في زاوية مهملة، من جدار للمستشفى العام، جلست امرأة وحيدة، لم يظهر منها سوى وجه صغير مجعّد بالغ السمرة، كثير الضعف والوَهَن، تغالبه خلجات البؤس والفقر والمرض، الى جانبها طفل مغمض العينين، قدمه اليمنى مغطاة بلفافة بيضاء، أصابع القدم اليمنى محتقنة ترتجف، دنوت من المرأة وسلمتُ عليها، لم ترد، كأنها لم تسمع تحيتي عليها، أو انها مشغولة بآلامها الى حد أنها لم تسمع أو تشاهد ما يدور في العالم الخارجي، اضطررت الى لمس يدها بهدوء، ورفعت صوتي هذه المرة بتحية أخرى، فتنبّهت المرأة لي، ودار بيننا حديث (الألم) الطويل، فقالت لي:
جئتُ بولدي كي أعالجه في مستشفى الحكومة، قدَمه تعرضت لـ (رضوض)، فتورمت وارتفعت حرارتها، لم ينمْ طوال الليل، ظل يبكي حتى الصباح من الألم، تمنيت ان يأتي الصباح سريعا، وعندما جاء الصباح وأتيت به الى المستشفى، طالبوني بأسعار لا أمتلك (نصف قيمتها)، قلت لهم أليست هذه مستشفى الفقراء، أليست هذه مستشفى الحكومة؟، عالِجوا ابني مجاناً؟؟ لم يهتم بي احد، حاولت ولكن دون جدوى، خرجتُ بابني وجلست هنا، أسندتُ ظهري الى جدار المستشفى بانتظار أن يأتي الفرج.
هذه حكاية واحدة من حكايات كثيرة لأناس فقراء فعلا، لا يمتلكون سد النفقات الجديدة التي فرضتها الجهات المعنية حول اجراءات التقشف لمواجهة الأزمة المالية، لسبب بسيط أن قدرتهم الشرائية واطئة وأن مصادر أرزاقهم شحيحة أصلا بسب الاهمال الذي يتعرضون له.
أحد المسؤولين في الصحة، أكد أن هذه الاجراءات تؤذي المواطنين وتثقل كواهلهم، وخاصة الطبقة الفقيرة، ولكن الحكومة مجبرة على ايجاد موارد تواجه بها الظروف الجديدة، يجب أن نتكاتف جميعا حتى نتجاوز هذه الأزمة التي تعصف بالبلد، ان اضافة بعض الاسعار على العلاج والدخول ومراجعة المستشفيات العامة، هي جزء من الحلول المؤقتة التي ستزول بمجرد زوال ضغوط الأزمة المالية.
مواطن يقول أو يسأل، وهل على الفقير أن يتحمل أخطاء المسؤولين؟؟ كان عليهم التخطيط لزيادة الموارد وايجاد البدائل قبل حدوث الأزمة المالية الحالية، ثم هناك سؤال مهم، ماذا لو أن أسعار النفط بقيت على وضعها الراهن سنوات اخرى، بل وقد تهبط أكثر لوفرة المعروض النفطي في الاسواق العالمية، عند ذاك كيف ستكون اوضاع الناس الفقراء؟؟.
مشكلة قلّة الأدوية
هذا الموضوع، (خطوة التقشف الصحي)، حاولتْ أن تطرقه (شبكة النبأ المعلوماتية)، لكي نعرف صحة مثل هذه الاجراءات من عدمها، فهل ما أقدمت عليه تلك الجهات مناسب وينسجم مع أوضاع الناس المالية، أم انها قرارات ليست في محلها لأنها تضيف أثقالا جديد على المواطنين المثقلين أصلا بالمشاكل.
حول خطوات التقشف في المستشفيات والمرافق الصحية.. أجابت الدكتورة نور الهدى الموسوي:
للتقشف اثر واضح وكبير على الخدمات الصحية المقدمة في المستشفيات وجميع المراكز الصحية، وهذه مشكلة كبيرة ومقلقة جدا، لان هناك ادوية ضرورية للمريض، ويحتاجها في اي لحظة وان عدم توفرها يسبب له مشكلة كبيرة قد تؤدي الى موت المريض.. ومن خلال عملي في العناية المركزة لاحظت ان هناك علاجا من الضروري جدا توفيره في هذه الوحدة، وهو دواء (الدوبامين) وقد اصبح وجوده قليلا في ظل التقشف وهذه مشكلة حقيقية تواجه الواقع الصحي وعمل المستشفيات.
أما الصيدلانية زهراء الاسدي، فقد أجابت حول هذا الموضوع المهم:
بعد اعلان حاله التقشف في المستشفيات، قلّت كمية الادوية والمستلزمات الطبية التي تزود بها المستشفى من قبل المذاخر، واصبحت الادوية قليلة وشحيحة، وقد أُجبر المواطنون على شراء هذه الادوية التي يحتاجها مريضهم في المستشفى من الصيدليات الخارجية.. وبذلك تولدت مشكلة جديدة (ونفقات اضافية) على المواطنين، وباتت مشكلة الانفاق التي تثقل كاهل الناس مزدوجة، من ناحية فرض تسعيرة على دخول المستشفى، ومن ناحية اخرى شراء الادوية من الخارج، فقد اصبح المواطن يسدد مبلغا مقاربا او ربما اكثر من دفعه للطبيب في عيادته الخاصة.
وأضافت د. زهراء: ان التقشف لا يؤثر فقط على قلة الادوية والمواطنين، فبعد تقليل رواتب الموظفين وخصوصا عمال النظافة الصحية، أدى ذلك الى تقليل الخدمة الصحية المقدمة للمرضى بشكل عام.
هنالك مشكلة مزدوجة
من ناحيتها قالت المواطنة (أم نرجس) حول هذا الموضوع:
للتقشف تأثير كبير على واقع الخدمات الصحية، وقد بدا أثره واضحا من خلال النقص الذي تعاني منه المستشفيات في كمية الادوية، حيث يعد العلاج والدواء عموما ركيزة أساسيه في المستشفيات الحكومية المجانية أو التي تتقاضى أجورا رمزية، لأنه يساعد على تحسن المريض وشفائه، لذلك فإن نقصه او عدم وجوده في الوقت الذي يحتاجه المريض، يولد مشكله أخرى بالاضافه الى مشكلته الاساسية المتمثلة بمرضه ومعاناته من الآلام وتهديد حياته.. وكذلك هنالك معاناة من النقص الحاصل في المستلزمات الطبية، حيث غالبا ما يضطر أهالي المرضى لشرائها من خارج المستشفى، ولا شك أن كل هذه الامور سوف تؤدي الى زيادة العبء على المواطن، وتحميله أثقال جديدة تفوق طاقته، فضلا عن أن المواطن يعاني أصلا من الاسعار المرتفعة للادوية المباعة في الصيدليات الخارجية.
التقينا أيضا رجلا طاعنا في السن (أبو حسنين)، شيخ مريض، يعاني من آلام في الصدر، وبدت صحته توحي بمصاعب كبيرة يعاني منها، كان متكئا على جدار المستشفى، سألته عمّا يعانيه، وعن الاجراءات المالية الأخيرة ومعاناة المواطن منها، أجاب بصوت واهن:
المسؤول لا يعرف الظروف التي نعيشها، كأنهم مشغولون باشياء أخرى، لا تعني الناس ولا تهتم بهم، الدليل الزيادات الاخيرة على سعر الباص لمراجعة الطبيب، واخذ اجور عن الادوية وزيارة المريض، الدواء غير متوفر اصلا في صيدليات المستشفيات الحكومية، نعاني من عدم وجود ضمان صحي، نحن ليس لنا سوى الدولة والحكومة، أمراضنا كثيرة ومواردنا قليلة جدا، لا تكاد تسد جزء من حاجات البقاء على قيد الحياة، اليوم عندما يتعرض الانسان الى مرض سوف يواجه الموت، غير صحيحة الاجراءات التي اتخذتها الصحة بحق المرضى والأهالي بشكل عام.
وأضاف الشيخ (ابو حسنين)، نرجو وندعو الجهات الصحية الحكومية اعادة النظر في هذه الاجراءات، انها تثقل كاهل الفقير الذي هو مثقل أصلا بأعباء العيش البسيط، نجن نكد طول النهار من اجل لقمة تسد الرمق، لا نملك الاموال الاضافية كي نعطيها للمستشفة مقابل معالجة كان يجب ان تكون مجانية تكفلها الدولة لكل مواطن، ضمن نظام يسمى في الدول الجيدة (نظام الضمان الصحي).
أما نحن فنقول في هذا الشأن، نعم على الحكومة والشعب أن يبحثا عن الحلول الصحيحة لمواجهة الأزمة المالية التي تسببت بها أسعار النفط التي هبطت الى 70% بصورة مفاجئة، أما الحلول فهي ينبغي أن تكون مدروسة، وليست عشوائية، هناك طبقة فقيرة يجب مراعاتها، أما الناس الميسورين فيمكن فرض بعض الأموال والضرائب الصحية عليهم، لا بأس في ذلك، علينا أن نتعاون جميعا من أجل تجاوز هذه المرحلة الصعبة التي أثرت علينا جميعا، وخاصة شريحة الفقراء.
اضف تعليق