يدفعنا صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إعادة تشكيل عاداتنا الرقمية، فالمنصات التقليدية تشعر بالضغط الواقع عليها، حيث يتحول مستخدموها بشكل متزايد إلى بدائل تقوم على الذكاء الاصطناعي في مجالي التعلم وإيجاد الحلول للمشكلات. على سبيل المثال، شهد موقع ويكيبيديا تراجعاً ملحوظاً في عدد زواره منذ إطلاق النسخة...

تخيل أنك تجلس على مكتبك، وتمعن التفكير في رسالة بريد إلكتروني مهمة تريد إرسالها إلى عميل رفيع المستوى، وكلماتك لا تتدفق بسهولة، بينما يزداد ضغط اللحظة عليك. وبدلاً من المعاناة مع كل جملة تسجلها في هذه الرسالة، تفضل اللجوء إلى تطبيق تشات جي بي تي وتكتب "مرحباً تشات جي بي تي، هل يمكنك مساعدتي في تحسين صياغة هذا البريد الإلكتروني؟" وفي ثواني معدودة، تظهر نسخة منقحة من رسالتك على الشاشة.

تتكرر مثل هذه المشاهد مرات لا تحصى في جميع أنحاء العالم، حيث حقق الذكاء الاصطناعي التوليدي نجاحاً سريعاً ومنقطع النظير. ومنذ تدشين تطبيق تشات جي بي تي، أصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي وبسلاسة جزءاً من نسيج الحياة اليومية لما يقرب من نصف مليار شخص في جميع أنحاء العالم. إنه أقرب إلى الاندفاع نحو العملات الرقمية المشفرة، حيث ينضم المستخدمون من 209 من البلدان و1 من كل 8 عمال على مستوى العالم إلى ركب هذا الابتكار التكنولوجي. وتُعد الإمكانات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي التوليدي لتعزيز الإنتاجية وإعادة تشكيل الاقتصادات والمجتمعات مذهلةً للغاية.

تتناول ورقة العمل التي نشرناها مؤخراً بشيء من التفصيل ظاهرة الذكاء الاصطناعي التوليدي، باستخدام بياناتٍ جديدة من نسبة استخدام المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت وبرنامج جوجل ترندز. واستهدفنا إبراز مدى سرعة انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي، ومن يستخدمه، وكيف يغير عاداتنا في استخدام شبكة الإنترنت. وقد وجدنا ما يلي:

الصعود الصاروخي للذكاء الاصطناعي التوليدي

حقق الذكاء الاصطناعي التوليدي صعوداً مذهلاً؛ فاعتباراً من مارس/آذار 2024، استقبلت أفضل 40 أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تتبعناها نحو ثلاثة مليارات زيارة شهرية من مئات الملايين من المستخدمين. ويبرز تشات جي بي تي باعتباره البرنامج الرائد بلا منازع لهذه الطفرة، حيث استحوذ على أكثر من 82.5% من إجمالي هذه الزيارات، حيث تلقى أكثر من ملياري زيارة عالمية و500 مليون مستخدم كل شهر. 

تُعد وتيرة اعتماد هذه التكنولوجيا جديرة بالملاحظة بشكل خاص، حيث حقق تشات جي بي تي رقماً قياسياً باعتباره البرنامج الموجه للمستهلكين الأسرع نمواً في التاريخ، حيث وصل عدد مستخدميه إلى 100 مليون مستخدم بعد 64 يوماً فقط من إصدار نسخته المحدثة تشات جي بي تي 3.5 في مايو/أيار 2023. ولم يكن تشات جي بي تي الوحيد الذي شهد هذه الزيادة الهائلة، فقد تجاوز عدد مستخدمي روبوت الدردشة الآلية إرني بوت التابع لشركة بايدو 200 مليون مستخدم في غضون ثمانية أشهر فقط من إطلاقه.

على الرغم من هذه الأرقام المثيرة للإعجاب، لا يزال حجم زيارات أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي متأخراً بشكل كبير عن المواقع الإلكترونية الأكثر شهرة. كما أن هناك مؤشرات على تشبع السوق وعلى حدة المنافسة. فعلى سبيل المثال، يحصل برنامج تشات جي بي تي على نسبة تقل عن 2% من حجم الزيارات اليومية لموقع جوجل. كما يشهد العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما فيها تشات جي بي تي، ثباتاً في معدلات المستخدمين منذ منتصف عام 2023، مما يشير إلى أن الأثر الأولي للجدة والحداثة الذي صاحب هذه البرامج بدأ يتلاشى وأن المنافسة تزداد حدتها يوماً بعد يوم. وبالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يعتمد النمو المستقبلي للذكاء الاصطناعي التوليدي على توسيع حدود قدراته واكتشاف طرق مبتكرة لدمج أدواته في تطبيقاتٍ عملية مختلفة. ومع تطور المشهد في عالم الذكاء الاصطناعي، سيتطلب البقاءُ في الطليعة وتحقيق الريادة التكيفَ المستمر مع الواقع واستكشاف الإمكانيات الجديدة في هذا العالم.

أوائل المعتمدين للذكاء الاصطناعي التوليدي: مَنْ هم مستخدموه؟ وكيف يستخدموه؟

توفر خصائص مستخدمي الذكاء الاصطناعي التوليدي رؤى قيمة حول نقاط قوته والتحديات التي يواجهها، حيث يأتي الذكور الأصغر سناً وذوي التعليم العالي في طليعة مستخدمي هذه الأدوات. وتمثل النساء ثُلث مستخدمي تشات جي بي تي فقط، وهي نسبة تقل كثيراً عن نسبة من يستخدمن موقع جوجل (48% إناث) وموقع ويكيبيديا (52% إناث). ويأتي الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً في طليعة المستخدمين الأكثر نشاطاً، لا سيما استخدامهم لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي المُنتجة للفيديوهات. كما أن ما يقرب من نصف مستخدمي روبوتات الدردشة الآلية يحملون شهادة جامعية، وهو ما يتجاوز المستوى التعليمي لقاعدة مستخدمي موقع جوجل.

من المثير للاهتمام أن تشات جي بي تي يَعرِض أنماط استخدام تتناقض بشكل حاد مع منصات الترفيه التقليدية مثل نتفليكس. ففي حين تشهد نتفليكس ارتفاعاً كبيراً في نسب المشاهدة خلال عطلة نهاية الأسبوع، يبلغ استخدام تشات جي بي تي ذروته خلال أيام العمل الأسبوعية، مما يُظهر نمطاً متعرجاً وواضحاً يجعل معدل استخدام جوجل يبدو مستقراً عند المقارنة بينها. وينخفض استخدام عطلة نهاية الأسبوع إلى حوالي ثلثي أعلى مستوياته في أيام العمل، مما يشير إلى أن الأشخاص ربما يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي لأداء المهام المتعلقة بالعمل.

يدفعنا صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إعادة تشكيل عاداتنا الرقمية، فالمنصات التقليدية تشعر بالضغط الواقع عليها، حيث يتحول مستخدموها بشكل متزايد إلى بدائل تقوم على الذكاء الاصطناعي في مجالي التعلم وإيجاد الحلول للمشكلات. على سبيل المثال، شهد موقع ويكيبيديا تراجعاً ملحوظاً في عدد زواره منذ إطلاق النسخة جي بي تي-4، في حين تمكن برنامج الترجمة الآلية جوجل ترانسليت وبرنامج جرامرلي من استعادة مكانتهما بعد توسيع قدراتهما باستخدام الذكاء الاصطناعي. ويعتمد المزيد من المستخدمين على تشات جي بي تي للحصول على المعلومات وتطوير المهارات ومعالجة اللغات، كما أنه يساعد أيضاً في إنجاز المهام المعرفية والتحليلية الأكثر تعقيداً. ومع استمرار التطور في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، سيكون فهم الخصائص السكانية للمستخدمين وأنماط الاستخدام أمراً بالغ الأهمية للشركات المنتجة لتطبيقاته، وأيضاً لمنشآت الأعمال التي تسعى إلى تسخير إمكاناته الكاملة.

في الوقت الذي حقق فيه استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي انتشاراً غير مسبوق، يتفاوت الإقبال عليه بشكل كبير بين البلدان اعتماداً على مستوياتها الإنمائية. فمع نهاية مارس/آذار 2024، وصل تشات جي بي تي إلى المستخدمين في 209 بلداً، مما أظهر انتشاره المثير للإعجاب على مستوى العالم. غير أن هذا الانتشار لم يخل من التحديات، حيث لا تزال الفجوة الرقمية المستمرة واضحة.

تمثل البلدان منخفضة الدخل أقل من 1% من مستخدمي تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مما يبرز المعوقات التي تواجهها هذه البلدان في الوصول إلى هذه التكنولوجيا والاستفادة منها. وفي المقابل، برزت البلدان متوسطة الدخل بشكل كبير وغير متوقع في التفاعل مع ظاهرة الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث هيمنت على المشهد من خلال استحواذها على نصف إجمالي عدد مستخدمي برنامج تشات جي بي تي. ومن اللافت للنظر أنه في غضون ستة أشهر فقط من إصدار هذا البرنامج، تجاوز عدد مستخدميه في البلدان متوسطة الدخل نظيره في البلدان مرتفعة الدخل. وهناك عدد من البلدان مثل الهند والبرازيل والفلبين وإندونيسيا التي تُظهر معدلاتٍ عالية من اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي عند مقارنتها بإجمالي الناتج المحلي واستهلاك الكهرباء ومعدل استخدام محركات البحث..

تساهم عدة عوامل رئيسية في تفاوت مستويات اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي من بلد إلى آخر، منها:

- البنية التحتية الرقمية: هناك علاقة واضحة بين ارتفاع معدل الاشتراك في خدمات النطاق العريض الثابت، والسرعات العالية للاتصال بشبكة الإنترنت، وبين زيادة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي.

- التخصص في خدمات القطاع الرقمي: تُظهر الاقتصادات التي تركز على صادرات الخدمات الرقمية ولديها عدد كافٍ من أصحاب المهارات الرقمية إلى معدلاتٍ مرتفعة من اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي. 

- إتقان اللغة الإنجليزية: بينما ترتبط الطلاقة في اللغة الإنجليزية ارتباطاً وثيقاً بزيادة استخدام روبوتات الدردشة الآلية، غير أنها لا تمتد بالضرورة إلى أنواع أخرى من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي أو الاستخدام العام لشبكة الإنترنت.

- قوة الشباب: يرتبط ارتفاع عدد السكان من الشباب بارتفاع نسبة الإقبال على الذكاء الاصطناعي التوليدي.

الذكاء الاصطناعي التوليدي للجميع: ضمان العدل في تيسير سبل الاستخدام وتوزيع المنافع

تُعد الإمكانات ذات الأثر التحويلي التي يحتوي عليها الذكاء الاصطناعي التوليدي هائلة، لكنها تأتي مقترنة بالتحدي الكبير المتمثل في ضمان التوزيع العادل لمنافعه. وفي حين يُعد الاعتماد السريع لهذه التكنولوجيا في البلدان متوسطة الدخل أمراً واعداً، فإنه يبرز أيضاً اتساع الفجوة مع البلدان منخفضة الدخل.

يؤدي واضعو السياسات دوراً حيوياً، حيث يجب عليهم تسريع الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتعزيز تنمية المهارات الرقمية، ودعم نمو القطاعات الرقمية. كما أن معالجة الحواجز اللغوية في أدوات الذكاء الاصطناعي واتخاذ التدابير الاحترازية لضمان الاستخدام الأخلاقي لأدوات الذكاء الاصطناعي من الأمور بالغة الأهمية لأصحاب المصلحة المباشرة في هذه الصناعة. ويساعدنا اكتساب فهم أعمق لأنماط اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيراتها في عملنا من أجل بناء مستقبلٍ تكون فيه فوائد الذكاء الاصطناعي في متناول الجميع. ولن يسهم ذلك في تحقيق النمو المستدام والشامل في جميع أنحاء العالم فحسب، بل سيسخر أيضاً الإمكانات الكاملة للتكنولوجيا الرقمية لتحسين أوجه الحياة على هذا الكوكب.

* بقلم: كريستين جينواي تشيانغ، مديرة عامة لقطاع الممارسات العالمية للتحول الرقمي

يان ليو، خبيرة اقتصادية أولى في شؤون التحول الرقمي

هي وانغ، مستشار في شؤون التحول الرقمي

https://blogs.worldbank.org/

اضف تعليق