راشد صلاح ابورمية

 

المثال المصري المشهور "غرقنا في شِبر ماء" الذي يطلق على البشر الذين لا يعرفون كيف يصرّفون أمورهم، وتضيق بهم السبل مع أيّة ورطة أو مصيبة، فهم عديمو التصرف وقليلو الحكمة، ويطلق أيضاً على البشر الذين دائماً في حيرة من الواقع ومن أمورهم، ولكن تعدى هذا المثل الذي كان يطلق على أناس بأعينهم إلى ما يقرب من 2 مليار ونصف من إجمالي سكان العالم، مما جعلني أقول: غرقنا في شبر تكنولوجيا، وخرج الكلام من محمل التهكم إلى محمل الجد كل الجد.

الموبايل الذي هو عدوى لا تبقي ولا تذر ولا يتعدى حجمه في كثير من الأحيان الشبر، فما من شاب إلا وتجده يمتلك أكثر من هاتف بحجّة التكنولوجيا التي أصابت معظم الشباب والكبار والصغار، فأصبح الأب يكلّم ابنه عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى ولو كلّمه في الحقيقة تجد الابن لا يلتفتُ إلى كلامِ والدهِ؛ إذ إنه يراسل أصدقاءه حول العَالم من خِلال الموبايل والإنترنت، والثقافة الهدامة في استخدامهما جعلتني أقول نحن نعيش في مجتمع افتراضي والشعور الافتراضي، لا نستمتع بالكلام مع الأصدقاء قدر ما نستمتع حينما يقوم أحد الأصدقاء بعمل إعجاب وتعليق على مواقع التواصل، ولو صنع لك إشارة في صورة يؤكد أنك من أعز أصدقائه أفضل من أن يقول لك أنت من أعز أصدقائه، حتى أصبحت الكتابة والإشارة أفضل من القول والعمل، والتباهي بعدد التعليقات والإعجابات أصبح ظاهرة بارزة الآن ظهور الجبال بجانب الأنهار.

والذي جعلني أيضاً أبكي على اللبن المسكوب وأحاول جمعه، أن العربَ هُم أكثر الناس الذين لا يعرفون لثقافة الاستخدام العادل مَعنى، وهم الذين انهمكوا بطريقة وحشية في استخدام التكنولوجيا، والذي أحزنني أكثر بعد رجوعي من القاهرة عاصمة البلاد إلى صعيد البلاد، ووجدتُ الشباب قد انغمسَ أيضاً في الواقع الافتراضي وغرقَ فيه بطريقة مهينة، وسئِمتُ المنظر وقمت أتدبر: كيف وصلنا إلى هذا الحد من التخلف وليس التقدم في ثقافة الاستخدام؟ فحينما كنا نناقش أي أمر في المضيفة، كان الشباب منصتاً لِنَسمع آراء الكبار حتى نتعلم منهم ونستزيد من خبرتهم في الحياة، لكن أصبح الآن منصتاً للموبايل والماسنجر، ولا يبالي بما يحدث من حوله، وأصبح يضع الموبايل في عينه من شدة حرصه عليه، حتى أصبحنا ذوي أعين ضعيفة عند النظر إلى المستقبل، مما يجعلني أكتب رسالة إلى شباب الأمة ومثقفيها وعلمائها: هل لنا إلى خروج من سبيل؟! من هذا الوباء التكنولوجي الذي عم الأمة من مشرقها إلى مغربها، وأخذنا هذه القاعدة في مدرسة الحياة ألاً وهي "إن ما زاد عن الحد ينقلب إلى الضد".

وها نحن قد انقلبنا في الضد ذاته، وتعدينا كل الحدود وأصبح كل فرد يرسم حدوده على أهوائهِ، غرقنا في الاستخدام وليس في أمان من السرقة والاختراق والنصب الإلكتروني إلى غير ذلك، وفي النهاية استخدموا الإنترنت والموبايل ولكن بقدر معين، عش الواقع، ولا تعش في قواقع التكنولوجيا، ساهم في صنع قرارك، وكن سيد اختيارك، كل هذه مسلّمات لا بد من التَعَرف عليها، ويا ليتَ هذهِ التكنولوجيا لم تظهر بكل مميزاتها وعيوبها، جعلتنا نهتم بالأقوال ولا نهتم بالأفعال، مِثلَما تَجِد الشاب يكتب على مواقع التواصل بما يخالف رأيه وفكره؛ لكي يرضي نفسه بإعجاب أو تعليق.

غرقنا في شبر ماء ليس هذه المرة تهكماً ولكن حقيقة، إذ إننا مقيدون بالموبايل واللابتوب والآيباد والتابلت وغير ذلك من المسميات التي ترجع إلى معنى واحد، وهو التخلف التكنولوجي والاستخدام غير العقلاني، وأتمنى إلا نصل إلى ما وصلت إليه الصين ونقيم مصحات لعلاج إدمان استخدام الموبايل والإنترنت، ويا ليتَ نَعُود إلى الفِطرة السَلِيمة وهي العَمل.

قال تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله".. ابدأ بنفسك وحسّن ثقافة استخدامك.

اضف تعليق