"في العالم الاسلامي الكثير من النشاطات والاعمال، حيث توجد التنظيمات والمؤسسات ودور النشر والمكتبات والخطباء والعلماء والمؤلفين، بيد أن هذه الاعمال متفرقة هنا وهناك، وهذا التفرق بحدّ ذاته، هو ما يهتم به الغربيون.
وقد ورد عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: "إصلاح ذات البين خير من عامة الصلاة والصيام"، وهذا الحديث ينصرف الى التقارب والتكامل فيما بين الافراد وما لديهم من طاقات وقدرات.
فلماذا لا تتحد أعمالنا ومشاريعنا في تيار واحد؟
في حديث قدسي جميل، ورد؛ أن نبي الله ابراهيم، عليه السلام، يبني الكعبة، فكان يضع حجرة على أخرى بشكل متسلسل الى الأعلى، وما أن يرتفع الجدار يحدث التشقق في الحجارة ويسقط البناء، فأوحى الله – تعالى- اليه أن: يا ابراهيم! تعلّم منّي كيفية صنع النخلة، إنها بشكل متدرج أو ما يسميه الأدباء العرب: "حلّ وشدّ"، فتعلّم ابراهيم الطريقة الصحيحة، وبنى الكعبة وهي ما تزال قائمة.
إن كل فرد في الأمة يمثل قطرة، وهذه القطرات الصغيرة هي التي تشكل الروافد الصغيرة ثم تتحول الى نهر جارف، وهذا النهر يتحول الى بحيرة كبيرة.
في العالم الاسلامي الكثير من الاعمال والمشاريع المختلفة، بيد أن مشكلتها عدم الارتباط فيما بينها، كما لا يوجد الشعور بالمسؤولية إزاء المسلم الآخر، فاذا يقتل الافغاني، لا علاقة بالعربي به، واذا قتل العراقيون، فلا علاقة بالباكستانيين بالأمر، وهكذا... بينما هذا مناقض تماماً لكلام الرسول الأكرم، الذي صرّح بالقول: "إن مثل المسلمين في تواددهم وتحاببهم كمثل الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو اشتكى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
وما قام به الغربيون حالياً بجسد الامة؛ قطع الأذن - جدف الأنف - سمل العين - قطع الاطراف، فاذا كان جسد الانسان مقطع الأوصال، هل يبكي او يتكلم؟! لذا علينا جمع كلمة المسلمين، لأن كل انسان قطرة صغيرة، وكل مؤسسة تمثل عين للماء، وكل تنظيمات متلاحمة تمثل نهراً جارفاً، وعندما تجتمع الأنهر فانها تشكل البحر الكبير، بينما المسلمين لم يتعلموا هذه الثقافة، بل لم يتعلموا ذلك من الله –تعالى- بسبب وجود الانانيات والعصبيات والفئويات، وهذا ما استفاد منه الغربيون.
تقول الآية الكريمة: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، بمعنى الفشل وايضاً ضياع السمعة، ولذا نجد 1500مليون انسان مسلم في العالم، بيد أنهم لايملكون لانفسهم نفعاً ولا ضراً.
وحدة الهدف وتعدد الوسائل
معروف عن سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –قدس سره- تأكيده على فكرة تعدد المؤسسات والتنظيمات، في ميدان الثقافة او العلم أو السياسة او الاجتماع، لإفساح المجال أمام ظهور القدرات والمواهب ثم استيعابها وتحويلها الى طاقة تزود كيان الامة بمزيد من الحيوية، وطالما دعا الى تأسيس المزيد من المكتبات والمدارس الاهلية ودور النشر والمؤسسات الخيرية والثقافية وايضاً التنظيمات السياسية، وكان يحثّ على جميع افراد المجتمع المشاركة في العمل بهذه التشكيلات المتعددة، كلٌ حسب قدراته الخاصة، حتى الفتيان الصغار، لم يستثنهم سماحته في هذا المضمار، ولا أنسى كيف أنه – قدس سره- بارك لمجموعة من الفتيان من العوائل المهجرة قسراً الى ايران، تشكيلهم "حركة أشبال الامام الحسين" وذلك عام 1981، وكان قبل ذلك قد تأسست "حركة المهجرين العراقيين"، وهكذا سائر التنظيمات والمؤسسات التي تأسست في المهجر بمباركة وتشجيع منه.
فهل هذا يتناقض مع فكرة وحدة الاعمال والمشاريع؟
البعض يتصور أن تعدد المؤسسات والتنظيمات يسفر عن ضآلة في مستوى الانتاج واستهلاك للطاقات الذهنية والامكانات المادية، ودائماً يوردون المثال حول صحافة المعارضة في المهجر، وانها يجب أن تتحول الى صحيفة واحدة تنطق بلسان واحد وتقدم خطاب واحد مادامت الغاية واحدة، وهذا كان ينسحب على سائر الكيانات السياسية والثقافية.
بيد أن منطق الحكمة والعقل يشير الى أن ضعف الانتاج والهدر في القدرات والامكانات، ليست في تعدد هذه الكيانات بقدر ما هو في فلسفة عملها، فاذا كان كل كيان يتصور أنه المبدأ والمنتهى ومن خلاله يتحقق كل شيء، فمن الطبيعي أن تهدر القدرات الذهنية والامكانات المادية في مسارات متباعدة تتخذ هدفاً خاصاً لها، والنتيجة؛ ظهور تعدد بالاهداف وحتى الغايات بدلاً من التعدد في الوسائل، والتي يفترض ان تكون مجموعة من الحوزات العلمية والاذاعات والمكتبات والجامعات ودور النشر، وكلها تتطلع الى هدف استراتيجي واحد.
ولذا نجد الامام الشيرازي يؤكد على "وحدة الاعمال والمشاريع"، وليس وحدة المؤسسات التي تنتج هذه الاعمال، على أنها خطوة النجاح الثانية بعد تأسيس تلكم المؤسسات، فربما يكون التفاوت في مستوى الانتاج بين مؤسسة وأخرى، او تعدد في الرؤى والافكار، فان اتحاد المنتج وصهره في بوتقة واحدة، من شأنه تحقيق التكامل ورأب الصدع في أي جانب من مفاصل العمل؛ ثقافياً او اجتماعياً او سياسياً. وربما هذا يبعدنا عما حذرنا عنه النبي الأكرم، وهو يخاطب أصحابه في زمانه محذراً إياهم من "تداعي الأمم عليكم كتداعي الأكلة على القصعة، فقالوا ونحن من قلّة يا رسول الله! قل بل أنتم كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل".
هنا يقفز السؤال الجوهري: كيف تتوحد الاعمال وتتعد مؤسسات العمل؟
إن التعدد في الكيانات والمؤسسات يعكس تنوعاً في اصحابها، من حيث انتمائهم الاثني او مستوياتهم الفكرية والثقافية وحتى أذواقهم وطريقة عيشهم، وعندما تكون الأولوية للانتماء، من الطبيعي أن تكون دار النشر في بلد خليجي منفصلة كلية عن دار نشر أخرى في شمال افريقيا – مثلاً- لأن الظروف الاجتماعية والنفسية التي تحكم الانسان الخليجي، تختلف عما عليه الحال في مصر أو أي مكان آخر، وهذا ما يسلط الضوء عليه، سماحة الامام الشيرازي، بأن يثير مشاعر الأخوة الدينية بأن لا فرق بالمرة بين انسان كويتي و انسان صومالي، او بين انسان افغاني أو انسان لبناني عندما يتوقف الامر على صياغة موقف موحد إزاء مختلف القضايا التي تستهدف العالم الاسلامي، لاسيما ما يتعلق بالانماط الثقافية الوافدة ومسائل الاقتصاد والتعامل مع سياسات الدول الكبرى والمؤثرة في العالم.
لنأخذ مسألة النشر مثالاً؛ فهل تترجم المؤلفات الصادرة من الدول الاسلامية الى سائر اللغات التي يتحدث بها المسلمون؟ أم ان الكاتب الباكستاني له قراءه في باكستان والكاتب العراقي له قراءه الخاصين، وكذلك الحال بالنسبة للايراني والمصري، وكذا الامر بالنسبة للقضايا الاجتماعية والانسانية وعمليات الإغاثة والمساعدة على حل أزمات الفقر وانتشار الاوبئة ومكافحة الأمية وأمثالها.
التفرقة.. الفشل وضياع السمعة ايضاً
الفشل، ربما يعقبه نجاح، فهو لن يكون نهاية الطريق دائماً، بيد أننا امام حقيقة مخيفة تستدعي الحذر الشديد من مغبة السقوط في فشل من نوع آخر يتعلق بشعب وأمة بأكملها وليس بشخص او جماعة، وهو ما يكشفه القرآن الكريم في الآية التي يستشهد بها الامام الشيرازي في حديثه، بأن {...فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، فالذي تفرزه التفرقة والتمزق، ليس الفشل والهزيمة فقط وإنما ما يستتبعه من ضياع للسمعة والمكانة في العالم، كما يبين سماحته معنى {ريحكم}، وطالما تهتم الدول والأمم بهذا الجانب وتحرص على أن لا تتعرض سمعتها امام العالم للخطر من تصرف مسؤول حكومي يتعارض مع قيم الديمقراطية او مع قيم انسانية، او حتى مع قيم اخلاقية مثل الأمانة والصدق.
إن اقتران الفشل مع ضياع السمعة بسبب التفرقة، يمثل رسالة الى من يهمه الأمر بأن أي فشل او هزيمة من أي نوع كان في العالم، تعني فيما تعنيه؛ تعرض سمعة الأمة بأكملها الى الخطر، وكيف لا يكون كذلك، وجميع المؤسسات والكيانات في العالم الاسلامي تتحدث بخطاب ديني يشمل القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم، مع منظومة القيم والمبادئ والاحكام الاسلامية وبمجموعها تمثل صورة للإسلام في عيون العالم.
وهنا تحديداً يتوجب التقارب الشديد والتضافر في الجهود والاعمال ما أمكن، للحؤول دون التعرض الى فشل او هزيمة كالتي نعيشها اليوم، حيث تسبب التشرذم الى أن يُقرن الإسلام بالارهاب في الشرق والغرب، وحتى في افريقيا، وهذا لم يكن لولا الفشل في نشر ثقافة السلم والحوار واحترام الآخر التي طالما أكد عليها القرآن الكريم وسيرة أهل البيت، عليهم السلام.
اضف تعليق