مسيرة (التنمية الاقتصادية) لا يمكن أن ترسم طريقها وتحدد معالمها وصفة واحدة، وذلك نظراً لكونها من الحقائق الإضافية المرتهنة بمتغيرات كثيرة؛ فإنخصائص الشعوب ومواصفاتها وخلفياتها التاريخية والحضارية، متنوعة. وكذلك موقعها الجغرافي المميّز أو الهامشي. وهكذا ما تحتضنه البلاد من ثروات طبيعية على اختلاف أنواعها. وخصائص القادة الذين يحكمون...
لعلنا عند استنطاق النصوص الدينية، خاصة نصوص الإمام علي (عليه السلام) نكتشف، أنّ الأفضل في التنمية وفي كسر حلقة الفقر المفرغة هو (التنمية المتوازنة) بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاجتماعي، أي بين صلاح الحكومة وإصلاحها وبين استقامة الشعب وتقويمه، وبعبارة أخرى: الإصلاح المتوازن على مستوى الحكومة والشعب، أي بين جناحي (الرعية والراعي) و(الأمة والقيادة) و(الناس والمسؤولين) فهذا من جهة، ومن جهة أخرى: (التنمية المتوازنة غير الشاملة) بين مكوّنات التنمية ومقوّماتها وقطاعاتها المتعددة، وذلك هو الأصل والقاعدة العامة التي تستثننى منها صورة العجز أو العسر والحرج.
التنمية المتوازنة بين الإصلاح السياسي والاجتماعي
أولاً: التنمية المتوازنة بين الحكومة والشعب؛ وتصريح الإمام علي (عليه السلام) الآتي، يجسّد أروع وأدق وأفضل تعبير عنه، إذ يقول (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ:
فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى إِلَيْهَا الْوَالِي كَذَلِكَ، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، فَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطَابَ بِهِ الْعَيْشُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ.
وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ.
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ، بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ، بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلَا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ، بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ)(1).
ونصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أن المسيرة الإصلاحية التنموية لابد لها من أن تتحرك باتجاهين وبشكل متزامن: فمن جهة تتجه نحو الولاة والحكام والرعاة، ومن جهة تتجه نحو المحكومين والناس والرعية، (فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ...)(2).
كما أن نصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أنه إنما تقوم مناهج الدين وتعتدل معالم العدل وتتحقق بعدها مراتب الإحسان والفضل(3) ويربح الولاةُ والناسُ الدنيا والآخرةَ معاً بصلاح ذلك الزمان، ويطيب العيش، وتستقرّ الدولة وتزدهر، فيما (إِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا).
وبعبارة أخرى: إنّ حركة التنمية الاقتصادية ضمن مجمل الحركة العامة، يجب أن تتزامن فيها:
أ ـ معايير صلاح الولاة والتزامهم بأداء حقوق الناس كمقاييس عامة وأساسية للمسؤولين في مرحلة انتخابهم أو تعيينهم، ثم طوال فترة حكمهم، وذلك هو مفاد قوله (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ)، و: (وَأَدَّى إِلَيْهَا الْوَالِي كَذَلِكَ)، أي حقها أو على العكس يكون فساده إذا (أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ)، ومنه يعلم أن صلاح الولاة في مثل المقام لا يقصد به صومه وصلاته وكثرة عبادته ودعائه وتهجده مثلاً، بل يراد به عدله وإحسانه، ولذا فرع (عليه السلام): (فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ...) على: (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ...)، كما أن ذلك هو صريح قول الإمام (عليه السلام) لجماعة من الصوفية: (وَيْحَكُمْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الْإِمَامِ قِسْطُهُ وَعَدْلُهُ، إِذَا قَالَ صَدَقَ، وَإِذَا حَكَمَ عَدَلَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ)(4).
ب ـ مع إيجاد/ وجود جهات فيها الكفاية (وإلا فجميع الناس) تقوم بمهمة التعاون مع القادة والمسؤولين، إضافة إلى نصحهم وترشيدهم تنمية ملكاتهم النفسانية التي تعصمهم من الاستجابة للضغوط، وتحول دون استسلامهم للمغريات التي قد توقعهم في شباك خيانة الأمانة، أو التي قد تفقدهم حتى بعض النزاهة. فذلك كله من مفردات قوله (عليه السلام): (فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ)، ومن مصاديق قوله (عليه السلام): (حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ) الذي أمر به الإمام علي (عليه السلام) موجهاً خطابه للجميع في هذا النص: (فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ...)(5)، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ)(6)، ولذلك كله فقد شفع أوامره السابقة بقوله مؤكداً: (وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ).
والسبب وراء هذا التأكيد والتشديد هو أن السلطة قوة، والقوةُ مفسِدة، قال تعالى: (كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ، أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ)(7)، وقال جل اسمه: (أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ)(8)، وكما يحتاج الطفل إلى تعليم وتربية ورقابة مستمرة فكذلك يحتاج، بل بدرجة أشد، الحاكم والمسؤول والرجل السياسي إلى معلّم ومربّ ومراقب على طول الخط، ولذلك ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام): (الْمُؤْمِنُ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: تَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ، وَوَاعِظٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَبُولٍ مِمَّنْ يَنْصَحُهُ)(9)، بل إن قوله (عليه السلام): (حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ)، و: (التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ)، يفيد أكثر من مجرد النصيحة أو المراقبة؛ فإن التعاون عمل وسلوك وإجراءات ميدانية.
التنمية المتوازنة بين الموارد
ثانياً: التنمية المتوازنة بين الموارد الطبيعية والموارد البشرية والتكوين الرأسمالي مع تحصين منجزات البلاد عبر جهاد أعداء الوطن، وذلك هو الظاهر من نص الإمام علي (عليه السلام) في أول عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر: (جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا)، وقوله (عليه السلام): (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ)، فإنه بالمطابقة أو التضمن والالتزام وبدلالة الإشارة، يستبطن تلك العناصر الأربعة بأجمعها، كما أوضحناه في موضع آخر.
التنمية المتوازنة بين طبقات الشعب
ثالثاً: التنمية المتوازنة بين مختلف طبقات الشعب، وذلك هو الذي يؤشر عليه تصريحه التالي، إذ يقول (عليه السلام): (وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ)، وهو صريح في أن الطبقات التي استعرضتها كلماته (عليه السلام) لا تُستغنى ببعضها عن بعض من جهة، كما أنه لا يصلح بعضها إلا ببعض من جهة أخرى، نعم يحتمل في (لا غنى...) كون المراد لا غنى للحكومة ببعض هذه الطبقات عن بعض، كما يحتمل كون المراد أنه لا يستغني بعضها عن البعض الآخر، ولعل الأول أظهر لمكان الباء، فتدبر.
وقوله: (لَا غِنَى...) يشير إلى الجهات الموضوعية، و: (لَا يَصْلُحُ...) يشير إلى الجهات المعيارية، وإن كان لا يستبعد كونه أعم.
والطبقات هي بصريح عبارته (عليه السلام): (فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ.
وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، "وَكُتَّابُ الدَّوَاوين".
وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ.
وَمِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ.
وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ.
وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ.
وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ).
وقوله (عليه السلام): (لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ)، وكما سبق، كالنص في التنمية المتوازنة بين كافة هذه الأطراف، إذ يتوقف صلاح بعضها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً و... على بعضها الآخر، كما لا غنى ببعضها عن بعض.
وعندما نواصل قراءة عهده (عليه السلام) للأشتر نجده يصرح بعمق الترابط بين هذه الطبقات والدور المعي والعلاقة التداؤبية أو التكاملية بينها، وأنه (وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ)، و: (ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ)، و: (وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا...)؛ و(القيام) مفهوم زائد على مفهوم الصلاح والغنى في قوله (لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ)(10).
كما أن هذا النص اضطلع بمهمة وضع النقاط على الحروف، إذ حدد عناصر الارتباط ووجوه الحاجة وجهات التكامل بين كافة تلك الأطراف، بين الحكومة والشعب من جهة، وبين طبقات الشعب بعضها مع بعض من جهة أخرى، إذ يقول: (فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلَاةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الْأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ،
ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ، الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ،
ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ، مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا،
وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مَا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ).
والرواية كما يراها الباحث، صريحة في التكامل والنمو المتوازن بين رباعي القوى العسكرية والرعية والولاة والدين، ثم مع الموارد الاقتصادية التي تتجسد في التجار والخراج الذي يمثل الموارد الطبيعية، وفي القوى الصناعية، بما تجسده من تطور: علمي، هندسي، وإداري بما يمثله جميع ذلك، ومن تكوين رأسمالي والقوة القضائية (القضاة)، والقوة التنفيذية السياسية (العمال)، والإدارية البيروقراطية (الكتّاب).
بل وفوق ذلك فإننا نجده (عليه السلام) يشير إلى ما يقارب ما سمي لاحقاً بنظرية الحاجات الأساسية والنمو من الأسفل إلى الأعلى، إذ يقول: (ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ، وَفِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ. وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُل).
ولعل نظرية أمارتيا سن(11) تقترب من بعض فقرات العهد العلوي خاصة الفقرة الأخيرة.
التنمية المتوازنة بين قطاع الخراج والشعب
رابعاً: التنمية المتوازنة بين القطاع الاقتصادي المتمثل في الخراج وبين الشعب؛ إذ يقول (عليه السلام): (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ)(12)، لأن الناس عامة الناس هم الذين يشكّلون السوق الأساسية الكبرى لتصريف المنتجات الزراعية، ويقول (عليه السلام): (وَلا يَثقُلَنَّ عَلَيكَ شَيءٌ خَفَّفتَ بِهِ عَنهُمُ؛ فَإِنَّهُ ذُخرٌ يَعودونَ بِهِ عَلَيكَ في عِمارَةِ بِلادِكَ)(13)، فإن النهضة الزراعية تؤدي إلى نهضة عمرانية، ذلك أنه مع ازدهار الزراعة يحصل المزارعون على مردود مالي أكبر، وهذا المردود يصب بعضه في الإعمار، وبعضه في الاستثمار، وبعضه الآخر في التبادل أو الاستهلاك، وهي بأجمعها من عوامل تنشيط الاقتصاد.
ولو اقتصر الإمام (عليه السلام) على هذا المقطع ربما كان كلامه مؤشراً على نظرية التنمية غير المتوازنة، لكنّ ضمّهُ إلى المقاطع السابقة والآتية يفيد التنمية المتوازنة.
التنمية المتوازنة بين قطاعي التجارة والصناعة
خامساً: التنمية المتوازنة بين التجارة والصناعة، فذلك عن النهوض بالقطاع الزراعي، وتفاعله مع النهضة العمرانية، وتأثيره على إصلاح شؤون البلاد، وأما التجارة والصناعة فقد وضعهما (عليه السلام) في حزمة واحدة إذ قال: (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً؛ الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ(14). فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلَّابُهَا مَنِ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ)(15)، وذلك لأن الصناعة وغيرها لا يمكن أن تزدهر مع ضمور التجارة، أو إن ازدهرت فإنها لا يمكن أن تبقى مزدهرة مادامت التجارة متعثرة، وكذلك العكس، لأن التجارة تعتمد اعتماداً كبيراً على المنتجات الصناعية والزراعية.
هذا، والظاهر أن (ثمَّ) للترتيب في الكلام، لا لتحديد الرتبة والمرتبة، فإنه على الأخير قد يكون النص ظاهراً في التنمية غير المتوازنة.
تحليل موجز لفقه نصوص الإمام (عليه السلام)
وقد يقال: إن النصوص السابقة التي نقلناها عن الإمام علي (عليه السلام) إنما تشير إلى التنمية المتوازنة غير الشاملة، فتدبر وتأمل.
وقد يقال: إن محور حديث الإمام (عليه السلام) هو المسؤوليات المتقابلة والوظائف والواجبات المتشابكة، وليس مصبّ كلامه عن جدول الأولويات أو نقطة الانطلاق والإقلاع، فلابد أن نبحث عن نصوص أخرى عند الكلام عن المبدأ والمنطلق، وأنه من أين تنطلق مسيرة الإصلاح والتنمية الشاملة؟ فهل نبدأ من الإصلاح الزراعي؟ أو من التطوير الصناعي؟ أو من التحرير التجاري؟ أو من قطاع الخدمات أو السياحة أو النقل؟ وأي منها يجب أن يحظى بالرعاية القصوى؟ أو في إطار أعم: هل نبدأ من نظام التعليم؟ أو من إصلاح الجيش خشية انقضاضه على العملية الإصلاحية كلها؟ أو من القضاة والكتّاب؟ أو نبدأ من المحرومين والمستضعفين؟
وقد يقال: إنه (عليه السلام) كان يرى كافة تلك العناصر في مستوى واحد على جدول الأولويات، حيث اعتبرها مترابطة متشابكة، ولم يحدد عنصراً منها كنقطة إنطلاق، وعليه: فإن (الإطلاق المقامي) يفيد كونها على مستوى واحد في درجات الأهمية وعلى حدّ واحد في درجة المطلوبية!.
ولكن قد يناقش، فيما إذا درسنا القضية على مستوى هذا العهد فقط، بأن ذلك صحيح، ولكن فيما إذا تحققت الشروط والخصائص التالية:
أ ـ في ظل وجود قائد قوي على مستوى مالك الأشتر باعتبار تميّزه بمواهب قيادية نادرة، حتى أن الإمام (عليه السلام) قال فيه بعد مقتله: (رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) )(16)، ومَن يعرف موقع الإمام علي (عليه السلام) الاستراتيجي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كافة الجهات: في الحرب والسلم، وعلى مستوى إدارة الدولة وبناء الأمة، وسائر الأصعدة والمستويات حتى قال (صلى الله عليه وآله) عنه (عليه السلام): (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)(17)، يستكشف من تلك الكلمة مدى عظمة مالك وقدراته الاستثنائية.
ب ـ وفي أوضاع مصر الخاصة في ذلك الزمن. وما يضارعها في الأعصار اللاحقة.
فإذا صح ذلك فلا يمكن أن نستكشف من كلامه (عليه السلام) قاعدة عامة، إذ تكون القضية حينئذٍ خارجية لا حقيقية، وإلا كان كلامه يفيد الأصل الأصيل الذي لا يخرج عنه إلا بدليل، والذي يُتمسك به أيضاً لدى فقد الدليل والبديل، فتأمل.
تتميم وتلخيص
والذي يبدو: أن مسيرة (التنمية الاقتصادية) لا يمكن أن ترسم طريقها وتحدد معالمها وصفة واحدة، وذلك نظراً لكونها من الحقائق الإضافية المرتهنة بمتغيرات كثيرة؛ فإن:
أ ـ خصائص الشعوب ومواصفاتها وخلفياتها التاريخية والحضارية، متنوعة.
ب ـ وكذلك موقعها الجغرافي المميّز أو الهامشي.
ج ـ وهكذا ما تحتضنه البلاد من ثروات طبيعية على اختلاف أنواعها.
د ـ وخصائص القادة (الفكريين والسياسيين والاجتماعيين) الذين يحكمون المجتمع وشاكلتهم النفسية وأذواقهم وتفضيلاتهم، مختلفة أيضاً.
هـ ـ وكذلك كمية ونوعية وتوجهات مؤسسات المجتمع المدني التي يحتضنها هذا الشعب أو ذاك.
و ـ والدول الإقليمية التي تمتلك التأثير على هذا البلد، ونوعية وحدود الدور الاقتصادي والضغط السياسي الذي تمارسه بالفعل أو الذي تريد أن تضطلع به.
ز ـ ونسيج علاقات هذه الدولة بسائر دول العالم خاصة القوى العظمى.
فإن كل ذلك يشكل جزءاً هاماً من الصورة والإطار والخلفية التي على ضوئها يجب أن يرسم المخططون الاستراتيجيون مسار التنمية الاقتصادية والشاملة لهذا البلد أو ذاك.
ولكن يبقى السؤال المهم وهو: من الذي يقوم بتحديد الوصفة التنموية الملائمة لهذا البلد أو ذاك؟
والجواب يستدعي تفصيلاً، ولكن إذا أردنا أن نختار إجابة واحدة من بين مجموعة الأجوبة، فإننا سنقول: إن المفتاح يكمن في قوله تعالى: (وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ)(18)، وفي قوله سبحانه: (إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ)(19)، فيما إذا استلهمنا منه رمزيته إلى الخبراء الأكفاء المتميزين بالنزاهة والأمانة، أو كونه كناية عن ذلك، أو اكتشفنا المناط القطعي، ويكفي أنها(20) من المستقلات العقلية.
وقد فصّلنا في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية)، وكتاب (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية) البحث عن ذلك، وأن المرجع هم الخبراء والتكنوقراط في كل حقل من الحقول التخصصية، ولكن في إطار الشورى وبالمشاركة مع أهل الحل والعقد في عامة الشؤون، ومع الفقهاء في الشؤون العامة(21).
اضف تعليق