لاتفاق أشمل مع واشنطن، يقوم بدوره على معادلة "رابح – رابح" كما هو شأن الاتفاق القائم، الذي وصفه ترامب بأنه الأسوأ في التاريخ.
والأهم من كل ما سبق، فإن للولايات المتحدة حلفاء أقوياء في المنطقة (إسرائيل، السعودية والإمارات)، لم تسرهم أنباء "مبادرة الحوار غير المشروط"، والمؤكد أنهم سيسعون في كسب تأييد صقور الإدارة لثني الرئيس عن اتخاذ أية مواقف "متساهلة" حيال إيران.
"مبادرة الحوار غير المشروط" انطلقت من قمة هرم القيادة الأمريكية، بيد أنها قد لا تلقى الاستجابة المطلوبة من طهران، بخلاف "الشعور" الذي يساور الرئيس ترامب... وبفرض أن قطار الحوار قد ينطلق من أي محطة في المدى المنظور، فإن وصوله إلى محطته النهائية، محطة "الاتفاق البديل" ليس أمراً مضموناً... إذ ليس من السهل على طهران القبول بأقل من الاتفاق القائم، كما أنه من غير المحتمل، أن يقبل الرئيس الأمريكي وضع توقيعه على أي اتفاق مع طهران، إن لم تكن "شروطه" و"قيوده" عليها، أكثر قسوة وأبعد مدى.
اضف تعليق