بعد أكثر من 15 عاما على قرار مجلس الأمن بـ"منع وكبح تمويل الإرهاب" إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فشلت الحرب على تمويل الإرهاب. فاليوم، يوجد عددٌ أكبر من التنظيمات، التي لديها أموال أكثر، من أي وقتٍ مضى، حسب تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.
ففي عام 2015 على سبيل المثال، ووفقاً لدراسة أعدَّتها كلية كينغز كوليدج لندن وشركة إرنست آند يونغ للمحاسبة، بلغت ميزانية تنظيم داعش نحو 1.7 مليار دولار، ما يجعله أكثر التنظيمات الإرهابية ثراءً في العالم. وفي العام نفسه، بلغ مجموع الأصول الإرهابية المُجمَّدة أقل من 60 مليون دولار. وصادرت ثلاث بلدان فقط – هي إسرائيل، والسعودية، والولايات المتحدة الأميركية – أكثر من مليون دولار.
وسعت الحكومات لسنواتٍ إلى منع وصول الإرهابيين إلى النظام العالمي، مدفوعةً في ذلك بالافتراض القائل إن الإرهاب يُكلِّف أموالاً. وقد قدَّمت تلك الحكومات قوائم سوداء، وجمَّدت أصولاً، وفرضت تشريعاتٍ لا تُحصى بهدف منع تمويل الإرهاب، الأمر الذي كلَّف القطاعين العام والخاص مليارات الدولارات.
المال مقابل لا شيء
وبدون أسماء وهُويات الإرهابيين أو مُموِّليهم، تعاني البنوك في تحديد المعاملات المشبوهة. فإذا ما كانت البنوك ستُحقِّق في كل حركةٍ للأموال لا يمكنها أن ترى لها في الحال مُبرِّراً اقتصادياً مشروعاً، فسيكون عليها أن تُدقِّق في عشرات الملايين من المعاملات يومياً.
وبالنظر إلى أنَّ العمليات الإرهابية رخيصة التكلفة – إذ لم تتكلَّف أي من العمليات الأخيرة أكثر من 30 ألف دولار – فإنَّ تلك البنوك سيكون عليها أن تُجري تحقيقاتٍ مُعمَّقة في ظروف ملايين المعاملات التي تقل عن 1000 دولار. وبما أنَّ الحكومات ليست مستعدة لمشاركة مزيدٍ من المعلومات الاستخباراتية بشأن المشتبه بهم والكيانات المشتبه بها مع البنوك، فإنَّ الدعوات المُوجَّهة للقطاع المالي لتضييق الخناق على تمويل الإرهاب لا تعدو أن تكون مجرد خطابٍ سياسي.
الإضرار بالأبرياء والفقراء
في الواقع، لم يُثبِت التركيز على القطاع المالي عدم فاعليته فحسب، بل وأدَّى أيضاً إلى الإضرار بمواطنين أبرياء وأعمال تجارية نظيفة، فمن أجل تلبية مطالب صانعي السياسات، رفضت المؤسسات المالية "استثماراتٍ وعملاء ربما يكونوا مرتبطين بتمويل الإرهاب".
وقد أُغلِقت الحسابات المصرفية الخاصة باللاجئين، والجمعيات الخيرية العامِلة في مناطق مزَّقتها الحرب الأهلية، وحتى المواطنين الغربيين الذين لديهم ارتباطاتٍ أسرية بما يُسمَّى دول المخاطرة. عملياً، لا يُقدِّم أي بنكٍ غربي الآن حوالاتٍ نقدية إلى الصومال على سبيل المثال، رغم أن 40% من السكان يعتمدون على التحويلات من الخارج.
كيف يجمعون أموالهم؟
وتُحدِّد ثلاثة عوامل الكيفية التي تُموِّل بها التنظيمات الإرهابية عملياتها. الأول هو مستوى دعم التنظيم. فعلى الرغم من أنَّ قليلين فقط يختلفو حول كون القاعدة وداعش تنظمين إرهابيين، تُصنَّف أغلب التنظيمات الأخرى المُصنَّفة تنظيماتٍ إرهابية من قِبل بعض الحكومات دون البعض الآخر – فكما يُقال، الإرهابي من وجهة نظر شخص هو مقاتِل من أجل الحرية في وجهة نظر شخصٍ آخر.
وحينما تنخرط مجموعاتٌ في حروبٍ أهلية يُتَّهم جميع أطرافها بارتكاب فظائع، فإنَّ بإمكان تلك المجموعات في الغالب أن يعتمدوا على التبرُّعات من الناس الذين تدَّعي تلك المجموعات أنَّها تُمثِّلهم، وكذلك على الدعم المالي من المؤسسات الخيرية المُتعاطِفة أو المغتربين. ولا يمكن للقواعد التنظيمية المالية أن تقضي على أيٍّ من مصادر التمويل تلك.
ويتمثَّل العامل الثاني المُحدِّد لوسائل جمع الأموال للتنظيمات الإرهابية في المدى الذي يمكن لتلك التنظيمات من خلاله الاستفادة من الاقتصادات غير المشروعة. فغالباً ما يستفيد الإرهابيون من تهريب الآثار، والنفط، والسجائر، والسلع المُقلَّدة، والماس، والعاج بالطبع. وعادةً ما يستغلّون الشبكات القائمة ويتعاونون غالباً مع المجرمين.
فيعود إنتاج الهيروين في أفغانستان إلى السبعينيات، قبل فترةٍ طويلة من ظهور حركة طالبان في المشهد. كما لم يبدأ الصيد الجائر في شرق إفريقيا مع ظهور حركة الشباب، ولن ينتهي كذلك بانهيار التنظيم.
وبالتأكيد ساعدت طرق التهريب في العراق وسوريا، والموجودة منذ عقود، في صمود داعش. ونتيجةً لذلك، تعكس السلع التي استفادت منها التنظيمات الإرهابية – النفط في العراق، والسجائر في منطقة الساحل، والماس في غربي إفريقيا – ببساطةٍ نوعاً من الاقتصادات غير المشروعة الموجودة في منطقةٍ أو أخرى. وبالتالي، ولمواجهة تمويل الإرهاب، يتعيَّن على الحكومات أن تعالج الهياكل الاقتصادية الكامِنة غير الشرعية في تلك المناطق، أو على الأقل قطع ارتباطات تلك الهياكل مع الإرهاب. ومن شأن تعزيز التنمية، وتحسين الحوكمة، وتضييق الخناق على الفساد أن يلعبوا دوراً أهم بكثير من منع الإرهابيين من استخدام النظام المالي العالمي.
ويتمثَّل العامل الثالث الذي يُشكِّل الطُّرُق التي يُموِّل بها الإرهابيون أنشطتهم في القدرة على الوصول إلى مصادر شرعية للمال. ففي بداية معرفة السلطات الأميركية لأسامة بن لادن على أنَّه مُموِّلٌ للإرهاب، كانت مصادر ثروته – أموال عائلته وأعمال البناء والزراعة التي كان يمتلكها – شرعيةً تماماً.
ثروة في تمويل الإرهاب!
لكًن الشيء الذي يُحدِث ثورةً حقيقية في موارد الجماعات الإرهابية هو الاستيلاء على الأراضي. فحتى عام 2013، استطاع تنظيم داعش أن يجني معظم أمواله من الابتزاز بدعوى الحماية، والاقتصاد غير المشروع في العراق، وإلى حد أقل، من خلال التبرعات الأجنبية.
لكن في عامي 2013 و2014، استولى التنظيم على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي شرقي سوريا وشمالي العراق. وبحلول منتصف 2014، عندما أعلن داعش خلافته، كان من 6 إلى 8 ملايين شخص يعيشون تحت حكمه.
وازداد تمويل التنظيم بشدة. ففي عام 2014، ارتفعت ميزانيته، وفقاً لدراسة كلٍ من كلية كينجز لندن وشركة وإرنست ويونغ، إلى 1.9 مليار دولار، مقارنة مع أقل من 500 مليون دولار العام السابق، جاء 90% منها من الأراضي التي سيطرت عليها حديثاً. ومع استيلائه على الأراضي، قام داعش بنهب المصارف والمحال التجارية، ومصادرة ممتلكات الأقليات والأشخاص الذين فروا من المدن. وقد أدى الاستيلاء على الموصل وحدها، وهي العاصمة التجارية لخلافته، إلى الاستيلاء على ما يتراوح بين 500 مليون ومليار دولار، وفرت عملية النهب هذه أهم مصدر دخل للتنظيم.
كما كان من بين منابع تمويل داعش بيع الآثار المسروقة، اليونيسكو قالت صراحةً إن داعش يتاجر بالفن والآثار لتمويل عملياته، وفي عمليات البيع هنا تدخل دولٌ ومافيات، حسب ماورد في تقرير لموقع قناة الميادين.
وعلى غرار الحكومتين العراقية والسورية، يقوم داعش بجمع الضرائب ورسوم الشحن، والتعريفات الجمركية على التجارة. وقد تجاوزت إيرادات التنظيم في 2014 من هذه الإجراءات الـ300 مليون دولار.
ويفرض داعش أيضاً غرامات على السلوك الذي يعتبره عادةً "غير إسلامي"، ويستغل الموارد الطبيعية، لاسيما حقول النفط في محافظة دير الزور السورية الشرقية، وفي أقاليم شمال العراق التي يُسيطر عليها الأكراد، حسب فورين أفيرز.
وعلى الرغم من أن داعش يستخدم معظم النفط الذي يستحوذ عليه للاستهلاك المحلي، فإنه يُهرِّب أيضاً بعضه إلى أراضٍ مجاورة للبيع. وفي ذروة قوة التنظيم في أواخر عام 2014 وأوائل عام 2015، حقَّق ما بين مليون إلى 3 ملايين دولار يومياً من عائدات النفط.
هل اخترق داعش النظام المصرفي العالمي؟
وبالنسبة للمُشرِّعين الدوليين، شكَّل صعود تنظيم داعش تحدياً، لأنه لا يمكن بسهولة اعتراض أي من مصادر الدخل الرئيسية للتنظيم بأدواتٍ تمويلية، مثل وضع قائمة سوداء على الأفراد أو الاستيلاء على حساباتٍ مصرفية.
وفي وثيقةٍ سياسية رئيسية صدرت في مطلع العام الماضي، اعترفت مجموعة العمل المالي FATF، وهي هيئة حكومية دولية تتولى مهمة دراسة التقنيات واتجاهات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بأنَّ "استراتيجية داعش هي الاعتماد على الأموال الناتجة من داخل الأراضي التي تُسيطر عليها".
الإرهاب الرخيص.. لماذا يستحيل وقف تمويله؟
حتى الآن لم تعق هذه الجهود قدرة جماعات مثل داعش أو تنظيم القاعدة على شن أو إثارة هجمات إرهابية في الغرب، وفقا لتقرير فورين أفيرز.
فالعمليات الإرهابية زهيدة التكلفة. ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة الأبحاث الدفاعية النرويجية عام 2015، فإنَّ أكثر من 90% من الخلايا الجهادية في أوروبا بين عامي 1994 و2013 كانت "مُمَوَّلة ذاتياً"، عادةً من خلال مُدَّخَرات أو مدفوعات الرعاية الاجتماعية أو القروض الشخصية أو عائدات الجرائم الصغيرة.
فعلى سبيل المثال، كان الإرهابيون الذين نفذوا الهجوم الذي وقع في يناير/كانون الثاني 2015 على مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية من المجرمين أصحاب المستويات الإجرامية المنخفضة والذين اجتمعوا في السجن، وتبنوا سوياً مجموعة من القناعات.
وتعد التمويلات الشخصية مصدراً مهماً آخر للمقاتلين الأجانب الذين يسافرون إلى مناطق النزاع مثل العراق وسوريا. فالوصول إلى سوريا عبر تركيا، وهي مقصدٌ شهير يعتبر رخيصاً لقضاء العطلات بالنسبة لكثيرٍ من الأوروبيين - يُكلِّف أقل من 1000 دولار أميركي لتذكرة طيران والرحلة إلى المطار. ولتمويل رحلتهم، استخدم الكثير من الجهاديين مُدَّخراتهم والإعانات الاجتماعية أو أخذوا قروضاً صغيرة، بينما اقترض البعض الآخر المال من أصدقائهم أو عائلاتهم.
والأكثر من ذلك، على عكس القاعدة، التي حاولت إقناع أنصارها بتصنيع قنابل محلية الصنع، يبدو أن داعش، أكثر من أي جماعة جهادية أخرى، تفهم أن نشر الإرهاب لا يتطلب المتفجرات ولا مهارات متطورة ولا المال.
فقد أعلن المتحدث باسم التنظيم، أبومحمد العدناني (الذي قُتِلَ منذ ذلك الحين) في خطابٍ إلى أنصاره في الغرب عام 2014: "إن كان بمقدورك، اقتل أميركي أو أوروبي كافر، واقتل الأميركان الكافرين أو الأوروبيين، ثم توكَّل على الله واقتله بأي طريقة، كتحطيم رأسه بصخرة، أو ذبحه بسكين، أو دهسه بسيارتك، أو دفعه من مكانٍ مرتفع، أو خنقه، أو سمه"، وتسبَّبَت هذه التعليمات في إلهام العديد من الهجمات المُدمِّرة في السنوات الأخيرة.
البنوك لن تنتصر في هذه الحرب
بعد أكثر من عقدٍ ونصف من الحرب على تمويل الإرهاب، لابد لصانعي السياسات الاعتراف بأوجه الخلل في نهجهم الحالي. فلا يمكن للأدوات المالية أن تُوقِف الذئاب المنفردين من قيادة السيارات إلى داخل الحشود، كما لا يمكنها أن تفعل الكثير حين تسيطر تنظيماتٍ مثل داعش على أراضي وتحصل على معظم دخلها منها.
ويتعين على صانعي السياسات الاعتراف بأنَّ الحرب على تمويل الإرهاب، بالطريقة التي جرت بها منذ 2001، كانت في كثيرٍ من الأحيان مُكلفة وأتت بنتائج عكسية، وألحقت الضرر بأشخاص بريئين وشركاتٍ نظيفة دون أن تُقيِّد بشكلٍ ملحوظ قدرة التنظيمات الإرهابية على العمل. وما لم تجد الحكومات سُبلاً لإحداث ثورةٍ في الطريقة التي تتشارك بها المعلومات مع القطاع المالي، فستبقى معظم الإجراءات الحالية لتحديد المعاملات المشبوهة مجرد مُتطلَّباتٍ بيروقراطية مُكلفة.
وفي بعض الأحيان، قد تتضمَّن التحرُّكات الرامية إلى مكافحة تمويل الإرهاب النظام المالي، لكن في أحيان أخرى، يجب أن تستخدم الحكومات الجيش وإنفاذ القانون بدلاً من ذلك. فعلى سبيل المثال، قصف الجيش الأميركي في يناير/كانون الثاني 2016 مستودعاتٍ نقدية تابعة لداعش، وأهلك عشرات الملايين من الدولارات في يومٍ واحد، وهو أكثر مما صادره النظام المالي العالمي منذ ظهور هذه الخلافة.
اضف تعليق