q

أن يفقد المرء هاتفه الشخصي الجوال هذه الأيام فتلك مصيبة قد تعزله عن المجتمع، أما أن يفقد المرء جهاز الحاسوب الشخصي PC فتلك كارثة قد تسبب له أضرار كبيرة في العمل وفي العلاقات الاجتماعية.

 لعله من سمات الحقبة الاتصالية التي نعيش، أن يؤدي فقدان الهاتف الجوال إلى مجموعة اختلالات سلوكية ونفسية يمكن معاينتها بيسر، ليس بسبب الكلفة المادية على أهميتها، بل فقد تكون الكلفة المعنوية أشد وطأة، وهو ما سيبدو في مشاعر الحزن والإحباط والارتباك، التي قد تصل إلى حد الخوف من العزلة والوحدة أو ما بات يعرف برهاب العزلة Monophobia.

  بالنسبة لمشاعر الحزن والارتباك والخسران فهي مشاعر طبيعية مع فقدان أي شيء اعتاد عليه الإنسان واعتمد عليه في تلبية بعض حاجاته النفسية أو الاجتماعية، أو مثّل له قيمة ما، مادية أو معنوية، أما مشاعر رهاب الوحدة أو العزلة فهي شيء مختلف، فهي تنطلق من المستويين النفسي والاجتماعي، وهما بُعدان متداخلان إلى حد كبير من خلال علاقة تبادلية بينهما.

 من منظور سيكولوجي، فقد أصبحت ذاكرة الهاتف امتداداً لبعض حواس الإنسان كما تنبأ بذلك مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن الماضي، من هنا فقد باتت ذاكرة الهاتف والكمبيوتر امتداداً لذاكرة الإنسان أو لذكائه إضافة إلى ما أضافته إلى حاستي السمع والنطق، فذاكرة الهاتف تخزن البيانات والمعلومات الشخصية مثل الصور وأرقام الأصدقاء والأقارب وزملاء العمل وغيرهم، وتزيد ذاكرة الكمبيوتر على ذلك بملفات كثيرة منها ملفات العمل أو خصوصيات أخرى، ومع التوسع في العلاقات الاتصالية، ومع مضي الوقت تفقد ذاكرة الإنسان نسبة مهمة من قوتها، فلم تعد تذكر بعض التواريخ المهمة أو أرقام الهواتف الضرورية وغير ذلك من معلومات كان الفرد يستذكر نسبة كبيرة منها في مرحلة الهاتف السلكي.

 إن فقدان الهاتف أو الكمبيوتر الشخصي يؤدي إلى الشعور بالضعف أو بفقدان جزء مهم وضروري من الذاكرة أو بتضاؤل مستوى الذكاء، وهذا ما سيؤدي إلى مشاعر الخوف والحزن والارتباك وربما النقص، ومثل هذه المشاعر تنشأ أيضا خلال الاستخدام قبل فقدان الجهاز، إذ يواصل الفرد تفقد هاتفه بين الحين والآخر وقد يسيطر عليه الخوف من نفاذ شحن البطارية أو نفاذ الرصيد الذي يمكنه من التواصل.

  في البعد النفسي أيضا فقد نشأت علاقة اعتماد نفسي Psychological dependency بين الفرد وبين الجهاز، وعلاقة الاعتماد هذه في الواقع عملية نفسية معروفة في ظواهر الإدمان على العقاقير ومنها المخدرات، وحديثا عُرف الإدمان في ظاهرة الاتصال عبر الإنترنت، ولها أعراض نفسية مثل الاكتئاب وأعراض سلوكية/ فسيولوجية مثل قلة الكلام والهزال وآلام في الرقبة والعمود الفقري وأعراض بيولوجية مثل التعرق أو ارتفاع ضغط الدم، وقانون الاعتماد الأساسي هو أن حالة الاعتماد تظل مرشحة للتزايد مع زيادة الاستخدام إلى أن تصل بالمستخدم إلى حالة الإدمان addiction، التي تعني أن الفرد لا يستطيع التخلي عن الاستخدام، فإن اضطر التخلي عنه لسبب أو آخر فإن ذلك يؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكية قد تصل إلى المستوى المرضي كمشاعر الاكتئاب العميق أو سلوك العنف أو العزلة..الخ، وفي بعض الحالات قد يصل إلى مستوى الانتحار، بالنسبة لحد الإدمان في تكنولوجيا الاتصال فإن بعض الدراسات أشارت إلى مستوى 35 ساعة في الأسبوع تعد مؤشرا على الإدمان، باستثناء ما يحتسب من طبيعة العمل وما تقتضيه الوظيفة.

 وفق المنظور السوسيولوجي فإن التواصل المكثف من خلال أجهزة الهاتف أو الحاسوب أدى إلى نشوء علاقة اعتماد عضوي Organic dependence من قبل المستخدم على هذه الأجهزة، وعلاقة الاعتماد هنا هي عملية اجتماعية وليست سيكولوجية، ليس لأن الفرد اختار ذلك، بل لأن الأمر لم يعد خيارا في مجتمعات يقوم فيها التضامن على تقسيم العمل لا على التماثل الذي كان يحكم المجتمعات التقليدية (التضامن الميكانيكي) مثلما ورد في نظرية دوركايهم (1858-1917) عن أنماط التضامن الاجتماعي، وتقسيم العمل يحتاج إلى حضور في شبكة الوظائف والعلاقات الاجتماعية ولن يأتي بشكل تلقائي ميكانيكي، ولمّا بات كافة أفراد المجتمع داخل الشبكة التي كانت تسمى افتراضية Virtual، من هنا فإن فقدان أداة التواصل مع الشبكة الافتراضية يعني العزلة عن المجتمع بأسره.

 وهذا ما سيثير نوعا من القلق الوجودي Existentialism anxiety، ويشمل ذلك الخوف من التعرض لأخطار البيئة الاجتماعية والطبيعية، وكانت وظيفة مراقبة البيئة أحد وظائف وسائل الإعلام منذ نشأتها كما أشار لذلك ولبر شرام (Schramm, 1907-1987)، وتزداد أهمية هذه الوظيفة أو هذا الدور في المجتمعات الحديثة التي أضحت فيها المعلومات القادمة مع الاتصالات مادة استهلاكية ضرورية؛ وإن بدرجات متفاوتة، ورغم أن هذا لن يجعلها مجتمعات معلومات بالمعنى الاصطلاحي للعبارة Information societies، إلا أنه من الواضح أننا بإزاء مجتمعات التواصل القائم على التبادل النشط للمعلومات فيما يخص الحياة الاجتماعية على الأقل.

 خلاصة أخرى يمكن استنتاجها من ظاهرة المونوفوبيا، هي أن التواصل عبر التكنولوجيا لم يعد ظاهرة افتراضية، أو مستوى علوي أو موازٍ لما كان يسمى التواصل الفعلي، بل هي واقع فيزيائي سوسيولوجي حقيقي، ومع أن هذه الخلاصة قد لا تنطبق على كافة حالات التواصل عبر الشبكة، إلا أنها تبدو وكأنها النموذج الأكثر انتشارا حتى الآن على غيره من النماذج المحتملة.

* باحث في علوم الإعلام والاتصال

اضف تعليق