يتفشى النفاقُ السلوكي في وسائل التواصل، وهو أحدُ الأمراض المقيمة فيها. للنفاق السلوكي قوةٌ تدميرية مخيفة على العلاقات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، والتربية الذوقية. تتضخمُ الفردانيةُ المطلقة في حياة جيل الألفية الجديدة، الذي ينفق ساعاتٍ طويلة في وسائل التواصل، أحيانًا وهو يعيش داخل المنزل لا يتواصل مع أحد...
التطورُ العلمي قدرٌ مفروضٌ على الإنسان، لا يستطيع الإنسانُ إيقافَه أو تعطيلَه، ولا يستطيع منعَ الولاداتِ المتوالية للتكنولوجيات الجديدة، إلا إذا تعطّل العقلُ والتفكير والعلم والاكتشاف. العقلُ خُلِق للتفكير، يصعبُ على الإنسان الذكي توقفُ تفكيره وصمتُ عقله.
مادام الإنسانُ ينفرد بملكة التفكير يندهش ويتسائل، ويحاول أن يكتشف أعماقَ ما يراه من حوله، ويتحرّى عن أسبابه والقوانين المتحكمة فيه. اختراعُ الآلة البخارية، واكتشافُ الكهرباء، والإنترنت، كانت مؤثرةً في كلِّ شيء في حياة الإنسان. أحدثت هذه الأشياءُ منعطفًا عميقًا في حياة الأفراد والمجتمعات، وخلقت كيفيةً أخرى لوجود الإنسان في العالم.
كما أن التكنولوجيا ليست محايدةً حيال اقتصاد المجتمع فهي ليست محايدةً حيال معتقدات الإنسان وقيمه وثقافته ورؤاه للعالم وكيفية تعامله مع غيره. تُحدِث التكنولوجيات الجديدة تصدعاتٍ حادة في منظومات القيم، ورضّات نفسية شديدة تزلزل العلاقات الاجتماعية، وتعصف بكيان المجتمع والعائلة، وتتسبب بانهياراتٍ روحية وعاطفية ونفسية وقيمية عنيفة.
أتحدثُ عن حياة الإنسان على الأرض كما عاشها في الماضي ويعيشها اليوم. أتحدثُ عن هذه الحياة إن لم تفتك بها حربٌ نووية شاملة. أو أوبئةٌ غامضة مميتة، يعجزُ الإنسانُ عن الوقاية والشفاء منها. أو تغيراتٌ مناخية تتجاوز “الغليان الحراري العالمي”[1]. أو عبثُ علماءِ وراثة بالجينات، وانتاجُ كائن غريب متوحش يقضي على الإنسان. أو تطويرُ أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مستوى يفوق إمكانيةَ الإنسان على تسييرها والسيطرة عليها والتحكم فيها.
أنتج الإنسانُ العائلةَ تلبيةً لضروراتٍ فرضتها طبيعةُ حياتِه على الأرض. في مقدمة هذه الضرورات الحاجةُ العميقة لمعنى عاطفي وروحي وأخلاقي وجمالي، يمنح الإنسانَ الأمانَ والمحبة والحنان والتراحم.كانت وما زالت العائلةُ في أكثر المجتمعات ملاذًا نفسيًا وعاطفيًا وروحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا آمنًا للإنسان. العائلةُ تحمي الإنسانَ من التشرّدِ والعيشِ في عزلة مريرة، وتأمينِ ملجأ يأوي الإنسانُ إليه في حالة المرض والعجز والشيخوخة.
العائلةُ منبعٌ غزير للمعاني العاطفية والروحية والعلاقات الحميمية بلا مقابل مادي، في أحضانها يتوالدُ ويتدفق الحنان والتراحم والمودة والسكينة. يصعب جدًا على الإنسان أن يبني مؤسسةً تفيض عليه هذه المعاني الثمينة خارجَ فضاء العائلة. وظائفُ العائلة المادية يمكن تأمينُها عبر بدائل تكفلها مؤسساتُ المجتمع والدولة، غير أن الحنانَ والتراحمَ والمودة والسكينة يصعب جدًا في كثيرٍ من الأحيان تأمينُها خارجَ العائلة. العيشُ خارجَ فضاء العائلة ضربٌ من العيش الذي يُشعِرُ الإنسانَ أنه قابعٌ في منفىً كئيب، لا يطيق العيشَ الاختياري فيه إلا إنسانٌ استثنائي.
تسارعت وتيرةُ التغيير الاجتماعي في عصرنا، بسبب العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، وما أحدثته من تحولاتٍ عميقة في منظومات القيم والعلاقات الضامنة لتماسك العائلة وتكافلها.
وعبثت تطبيقاتُ الإنترنت ووسائلُ التواصل بنسيج العائلة، وأنهكت أواصرَها العضوية المتجذّرة. وقبل ذلك قوّض نمطُ الحياة الرأسمالية المتوحشة بنيةَ العائلة، وزلزلَ التكافل العائلي في أوروبا وغيرها من المجتمعات الغربية، وبدأ هذا الزلزالُ يزحف إلى مجتمعات تقليدية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. لم تعد العائلةُ ملجأً للأمن النفسي والعاطفي والروحي والاقتصادي والاجتماعي كما كانت أمس، وترسخت الفردانيةُ المطلقة بشكل مريع، بنحوٍ صار فيه كلُّ إنسان يعيش بنفسه لنفسه، ولا يشعر بأية مسؤولية حيال أهله، وانهارت الوشائجُ العضوية بين الأبناء والآباء والأخوة والأخوات، ورُحّلتْ وظائفُ العائلة الاقتصادية للدولة ومؤسسات الضمان. إلا أن الدولةَ تعذّر عليها تعويضُ الأمن النفسي والعاطفي والروحي للإنسان الذي كانت تكفله العائلةُ لأفرادها.
الفردانيةُ المطلقة ضدّ طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا عاطفيًّا، صلاتُه الأصيلة بغيره تحقّق وجودَه وتثريه، وتمنح حياتَه معنى. الإنسانُ يشقى عندما يعيش منكفئًا على ذاته، لا يتصل بأحد، ولا يتصل به أحدٌ من الناس، لا يُشعرُه أحدٌ بمحبتِه الصادقة وعطفه، واعترافِه بأفعاله ومواقفه ومنجزاته. ويكشف التهافتُ على وسائل التواصل، وكثافةُ النشرِ في تطبيقاتها، حاجةَ الإنسانِ الشديدةَ للغير. الفردانيةُ المطلقة ليست قيمةً إنسانية، لأنها تنتهي إلى مواقفَ أنانية لا مسؤولة حيالَ قضايا الإنسان الأخلاقية العادلة. الفردانيةُ المطلقة تضيع معها القيمُ السامية للمحبة والتراحم والعطاء والإحسان والإيثار والوفاء والتكافل والتضامن، وهي قيمٌ تتفسخُ العلاقاتُ الاجتماعية بفقدانها، وتضمحلّ كلُّ المعاني الجميلة المُلهمة في الحياة باختفائها. باختفائها يختفي تقديرُ الإنسان لذاته، عندما لا يجدُ مَن يقدّره أو يعترف به أو يعطف عليه، ويتبدّد كلُّ معنىً يمكن أن يمنحه بناءُ مفهوم الفرد للإنسان[2].
وسائلُ التواصل تمارس ضربًا من الإكراه، لا يقتصر على النصوص المنشورة فيها فقط، بل حتى الخوارزميات والذكاء الاصطناعي الذي يتحكم في عملية توزيع منشورات أصحاب الصفحات، تمارس تحيزاتِها وإكراهاتها، كأنها محكومةٌ بأيديولوجيا، يمكن تسميتُها: “أيديولوجيا الخوارزميات”. هذا الضرب من الإكراه لا تختصّ به وسائلُ التواصل، بل نراه أيضًا في مقرّرات التربية والتعليم التلقينية المفروضة على التلامذة، وحتى في الأكاديميات، والقوالب الجاهزة لإعداد أطروحات ورسائل الدراسات العليا، وبحوث الترقية والألقاب العلمية، في الجامعات الخاضعة لأيديولوجيات سلطات شمولية.
وسائل التواصل أثرها لا يقل عن أثر المدارس، بل أثر وسائل التواصل في التنشئة والتربية والتعليم والتثقيف أعظم من أثر المدارس اليوم. تعيد هذه الوسائلُ انتاجَ القيم الأخلاقية، والذوق الفني، والعلاقات الاجتماعية، على شاكلتها. يصعب جدًا وربما يتعذر إعادةُ دور العائلة في التنشئة الاجتماعية بوسائلها وأساليبها التقليدية الموروثة اليوم. مضمونُ لغة الأبناء غريب على لغة الآباء، ولغةُ الآباء غريبة على لغة الأبناء، لم يعد الأبناءُ يفهمون مضمونَ لغة الآباء، ولم يعد الآباءُ يفهمون لغةَ الأبناء، كأن الكلامَ بينهما كلامٌ بين طرشان.
وسائلُ التواصل أنهكت الأواصرَ التقليدية داخل نسيج العائلة، وعملت على تصدع الروابط الزوجية، وارتفاع نسبة الطلاق، كما تتحدث سجلاتُ محاكم الأحوال الشخصية. يقول: إبراهيم سليم، رئيس صندوق المأذونين الشرعيين بمصر، إن “حالات الطلاق في مصر ستقل بنسبة 60% إذا تم غلق الإنترنت ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي”. وفي تصريحات تلفزيونية، قال سليم: “قبل الإنترنت، كان لدينا 84 ألف حالة طلاق في عام 2008، لكن هذا الرقم ارتفع الآن إلى 222 ألف حالة”[3].
مَن يدعو لغلق الإنترنت ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي كمَن يطلب عدم استعمال الكهرباء. هذه الدعوة تقفز على الواقع، وتعكس تبسيطًا في إدراك نمط الوجود الجديد للإنسان في العالم، الذي فرضه الحضور الطاغي للإنترنت في مختلف حقول حياة الإنسان وشؤونه ونشاطاته.
لم تعد القيمُ التقليدية كافيةً للوقاية من آثار وسائل التواصل، ولا قوانينُ الحظر والعقوبات المفروضة في بعض الدول، لعجزها عن التحكم التام في الفضاء السيبراني المشاع. سياسيةُ الحظر فضلًا عن أنها غير ممكنة، هي انتهاكٌ للمجال العام، ومصادرةٌ لحق الإنسان في تيسير شؤون حياته وتأمين مختلف احتياجاته المتنوعة. الإنترنت يخدم الإنسانَ في كل مؤسساته ونشاطاته وشؤونه الشخصية والمجتمعية، ولا يمكن أن يستغنيَ عنه مجتمعٌ أو دولةٌ اليوم.
يتفشى النفاقُ السلوكي في وسائل التواصل، وهو أحدُ الأمراض المقيمة فيها. للنفاق السلوكي قوةٌ تدميرية مخيفة على العلاقات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، والتربية الذوقية. تتضخمُ الفردانيةُ المطلقة في حياة جيل الألفية الجديدة، الذي ينفق ساعاتٍ طويلة في وسائل التواصل.
أحيانًا وهو يعيش داخل المنزل لا يتواصل مع أحد، غارقًا في أنفاق هذه الوسائل، منقطعًا عن الأب والأم والعائلة. رأيت بعضَهم حتى في أوقات الطعام لا يحضر المائدة مع الأهل. كأن هؤلاء الأبناءَ ضيوفٌ في العائلة. وإن كان الضيفُ يشارك مُضيِّفيه أحاديثهم، يجلس معهم على مائدة طعام واحدة، ويتفاعل مع الأحاديث والمواقف مادام في ضيافتهم. الأبناءُ في الوقت الذي يعيشون فيه داخل البيت بأجسادهم، يعيشون خارجَ البيت بعلاقاتهم الاجتماعية، وروافدِ تربيتهم وتعليمهم وثقافتهم، وهواياتِهم وأمانيهم وأحلامهم، وربما حتى بمشاعرهم وعواطفهم.
اضف تعليق