الواقع الدولي يطلب من الدول أن تتعامل بواقعية؛ الضمانات السياسية والدبلوماسية مفيدة لكنها لا تغني عن بناء قدرات ردع فعلية. وأي مناقشة لتزويد أوكرانيا أو غيرها بمنظومات تسليح متقدمة يجب أن تراعي الأبعاد اللوجستية والسياسية والتبعات الاستراتيجية على مدى المتوسط والطويل، ولا يمكن أن تُعالج كحلول تقنية فورية...

في مشهدٍ دولي يعيد ترتيب قواعد الأمن والسياسة، تبرز تجربة أوكرانيا كدرسٍ قاسٍ في هشاشة الضمانات الدولية حين تغيب عنها أدوات الردع. قررت كييف في ديسمبر 1994، وفقًا لمذكرة بودابست، التخلي عن ترسانتها النووية مقابل ضماناتٍ على سيادتها وسلامتها الإقليمية من قِبَل روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. آنذاك بدا الأمر امتحانًا للثقة الدبلوماسية؛ اليوم تكشف الوقائع أن العهود بلا قوة تنفيذية تتحوّل سريعًا إلى تعهدات ورقية تُطوى عند أول اختبار جدي.

التحليل السياسي يبدأ من هذا الخيط: الأمن يُقاس في السياسة الدولية بقدرة الدولة على إجبار الآخرين على احترام قواعدها، لا بمجرد توقيع وثائق. عندما أزالت أوكرانيا رصيد الردع النووي، فقدت عنصرًا مركزياً في موازين القوى التي كانت تحمي استقلال قرارها. وما حصل لاحقًا — من ضمٍّ جزئيٍ للقرم إلى تدخلات عسكرية متصاعدة — لم يكن نتيجة فشل القانون الدولي فحسب، بل نتيجة غياب آليات ردع تفرض كلفة فعلية على المخالفين.

في قلب هذا السرد يظهر دور الفاعلين الدوليين: روسيا تصرفت وفق رؤية استعادت فيها أدوات النفوذ التقليدية لتثبيت مصالحها الاستراتيجية؛ والغرب — بالولايات المتحدة وأوروبا — تذبذب بين الإدانات والدعم المحدود الذي لم يترجم إلى حماية فاعلة للحدود أو ضمان عدم التدخل الروسي. هنا لا نتحدّث عن مؤامرة بقدر ما نتحدّث عن السياسة الواقعية: النظام الدولي يعمل بمنطق المصلحة، والتزام الفاعل الدولي يتقاطع مع تقديره لتكلفة الانخراط المباشر.

قصة صفقة التوماهوك، كما وردت في النص، تُظهر بعدًا آخر: استسهال طرح حلولٍ عسكرية تقنية دون تصورٍ عملي للمتطلبات اللوجستية والسياسية لها. صواريخ كـ«توماهوك» ليست مجرد منظومة تسليح تُسلّم وتُشغّل؛ بل تتطلب قواعد إطلاق وبُنى بحرية وغواصات ومنصات وإجراءات تشغيل وصيانة وتدريبًا طويلًا؛ وكلها عناصر تُدخل مقدّم الأسلحة — هنا الولايات المتحدة — في مسار اشتباك مباشر. بالتالي، فإن عرضًا يُحكى على غرار «سلم لنا التوماهوك وسنقايضك بتكنولوجيا الطائرات المسيرة» يقفز فوق حقيقة أن نقل منظومة ردع متقدمة إلى دولة ليست حاملةً للبنى اللازمة يُحمّل مُقدّمها مخاطرٍ استراتيجيّة وسياسية وتجارية.

التعامل الأميركي الرسمي مع فكرة التسليم يظهر حساباتٍ متزنة: فالمخاطرة بسمعة منظومةٍ عسكرية بُنيت على سنوات من التجارب مقابل اختبارها في مواجهة منظومات دفاع جوي روسية متقدمة مثل S-400/S-500، قد تحمل تبعات سوقية واستراتيجية لا تستهان بها. اختبار فعالية التوماهوك أمام دفاعات متقدمة قد يفضي إلى نتائجٍ تضرّ بسمعة صناعة سلاح تربطها الولايات المتحدة بعلاقات تصديرية وسياسية. لذلك كان الرفض أو الحذر من منح مثل هذه الأسلحة منطقياً؛ ليس بالضرورة دفاعاً عن روسيا، بل حفاظاً على أداةٍ استراتيجية تجارية وعسكرية في متناول اليد الأميركي.

وهنا نصل إلى بُعد قانوني وسياسي مركزي: أي نظام ضمانات دولية يفتقر إلى آليات تنفيذية أو إلى منطق مواجهة واضحة سيظل معرضًا للانتهاك. إذا كانت المعاهدات والمواثيق تُوقَّع لحماية الضعفاء، لكن القوي يمتلك القدرة على تجاوزها بتكلفة يتقبّلها، فإن القانون الدولي يتحوّل إلى إطارٍ شكلي لا يحمي فعلاً منطق السيادة. لذلك تبدو رسالة أوكرانيا إلى العالم — من خلال تجربتها — رسالة تحذيرية: الاعتماد على الضمانات دون بنية ردع عملية قد يُكلِّف الاستقلال الوطني الكثير.

على المستوى الشخصي والسياسي، صورة الرئيس زيلينسكي في النص تُعرض من زاوية نقدية: وصفه بأنه «سطحي» أو «ضحكة للغرب» يعكس استياءً من أسلوبه في إدارة ملف الأمن والديبلوماسية، خصوصًا إذا كان عرضًا للتفاوض يتجاهل أبعاد الواقعية العسكرية والالتزامات المصاحبة لأي تزويد بأسلحة متقدمة. لكن من المنصف أيضاً أن نقرأ تحركات القيادات في سياق ضغوط شعبية وسياسية داخلية وخارجية، حيث يتحتم على القادة أن يوازنوا بين الحاجة الملحّة للدعم وبين قيود القبول الدولي بتصعيدٍ مباشر قد يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة.

التداعيات الإقليمية: درس أوكرانيا يمتد إلى العالم العربي

الدرس الأوكراني قابل للتعميم على منطقةٍ مثل العالم العربي، حيث تواتر الاعتماد على تحالفات خارجية ووعود حماية تطغى أحيانًا على بناء قدرات دفاعية وطنية مستقلة. حين تضع دولٌ أمنها في يد الآخرين بلا شبكة ردع محلية أو إقليمية قوية، فإنها تُعرض سيادتها لمساومات النفوذ الدولي وللتحويل إلى ساحات تنافس استراتيجية.

مثال واضح على ذلك الحالة القطرية: رغم العلاقات الدبلوماسية القوية التي تربط الدوحة بالولايات المتحدة وإسرائيل، تعرضت سيادة قطر إلى اختبار مباشر حين اخترقت إسرائيل أجواءها، في اختبار عملي يوضح هشاشة ضمانات التحالف السياسي والعسكري. فالسعي إلى حماية الدولة عبر التحالفات مع القوى الكبرى، ووجود قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها، منح الدوحة دعمًا سياسيًا وعسكريًا، لكنه لم يحميها من اختراق سيادتها المفاجئ، ما كشف أن الرهان على الضمانات الخارجية وحدها لا يكفي.

الدرس واضح: الاعتماد على القوة الخارجية يوفر دعمًا سياسيًا وتقنيًا، لكنه لا يحمي الدولة من المفاجآت أو المناورات الاستراتيجية للآخرين، خصوصًا عندما تتقاطع المصالح الكبرى للقوى العظمى. فالقدرة على الردع المحلي، وبناء منظومة دفاعية مستقلة، هي الخط الفاصل بين الدولة التي تتحكم بمقدراتها وبين تلك التي تصبح أداةً ضمن لعبة النفوذ الإقليمي والدولي.

الخلاصة والتوصيات

أولًا، الواقع الدولي يطلب من الدول أن تتعامل بواقعية؛ الضمانات السياسية والدبلوماسية مفيدة لكنها لا تغني عن بناء قدرات ردع فعلية. ثانيًا، أي مناقشة لتزويد أوكرانيا أو غيرها بمنظومات تسليح متقدمة يجب أن تراعي الأبعاد اللوجستية والسياسية والتبعات الاستراتيجية على مدى المتوسط والطويل، ولا يمكن أن تُعالج كحلول تقنية فورية. ثالثًا، على الدول الإقليمية، وعلى القادة السياسيين، أن يستخلصوا عبرة أولية: الاستثمار في منظومات دفاعية محلية وإقليمية، وفي نُظُم تحالفات واضحة الاستراتيجية والالتزامات، أفضل من الرهان على وعود عالمية قد تتبدل متى تشاء موازين القوة.

تجربة أوكرانيا وإضافة الحالة القطرية تؤكد حقيقة واحدة: من يضع أمنه في يد غيره يقترب من أن يفقد القدرة على القرار. والسلام الحقيقي لا يُكتب بالأحرف على ورق، بل يُبنى بقدرةٍ على وقف العدوان قبل أن يبدأ — قدرة لا تُبنى إلا بالعزم والوسائل.

اضف تعليق