ALEXANDRA BORCHARDT
أكسفورد ــ كان قانون إنفاذ الشبكات ــ الذي بموجبه قد تتكبد منصات وسائط التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ويوتيوب غرامة تصل إلى 50 مليون يورو (63 مليون دولار أميركي) عن كل مشاركة "غير قانونية بوضوح" في غضون 24 ساعة من تلقي إخطار ــ مثيرا للجدال منذ البداية. فبعد دخوله حيز التنفيذ الكامل في يناير/كانون الثاني، انطلقت صرخة احتجاج هائلة، حيث زعم المنتقدون من مختلف ألوان الطيف السياسي أن القانون يمثل تحريضا للرقابة. واحتجوا بأن الحكومة تتنازل عن صلاحياتها لمصلحة أصحاب المصالح الخاصة.
أتكون هذه إذن بداية نهاية حرية التعبير في ألمانيا؟
بالطبع كلا. من المؤكد أن قانون إنفاذ الشبكات في ألمانيا هو الضابط التنظيمي الأكثر صرامة من نوعه في أوروبا التي تُبدي انزعاجا متزايدا إزاء شركات وسائط الإعلام الاجتماعية القوية في أميركا. والواقع أن المنتقدين محقون بعض الشيء بشأن نقاط ضعف تعيب القانون. لكن إمكانيات التعبير الحر ستظل وفيرة، حتى وإن حُذِفَت بعض المشاركات عن طريق الخطأ.
الحقيقة أن القانون يبعث برسالة مهمة مفادها أن الديمقراطيات لن تظل صامتة بينما يتعرض مواطنوها لخطاب وصور الكراهية والعنف ــ المحتوى الذي قد يحفز، كما نعلم، الكراهية والعنف في العالَم الحقيقي. ومن المؤكد أن رفض حماية جماهير الناس، وخاصة الأكثر ضعفا، من محتوى بالغ الخطورة باسم "حرية التعبير"، لا يخدم في واقع الأمر سوى مصالح أولئك المميزين بالفعل، بدءا بالشركات القوية التي تدفع عملية نشر وإتاحة المعلومات.
كان الخطاب خاضعا دوما للتصفية والغربلة. ففي المجتمعات الديمقراطية، يحق لكل شخص أن يعبر عن نفسه داخل حدود القانون، ولكن لم يضمن النظام لأحد قط جمهورا من المستمعين. وفي سعيهم إلى توليد أي تأثير حقيقي، كان المواطنون يضطرون دوما إلى سؤال أو تحاشي حراس البوابات، الذين يقررون أي القضايا والأفكار مهمة وتستحق التضخيم، سواء كان ذلك من خلال وسائل الإعلام، أو المؤسسات السياسية، أو الاحتجاجات.
ويصدق نفس الشيء اليوم، إلا أن حراس البوابات تحولوا اليوم إلى خوارزميات تقوم تلقائيا بتصفية وغربلة وترتيب كل المساهمات. بطبيعة الحال، يمكن برمجة الخوارزميات على أي نحو يروق للشركات، بمعنى أنها ربما تعطي أهمية خاصة للصفات المشتركة بين الصحافيين المحترفين: المصداقية، والذكاء، والتماسك.
لكن منصات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تعطي الأولوية في الأرجح لإمكانية تحصيل عائدات الإعلان قبل أي شيء آخر. ولهذا، فإن الأكثر صخبا هو الذي يُكافأ غالبا بمكبر الصوت، في حين لا تُسمَع الأصوات الأقل استقطابا والأقل حظوة، حتى لو كانت توفر لنا وجهات النظر الذكية والدقيقة التي يمكن الانتفاع بها حقا لإثراء المناقشات العامة.
إذا لم تقم الخوارزمية بوظيفة إسكات الأصوات الأقل حظوة، يتدخل المتصيدون على الإنترنت غالبا فيوجهون خطاب الكراهية والتهديد ضد أي شخص يختارون. وفي الأرجح تكون النساء والأقليات ضحايا المضايقات على الإنترنت، لكن أي شخص من الممكن أن يُستَهدَف. على سبيل المثال، أصبح المدون الألماني ريتشارد جوتجار موضوعا لنظريات المؤامرة وهدفا لمضايقات مكثفة بعد تواجده بالقرب من موقعي هجومين إرهابيين يفصل بين وقوعهما أسبوعان.
كثيرا ما يستجيب ضحايا التحرش على الإنترنت بالرقابة الذاتية، مع تآكل شعورهم بالأمان بل وحتى تقديرهم لذواتهم، فيزيلون أنفسهم من وسائط التواصل الاجتماعي تماما. من هذا المنظور، تعطي الدول في واقع الأمر الامتياز لخطاب الكراهية، من خلال تقديم سبل الحماية الشاملة باسم "حرية التعبير". ولكن لماذا ينبغي أن تكون حقوق الضحية أقل أهمية من حقوق من يستأسدون عليها؟
في الديمقراطية، لا يجوز لحقوق الكثيرين أن تأتي على حساب حقوق القِلة. وفي عصر الخوارزميات، يتعين على الحكومات أن تضمن، أكثر من أي وقت مضى، حماية الأصوات الضعيفة، بل وحتى الانحياز لصالح الضحية على سبيل الاحتياط. وإذا كان الأشخاص الضعفاء بالفعل محاصرين من قِبَل الغوغاء من المتطرفين والمعتدين، فمن المفهوم بشكل كامل أنهم سوف يخشون الحديث صراحة. وإذا حدث هذا فإنه يعني وفاة "حرية التعبير".
ليس كل من ينتقد قانون إنفاذ الشبكات، يشكك في هذا التقييم: إذ يزعم بعض المعلقين أن خطاب الضعفاء يحتاج إلى حماية إضافية. ولكنهم يؤكدون أيضا أن سبل الحماية الضرورية قائمة بالفعل. فالإهانة الشديدة والتحريض على الكراهية والعنف سلوكيات محظورة بالفعل، ومن الممكن مقاضاة من يرتكبون مثل هذه السلوكيات. على سبيل المثال، يفضل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التركيز على تعزيز قدرة النظام القضائي على التعامل مع خطاب الكراهية والتضليل.
لكن في العصر الرقمي، تشكل السرعة عنصرا حاسما. فالتكنولوجيا فورية، ومن الممكن تقاسم المشاركات على الإنترنت في غضون دقائق على نطاق واسع. وتتحرك المؤسسات الديمقراطية ببطء شديد ــ أبطأ كثيرا من أن تتمكن الشرطة والمحاكم من العمل بفعالية في مكافحة المتصيدين والكراهية على الإنترنت. والعديد من الضحايا ليسوا في أي موقف يسمح لهم باستئجار محام بتمتع بمهارة عالية، كما فعل جوتجار. والاعتماد على المؤسسات الأكثر تثاقلا في الدولة وحدها ليس استراتيجية فعّالة لحماية حرية التعبير على شبكات الاتصالات الرقمية اليوم.
من الأهمية بمكان أن يُنَظَّم الهجوم على خطاب الكراهية وغير ذلك من أشكال المحتوى الخطير والمخالف للقانون في المنبع. فمن ناحية هناك حاجة إلى تعزيز جهود محو أمية وسائط التواصل من جانب المستهلكين، الذين يجب أن يتعلموا بدءا من سن مبكرة عن العواقب الحقيقية التي قد تترتب على خطاب الكراهية على الإنترنت. ومن ناحية أخرى ــ وهذا هو ما يسعى قانون إنفاذ الشركات إلى ضمانه ــ يتعين على منصات وسائط التواصل الاجتماعي أن تضمن تصميم منتجاتها على النحو الذي يشجع الاستخدام المسؤول.
لكن هذا ليس حلا سريعا. بل إنه على العكس من ذلك يطالب بإعادة التفكير جوهريا في نماذج الأعمال التي تسهل بل وحتى تكافئ خطاب الكراهية. ولا يجوز السماح للشركات بالاستفادة من المحتوى الضار، في حين تتنصل من أي مسؤولية عن العواقب المترتبة عليه. وبدلا من هذا، يتعين على الشركات أن تعكف على تنقيح خوارزمياتها بقدر أكبر من الفعالية والحرص على الإشارة إلى المحتوى الذي ينبغي لمراقبين بشريين أن يعملوا على رصده وتقييمه، في حين تعكف أيضا على ترسيخ الوعي بمسؤولياتها في الكفاح في سبيل حرية التعبير الحقيقية في كل قراراتها المتعلقة بالعمل.
قد يتناقض هذا مع منطق الأعمال المباشر الصريح المتمثل في القيام بكل ما من شأنه أن يساعد على تعظيم الأرباح والقيمة لصالح المساهمين. لكن هذا هو الأفضل للمجتمع دون أدنى شك. والحكومة الألمانية على حق في سعيها إلى دفع الشركات في الاتجاه الصحيح.
اضف تعليق