حينما اختار العراق فتح حدوده للقادمين من الخارج، ولم تغلقها في اصعب لحظات وجودها ابان مرحلة الإرهاب والاضطراب الداخلي، تكون الدولة قد ألزمت نفسها بمسؤولية الحفاظ على أمن وحياة الملايين في سياق التزامها بالقانون الدولي، مدركة أن ذلك يحملها التزامات كبيرة ويدخلها في تحدٍ كبير أمام نفسها والعالم...
يستعد العراق لتنظيم واستقبال ملايين الزائرين من خارجه وداخله المتجهين إلى كربلاء، إدارة هذه الحشود المليونية، لم تعد مشكلة ادارية ولوجستية وخدماتية فحسب، انما مشكلة امنية - سياسية تمس السيادة والأمن والعلاقات الخارجية للدولة العراقية.
حينما اختار العراق فتح حدوده للقادمين من الخارج، ولم تغلقها في اصعب لحظات وجودها ابان مرحلة الإرهاب والاضطراب الداخلي، تكون الدولة قد ألزمت نفسها بمسؤولية الحفاظ على أمن وحياة الملايين في سياق التزامها بالقانون الدولي، مدركة أن ذلك يحملها التزامات كبيرة ويدخلها في تحدٍ كبير أمام نفسها والعالم، لتبرهن على قدرتها في تنفيذ سياساتها العامة التي يعّرفها علي الدين هلال وزملاؤه بأنها: مجموعة القواعد والبرامج الحكومية، التي تشكل قرارات ومخرجات النظام السياسي بصدد مجال معين، ويتم التعبير عن السياسة العامة في عدة صور وأشكال منها: القوانين واللوائح والقرارات الادارية والاحكام القضائية). بموجب مفهوم السياسة العامة، فإن الدولة العراقية تمارس سلطاتها وتعبئ امكاناتها في بيئة سياسية وأمنية واجتماعية معقدة، ونقص حاد أحيانا في الخدمات الضرورية لتحقيق مصلحة اجتماعية - سياسية، تتمثل في تسهيل حركة حشود هائلة تؤدي طقسا دينيا وشعيرة مذهبية، تتخللها قيام أفراد أو جماعات صغيرة بتوظيفات سياسية، وتطرح فيها شعارات وتوجهات يهدد بعضها أهداف السياسة العامة للدولة.
نجحت السلطات خلال العشرين عاما المنصرمة، في تنظيم موسم الزيارات بضم جهود مواطنيها ومؤسساتها الأمنية والخدمية بكل ما تستطيع لتكريس نجاحها، وتجلَّت الروح العالية والعطاء منقطع النظير لملايين العراقيين، الذين يتطوعون سنويا لإنجاح موسم الزيارة، غير أن الزيادة الكبيرة في أعداد الوافدين، ودخول دولهم على خط التنسيق والتفاوض والتنظيم، صار يلزم السلطات العراقية بالتحرك نحو مأسسة ادارة الحشود وتأمين عملية دخولها وانتقالها وحركتها واقامتها ومغادرتها، لخدمة أغراض الأمن الوطني والسياسة العامة والعلاقات الخارجية والاقتصاد الكلي.
فمن غير الجائز أن تمر مواسم الزيارة دون تسويق ثقافي وخطاب اعلامي يخدم الدور السياسي للدولة العراقية في محيطها الاقليمي والدولي، ومن غير المنطقي أن تكون مناسبة دخول الحشود عبئا خدميا وأمنيا واقتصاديا، يستنزف الدولة ويجعلها في مرمى تدخلات خارجية وضغوط سياسية استثمارا للعاطفة الدينية، دونما حساب للكلف الهائلة التي يتحملها العراق، ثمة موقف مناظر يمكن الاستفادة من تجربته والقياس عليه، فقد نجحت السلطات السعودية في تحويل موسم الحج إلى رافعة للاقتصاد الوطني وفرصة استثمارية عظيمة لتسويق سياساتها الداخلية والخارجية، وتشكيل صور ايجابية عن الدولة امام ملايين الحجاج والمعتمرين، نموذج ذلك ما أعلن عنه وزير السياحة السعودي منتصف تموز يوليو، عندما أكد بلوغ عدد الزائرين (سياحة دينية واثارية ورياضية وطبيعية) ستين مليون سائح في ستة اشهر فقط، انفقوا فيها قرابة الأربعين مليار دولار داخل المملكة، بما زاد على مخطط الرؤية التنموية (2020- 2030) التي وضعت هدف المئة مليون سائح في نهاية الخطة.
زيارة الاربعين وغيرها من الزيارات في العراق تجتذب الملايين، وبتصريح محافظ كربلاء، فإن كربلاء وحدها تستقبل سنويا 80 مليون زائر من الداخل والخارج، أي أن السياحة الداخلية والخارجية تستطيع أن تكون محركا كبيرا للنشاط الاقتصادي وموردا مهما من موارد الدخل القومي، وعنصرا مؤثرا من عناصر السياستين الاقتصادية والخارجية، وفرصة نادرة لاعادة العراق عنصرا من عناصر الاستقرار والفاعلية الامنية والتفاوضية، لصياغة أمن اقليمي مستدام ومنطقة اقتصادية فاعلة.
ما يهدد هذه الفرصة غياب المدرك الاستراتيجي لدى الفاعل السياسي والديني والاجتماعي، الذي يتعامل بسطحية وسذاجة بما يشكله موقع العراق الروحي والديني والمعنوي والتاريخي علاوة على موقعه الجيوسياسي وامكاناته الاقتصادية، يتحدث كثيرون عن غنى العراق الأزلي، وأنه مركز جذب تاريخي للطامحين والطامعين، لكن البنية السياسية والاجتماعية ما زالت متخلفة كثيرا عن تحويل العراق إلى فرصة استثمارية كبيرة وفاعل اقليمي ودولي مؤثر، التخلف الكبير هذا جعل العراق ساحة تدخل مزمن في شؤونه الداخلية وبيئة سلبية تستقبل مؤثرات خارجية، بدلا من أن تكون اداة فعل للسياسة الخارجية، تخدم أغراض الأمن والاقتصاد والدبلوماسية والتأثير الثقافي والمعنوي.
لم تعد الزيارات طقسا شعبيا يؤدى بعفوية وتطوع من دون ادارة سياسية وفكرية وتنظيمية من الدولة، إدارة الزيارات فعل سيادي لأنها من صميم إدارة الأمن الداخلي والخارجي، والسيادة بمفهومها الشامل لا تقبل إملاءات مزاجية لدول وجماعات وأحزاب وقوى دينية أو سياسية تستثمر المواسم الدينية، لتخدم منظوراتها وشعاراتها ومعاركها مع خصومها الداخليين والخارجيين، الزيارات المليونية ملحمة عاطفة دينية يجب أن تنضبط بمحددات تبعدها عن التسييس لأنها ستصبح تهديدا للأمن الوطني العراقي.
اضف تعليق