تتجلَّى صورة المرأة في الإسلام بوصفها منبعًا للعطاء، وحاضنة للقيم، وركنًا متينًا في صرح الأمَّة؛ وهي قلب نابض يمدُّ المجتمع بروح الحياة والإيمان، وعقل نيِّر يصنع التَّوازن بين العلم والعمل، ووجدان صادق يزرع في الأجيال معاني الرَّحمة والصَّبر والثَّبات. يجتمع في شخصيتها نور العبادة ووعي المعرفة الذي يفتح لها آفاق...
المساواة في الجزاء والاعتراف بحقوق المرأة مبدأٌ أصيلٌ في المنظور القرآني، وتؤكِّد الآيات الكريمة بأنَّ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (1)، في دلالة صريحة على شموليَّة الخطاب وعدالته؛ فالخطاب القرآني يوضِّح الحقوق الفرديَّة ويؤسّس قاعدة متكاملة للتَّكافؤ الإنساني في بناء الأمَّة واستقرارها، فتظهر هنا مكانة المرأة بوصفها عنصرًا فاعلًا ومؤثِّرا في منظومة المجتمع؛ فهي الأم التي تغرس القيم، والمعلِّمة التي تنشر العلم، والمفكِّرة التي تغني الحركة الفكريَّة.
وعلى الرَّغم من هذا الاعتراف القرآني، شهدت المجتمعات عبر العصور توجهات متناقضة اتِّجاه دور المرأة؛ فقد حاولت بعض التَّيارات حصر دورها في الإنجاب والخدمة المنزليَّة، بينما سعت تيارات أخرى إلى تقليص قيمتها إلى مظاهر خارجيَّة من دون الاهتمام بالعقل أو الرُّوح (2). وأمام هذه الأفكار يبرز فكر المرجع الديني الراحل الإمام الشيرازي، ليقدِّم رؤية متوازنة تعيد للمرأة مكانتها وأنَّها شريك فاعل في صناعة الحياة، مع التَّأكيد على حقِّها في المشاركة الواعية والإبداعيَّة في مختلف مجالات الحياة؛ إذ تمتد أدوارها من تأسيس أسرة تقوم على أسس التَّقوى إلى التَّعليم والمشاركة في الحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة. ومن هذا المنظور، يصبح تمكين المرأة قضيَّة محوريَّة للنهضة المجتمعيَّة يتجاوزُ أثره المستوى الفردي ليمتد إلى صيرورة المجتمع بأكمله.
وعليه، يأتي هذا التَّحليل لاستعراض فكر الإمام الشيرازي حول (مهام المرأة ووظائفها)، بما يقدِّم رؤية متكاملة تؤكِّد أنَّ دراسة المرأة مشروع أمَّة شامل، وأنَّ تمكين المرأة من أداء وظائفها الرِّساليِّة يشكِّل شرطًا لا بدَّ منه لبناء نهضة متكاملة تتوافق فيها القيم مع الواقع، والأخلاق مع التَّنمية، فتحتل المرأة موقعًا محوريًا في استقرار المجتمع وارتقائه.
المحور الأوَّل: المهمَّات الأساسيَّة للمرأة (الفريضة).
إنَّ أهمَّ ما ألقاه الإسلام على عاتق المرأة، كما أشار الإمام الشيرازي، يتمثَّل في تهذيب النَّفس، وإعداد الأجيال ليكونوا صالحين وواعين. ومن أبرز هذه المهمَّات (3):
1. التَّربيَّة الإسلاميَّة المبكرة.
يبدأ بناء الأمم من حجرات البيوت الصَّغيرة، حيث تتشكَّل الطُّفولة وتنشأ القيم الأولى على أيدي الأمهات والآباء، فتتجذَّر المبادئ في وجدان الأطفال قبل انتقالهم إلى المؤسسات التَّعليميَّة الكبرى؛ فالتَّربيَّة المبكرة القاعدة الأرسخ لأيّ نهضة، وتبرز هنا أهميَّة تربية الفتيات تربية قرآنيَّة إسلاميَّة أصيلة؛ فإنَّهن أمهات المستقبل وصانعات الوعي، والجيل المبني عليهن يعكس ما اكتسبنه في طفولتهن.
لقد جعل الإسلام التَّربية واجبًا مقدَّسًا منذ اللحظة الأولى للوعي، مع الحرص على حماية الفطرة من تأثير الجهل والشَّهوات، كما جاء في قوله (تعالى): (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (4). ومن خلال تربية الفتيات على مائدة القرآن الكريم وفهم تفسيره، وعلى فكر المعصومين (صلوات الله عليهم)، تُصاغ الضَّمائر قبل السُّلوك، وتُبنى الرُّؤى قبل توجيه الحركة، مع غرس قيم العدالة والصَّبر والإيمان منذ الصغر.
ولا غنى في هذا الإطار عن القدوة العمليَّة، وأعظمهم النَّبي الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، الذي وصفه الله (سبحانه): (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (5)؛ فالفتاة التي تتعرَّف على النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) كشخصيَّة تجمع بين الرَّحمة والعدل والإخلاص، تتشرب هذه القيم وتصبح مقياسًا لعلاقاتها. كما يوفر تاريخ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) نماذج عمليَّة للعلم والشَّجاعة والزُّهد والعطاء، وخاصَّة سيرة مولاتنا الزَّهراء (عليها السلام) فتتبلور لديها شخصيَّة قادرة على مواجهة عقبات العصر.
ويشكِّل كتاب (نهج البلاغة) مدرسة فكريَّة وأخلاقيَّة تغرس قيم العدل والحريَّة والكرامة. والفتاة التي تنشأ وهي تسمع كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التَّقوى والحكمة تواجه العالم بوعي واسع، ما يؤهلها لتكون زوجة صالحة، وأمًّا حكيمة، وامرأة قائدة في مجتمعها. وتشمل التَّربيَّة الإسلاميَّة المبكرة كذلك الخبرة العمليَّة للعبادات؛ فالصَّلاة والصِّيام تبني للمرأة شخصيَّة متوازنة قادرة على مواجهة المغريات والانحراف.
وقد أظهرت التَّجارب التَّاريخيَّة أنَّ الأمم التي أهملت التَّربيَّة المبكرة دفعت أثمانًا باهظة، بينما الحضارات التي أولت اهتمامًا بالطفولة ربحت أجيالًا صلبة قادرة على حمل الرِّسالة. ومن هذا المنظور، يعترف العلماء والمصلحون بأنَّ الفضل الأوَّل في إعداد الأجيال يعود إلى الأمهات والمعلمات اللواتي زرعن بذور الإيمان والوعي منذ الصغر.
يرى الإمام الشيرازي أنَّ التَّربية المبكرة تمثِّل مسؤوليَّة اجتماعيَّة؛ إذ أنَّ الفتاة المهملة تتحوَّل إلى ثغرة في جسد الأمَّة، بينما الفتاة التي تتلقى تربية صحيحة تصبح حصنًا للمجتمع ودرعًا يحمي قيمه. ويظهر ذلك جليًا في شخصيَّة السَّيِّدة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) (6)، التي تربت في بيت النُّبوة وأصبحت النُّموذج الأمثل للمرأة المسلمة، والسيِّدة زينب (عليها السلام)، التي نشأت في مدرسة القرآن والرِّسالة، فكانت بطلة كربلاء التي شاركت في نشر أهداف النَّهضة الحسينيَّة.
وعليه، تظلُّ الرِّسالة الموجهة اليوم للأسر والمجتمع واضحة: إنَّ أخطر ما يواجه الأمَّة ليس نقص المال أو الموارد، وإنَّما فقر التَّربيَّة.
2. إعداد الفتيات لإدارة بيت الزَّوجيَّة.
عند سماع عبارة: "إعداد الفتيات لإدارة بيت الزَّوجيَّة"، يتبادر إلى أذهان البعض أنَّ المقصود حصر المرأة في المطبخ أو في الأعمال المنزليَّة، فيرفضون الفكرة باعتبارها تقليصًا لدورها أو تقييدًا لها. إلَّا أنَّ هذا التَّصور يحمل ظلمًا مزدوجًا: ظلم للفكرة نفسها وظلم للمرأة؛ فإنَّ إعداد الفتيات للحياة الزَّوجيَّة أوسع بكثير من مجرَّد تعلُّم الطَّهي أو ترتيب المنزل، فهو مشروع متكامل لبناء امرأة واعية قادرة على قيادة الأسرة، وتربية الأجيال، والحفاظ على تماسك البيت وسط عثرات الحياة اليوميَّة.
إنَّ الزَّواج في الرُّؤية الإسلاميَّة هو ميثاق مقدَّس، ومصنع لصناعة الإنسان الصَّالح. وإذا كان الرَّجل يلتزم بالنَّفقة والرِّعاية والحماية، فإنَّ المرأة تتحمَّل مسؤوليَّة موازية في صناعة استقرار الأسرة؛ ولذلك، حينما نتأمَّل في فكر الإمام الشيرازي سنكتشف أنَّ هذا الإعداد يشكِّل ركنًا أساسيًا في بناء الأمَّة، فكما لا يمكن توقع نجاح الطَّبيب من دون تدريب علمي وعملي طويل، كذلك لا يمكن أن تُنشئ الفتاة بيتًا متماسكًا وتربي جيلًا ناجحًا بلا إعداد مسبق وممنهج.
قد يتساءل المرء: ماذا نعني بإدارة بيت الزَّوجيَّة؟
إنَّ أوَّل ما يميِّز إدارة البيت هو (حكمة القيادة الأسريَّة)، حيث تتعلَّم الفتاة كيف توازن بين العاطفة والعقل، وبين الحبِّ والانضباط، فتمنح الزَّوج والأبناء اهتمامًا صادقًا من دون أن تهمل ذاتها. ويلي ذلك (إدارة الخلافات)؛ فالبيت مساحة تتباين فيها الطباع وتختلف الرَّغبات ولا يخلو من المشاكل. وفي هذه الحالة يظهر دور الزَّوجة الواعية التي تجعل الحوار وسيلة للحلِّ، والصَّبر سلاحًا فاعلًا، والاحترام قاعدة ثابتة.
ومن أركان إدارة البيت أيضًا (تنظيم الموارد)؛ فالدَّخل المادِّي مهما بلغ يحتاج إلى تدبير رشيد وحسن استثمار. ثمَّ تأتي (فنون التَّربيَّة)، وهي أعظم المهام؛ لأنَّ جوهر التَّربيَّة غرس القيم وتشكيل الضَّمير الحي.
وهذا الإعداد للفتيات يعلي من مكانتهن، فالأمومة الحقيقيَّة تصنع الإنسان وتبني الحضارات. والتَّاريخ يقدِّم لنا نموذجًا بديعًا في شخصية السيِّدة أم البنين (عليها السلام)، التي ربَّت العباس وإخوته (عليهم السلام) على التَّضحية والفداء، فكانوا أبطال كربلاء، لتبرهن أنَّ حُسنَ إعداد الأم هو عماد صناعة الأبطال.
قد يكون من الأنسب أن يبدأ الإعداد مبكرًا عبر خطَّينِ متكاملينِ:
- التَّعليم النَّظري في مهارات الحياة الزَّوجية وأساليب التَّربيَّة (7).
- التَّدريب العملي من خلال تكليف الفتاة بواجبات صغيرة داخل البيت تمنحها خبرة وثقة تدريجيَّة.
كما يُستحسن أن يسهم المجتمع في هذا المسار عبر مؤسسات تعليميَّة ومناهج تربويَّة تستلهم القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة وتجارب الحكماء، بما يجعل العمليَّة أكثر تنظيمًا.
3. البيت مصنع العظماء.
من أبرز الاعتراضات التي تُسمع اليوم أنَّ بقاء المرأة في بيتها وانشغالها بتربية أبنائها هو نوع من التَّقييد أو تعطيل لطموحاتها، وكأنَّ قيمة الإنسان تُقاس فقط بعدد ساعات عمله في المكاتب أو معاملته للأرقام والملفات. غير أنَّ هذا الطَّرح يغفل حقيقة مركزيَّة، وهي أنَّ أعظم العقول التي غيَّرت مسار البشريَّة لم تُصنع في الجامعات أو المراكز البحثيَّة؛ بل صُنعت أوَّلاً في أحضان الأمهات، وفي دفء البيوت التي احتضنتهم، ومن خلال التَّوجيه الأوَّل الذي تلقوه من نساء عظيمات.
وعند استقراء عمل العلماء والمفكرين، نجد أنَّهم غالبًا يقدِّمون خدماتهم الكبرى للمجتمع من وراء جدران مكاتبهم، حيث يعتكفون للبحث والكتابة بعيدًا عن صخب السُّوق وميدان الإنتاج المباشر. ومع ذلك، يقدِّر المجتمع جهودهم ويعترف بقيمتهم؛ لأنَّ دورهم المركزي إنتاج الأفكار وصياغة العقول. فإذا لم يُقلل أحد من قيمة العالِم لمجرَّد أنَّه لا يحرث الأرض ولا يطرق الحديد، فكيف يمكن التَّقليل من دور المرأة في بيتها؟
مع أنَّ المرأة في رسالتها داخل البيت تقوم بمهمَّة مشابهة وربما أعظم، إذ تُعِد الإنسان نفسه، وتزرع فيه بذور الإيمان، وتعلِّمه أوَّل دروس الحياة، وتغرس في روحه القيم والمبادئ. وإذا كان المفكِّر يصوغ كتابًا أو نظريَّة يعيش بها النَّاس، فإنَّ المرأة تصوغ جيلًا كاملًا يعيش المجتمع ويستمر في نهضته.
4. إتقان الصناعات اليدويَّة والأعمال المنزليَّة.
في عصر تتسابق فيه المجتمعات نحو التكنولوجيا والوسائل الحديثة، قد يبدو الحديث عن تعليم الفتيات الصناعات اليدويَّة والأعمال المنزليَّة أمرًا ثانويًا أو تقليديًا، لا يتناسب مع "روح العصر". غير أنَّ هذا الانطباع يتجاهل فوائد هذه المهارات وأنَّها جزء من الإعداد العملي لشخصيَّة المرأة الواعية، التي تستطيع التَّوازن بين متطلَّبات بيتها ورسالتها الكبرى في بناء المجتمع.
وقد نبَّه الإمام الشيرازي على ضرورة تعلُّم النِّساء هذه المهارات منذ الصغر؛ لأنَّها تصنع منها شخصيَّة قويَّة، وعمليَّة، قادرة على مواجهة الواقع بثقة، لا على الهروب منه؛ فالمرأة التي تتربى على إتقان الحياكة والخياطة والتَّطريز، وعلى تحمل مسؤوليات البيت، تتهيأ منذ نعومة أظفارها لمواجهة المستقبل بثبات ووعي.
وعند النَّظر إلى بيت النُّور؛ بيت أمير المؤمنين علي والسيِّدة فاطمة (عليهما السلام)، نجد مثالًا عمليًا يقتدى به؛ فالسيِّدة الزَّهراء (عليها السلام)، لم تكن ترى عيبًا في القيام بأعمال المنزل، وكانت تعجن وتخبز وتطحن وتعدّ الطَّعام بيدها الكريمة، على الرَّغم من مكانتها العظيمة. وقد كانت تعتبر هذه الأعمال جزءًا من المشاركة في بناء بيت الرِّسالة، وتخفيف المشقة عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
5. بناء الشَّخصيَّة القرآنيَّة المتوازنة.
إنَّ أعظم ما يمكن تقديمه للفتيات في مقتبل العمر هو فتح أبواب القرآن الكريم أمامهن، ليكون كتاب حياتهن ومرجع توازنهن وبوصلة خطواتهن؛ ممَّا يجعلها أقل عُرضة للانحراف عن الطَّريق القويم؛ لذلك أشار الإمام الشيرازي إلى أولويَّة إنشاء مدارس لتحفيظ القرآن الكريم للفتيات، لضمان تكوين المرأة القرآنيَّة الواعية والمتزنة. وأن تركِّز هذه المدارس على دمج التَّعليم الدِّيني بالمهارات العمليَّة والمنزليَّة، فلا تقتصر على الحفظ فقط؛ وإنَّما تسعى إلى إعداد شخصيَّة متكاملة قادرة على تحمل المهام الدِّينيَّة والاجتماعيَّة. فالفتاة التي تحفظ القرآن وتتبع العترة الطاهرة (عليهم السلام)، وفي الوقت ذاته تتقن الخياطة أو التَّطريز أو شؤون البيت، تصبح نموذجًا للمرأة المتوازنة: عقلها مشغول بالعلم، ويدها مشغولة بالإنتاج، وروحها مشغولة بالله (تبارك وتعالى).
وليس هذا تنظيرًا بعيدًا عن الواقع، فقد تأسست في كربلاء المقدَّسة مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وكان عدد الحافظات يقارب ألفًا وخمسمائة فتاة (8). وكنَّ يجمعن بين تحصيل العلم الدِّيني وإتقان الصناعات اليدويَّة، إلى جانب خدمة بيوتهن.
والمطلوب اليوم هو تبني هذه الصِّيغة، في زمن يغلب عليه الإفراط أو التَّفريط؛ فمن جهة، نجد فتيات يتجهن نحو التَّعليم الدِّيني أو الأكاديمي من دون معرفة بالحياة العمليَّة، فيتأزمن عند أوَّل صدمة واقعيَّة في حياتهن الأسريَّة. ومن جهة أخرى، نجد فتيات ينشغلن بالمهارات الدُّنيويَّة أو المظاهر العصريَّة من دون أن يضعن للقرآن مكانًا في قلوبهن، فيفقدن البوصلة ويقعن فريسة للضَّياع. وأمَّا الصِّيغة التي يقدِّمها الإمام الشيرازي (رحمة الله تعالى عليه)، فهي المزج بين العلم الدِّيني والمهارة العمليَّة، بحيث تخرج المرأة قويَّة في شخصيتها، واضحة في رسالتها، قادرة على أن تعبُد الله (سبحانه)، وتخدم أسرتها، وتشارك في بناء مجتمعها.
المحور الثَّاني: المهمات الاجتماعيَّة والخدميَّة (النافلة).
إلى جانب مهمَّات المرأة المحوريَّة، فإنَّ الإسلام -على وفق رؤية الإمام الشيرازي- يفتح لها أبوابًا واسعة في خدمة المجتمع، بشرط الحفاظ على الضَّوابط الشَّرعيَّة، وعدم تعارض هذه الأنشطة مع الأساس العائلي والرِّسالي. ومنها:
1. المشاركة في المشاريع الخيريَّة.
يظنُّ البعض أنَّ العبادة الفرديَّة وحدها هي مقياس قيمة الإنسان، بينما الحقيقة التي جاء بها الإسلام أنَّ الخير الحقيقي يظهر في خدمة النَّاس ومساعدتهم. كما جاء في حديث الرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): "أحَبُّ عِبادِ اللّهِ إلَى اللّهِ أنفَعُهُم لِعِبادِهِ، وأقوَمُهُم بِحَقِّهِ؛ الَّذينَ يُحَبِّبُ إلَيهِمُ المَعروفَ وفِعالَهُ" (9)، ممَّا يعني أنَّ الإيمان لا يكتمل إلَّا إذا تحوَّل إلى عمل نافع للآخرين، وأنَّ قيمة الفرد تتحقق حين يقدّم دورًا في رفعة مجتمعه.
وهنا يتألق دور المرأة المسلمة بوصفها قوَّة فاعلة تستطيع أن تترك أثرًا كبيرًا في المجتمع عن طريق تأسيس صناديق خيريَّة ودعم المشاريع الثَّقافية؛ فالمرأة، بوعيها وحسِّها الإنساني، قادرة على إقامة مشاريع تساعد الأسر الفقيرة في تعليم أولادها، وتوفير مستلزماتها مثل الملابس والقرطاسيَّة والكتب والأدوات التَّعليميَّة. ويذهب أثر هذا العمل إلى أبعد من سدِّ الاحتياجات الماديَّة؛ إذ يزرع الأمل في النُّفوس، ويغرس ثقافة التَّعلُّم والاعتماد على الذَّات، ويصنع جيلًا واعيًا قادرًا على بناء مجتمعه مستقبلًا.
إنَّ تأسيس الصَّناديق الخيريَّة هو رسالة حضاريَّة تؤكِّد أنَّ المرأة شريك فعَّال في صناعة المستقبل.
2. دعم الزَّواج وتيسيره.
في مجتمعنا اليوم، يواجه كثير من الشَّباب والفتيات صعوبات حقيقيَّة عند التَّفكير في الزَّواج المبكر، سواء بسبب الضُّغوط الاقتصاديَّة، أو محدوديَّة الموارد، أو غياب الدَّعم المجتمعي. وهذه الأزمات تؤثِّر على حياتهم الشَّخصيَّة، وتمتد لتؤثِّر في استقرار الأسرة والمجتمع بأسره. ومن هنا تبرز ضرورة تسهيل الزَّواج، سواء عبر تقديم القروض الميسَّرة أو التَّبرعات الماليَّة، بما يمكِّن المرأة والرَّجل من بدء حياتهم الزَّوجية بكرامة واستقرار.
وليس المقصود فقط تقديم المال؛ بل يمكن أن يشمل الدَّعم توفير مستلزمات البيت، والمفروشات، أو التَّسهيلات التَّعليميَّة والمهنيَّة للزوجينِ، بما يجعل بداية حياتهما قوَّية ومستقرة. فكلُّ مساهمة تُقدَّم تتحوَّل إلى أثر مباشر في بناء أسرة صالحة تشارك في بناء المجتمع.
ويتعاظم شرف هذا العمل ويزداد نوره حين نستحضر ما ورد في الرِّوايات عن أهل البيت (عليهم السلام) في فضل هذا العمل؛ ومنها قول الإمامُ الصّادقُ (عليه السلام): "مَن زَوَّجَ أعزَباً كانَ مِمَّن يَنظُرُ اللَّهُ عزّوجلّ إلَيهِ يَومَ القِيامَةِ" (10).
وفي هذا الإطار، يتَّضح الدَّور الفاعل للمرأة المسلمة في المجتمع، فهي قادرة على المشاركة في دعم هذا المشروع، أو إدارته، أو التَّبرع له، وضمان وصول الدَّعم إلى من يحتاج إليه بالفعل. وهكذا يتحوَّل دعم الزَّواج إلى عمل حضاري وإسلامي متكامل، يجمع بين التَّكافل الاجتماعي، وتمكين الشَّباب والفتيات، ونشر الخير، وتحقيق الأجر العظيم.
3. تشكيل الهيئات النِّسائيَّة.
الشَّعائر الحسينيَّة رسالة خالدة تحمل قيم العدل والشَّجاعة والصَّبر والإيثار، وتظهر فيها المرأة بوصفها شريكًا أساسيًا في إحيائها ونشرها داخل المجتمع، ولا سيما بين النِّساء والفتيات اللواتي يتفاعلن بعمق مع المحيط النِّسوي ويتأثرن به تأثيرًا مباشرًا.
وعليه، يُمثِّل تأسيس هيئات حسينيَّة نسائيَّة في كلِّ منطقة خطوة استراتيجيَّة لدعم حضور المرأة في نشر الوعي الدِّيني والرِّسالي. وهذه الهيئات تتيح للمرأة أداء مجموعة من المهام المحوريَّة:
أوَّلًا: تنظيم الأنشطة الدِّينيَّة والثَّقافيَّة، مثل المجالس الحسينيَّة، ودروس السِّيرة، وورش العمل التَّعليميَّة، ممَّا يخلق بيئة تفاعليَّة مستمرة بين النِّساء ويقوي انخراطهن في الفعل الاجتماعي والدِّيني.
ثانيًاً: تربية الأجيال على القيم، فالفتاة التي تشارك في هذه الهيئات تتعلَّم الصَّبر والوفاء وحبَّ الإمام الحسين (عليه السلام)، لتصبح قدوة للأجيال الأصغر.
كما أنَّ دور المرأة في هذه الهيئات يمنحها فرصة ممارسة القيادة والتَّأثير داخل المجتمع النسوي. فكما أنَّ الرِّجال لديهم مجالس وفعَّاليات ينشطون فيها، للنساء الحق في أن يكون لهن حضور مؤثر يرسِّخ القيم ويخلق بيئة تعليميَّة مستمرة.
ويُقدّم التاريخ الإسلامي شواهد عملية على ذلك؛ فالسيِّدة زينب (عليها السلام) لم تقتصر رسالتها على الشَّهادة في كربلاء؛ وإنَّما كانت رائدة في نشر قيم الحقِّ والعدل وتربية الأجيال على حبِّ أهل البيت (عليهم السلام). وهذا المثال التَّاريخي يوضح أنَّ تأسيس الهيئات الحسينيَّة النسائيَّة اليوم استكمال للمسيرة الزَّينبيَّة، وربط بين الماضي والحاضر.
وبذلك، تُصبح الهيئات الحسينيَّة النِّسائيَّة مدارس حقيقيَّة لتربية المرأة، ومنصات تتيح لكلِّ مشاركة نسائيَّة أن تتحوَّل إلى خطوة عمليَّة نحو بناء مجتمع أكثر وعيًا، مع غرس المعاني القرآنيَّة والإيمانيَّة في البيوت.
4. الانخراط في الأعمال الاجتماعيَّة العامَّة.
المرأة تمثِّل نصف المجتمع وعماده، وركيزة في صناعة المستقبل. ومن هذه القاعدة، فإنَّ على النِّساء اللاتي يمتلكن الوقت والقدرة أن يسهمن في المجالات التي يحتاجها المجتمع، مثل المدارس والمستشفيات والأعمال الاجتماعيَّة والخيريَّة، ليكنّ شريكًا فاعلاً في تسيير شؤون الحياة جنبًا إلى جنب مع الرَّجل، مع الحفاظ على كرامتهن وعفتهن.
ولا يعني ذلك التَّخلي عن الدَّور الأسري، فالمشاركة الخارجيَّة امتداد طبيعي له، بحيث تبقى الأسرة محور اهتمام المرأة، وتصبح أعمالها وسيلة لزيادة استقرارها الأسري؛ فالمرأة المسلمة تستطيع الجمع بين العبادة والعمل والخدمة التطوعيَّة، لتكون نموذجًا متكاملًا للتوازن بين الحياة الأسريَّة والعمليَّة. وقد أكَّد التَّاريخ الإسلامي هذا التَّوازن، حيث ساهمت نساء عصر النبوة وما بعده في تربية الأجيال وتنظيم المجتمع والمشاركة في الأعمال الخيرية، مع الحفاظ على كرامتهن وعفتهن.
وهكذا تتجلَّى صورة المرأة في الإسلام بوصفها منبعًا للعطاء، وحاضنة للقيم، وركنًا متينًا في صرح الأمَّة؛ وهي قلب نابض يمدُّ المجتمع بروح الحياة والإيمان، وعقل نيِّر يصنع التَّوازن بين العلم والعمل، ووجدان صادق يزرع في الأجيال معاني الرَّحمة والصَّبر والثَّبات.
يجتمع في شخصيتها نور العبادة الذي يربطها بالله (تعالى)، ووعي المعرفة الذي يفتح لها آفاق البناء، وروح التَّضحية التي تمنحها قدرة على تحمُّل المسؤوليات الجسام. ومن هذا المزيج الفريد ولدت نماذج خالدة من النِّساء، حملن مشاعل الهداية، وخلَّدن أسماءهن في صفحات العظمة والخلود، لتبقى المرأة المسلمة على مرِّ العصور مدرسة تصنع الأجيال، وتنهض بالمجتمع، وتؤسس لحاضرٍ مشرق ومستقبلٍ أكثر قوَّة وكرامة.
اضف تعليق