"...ذكر المؤرخون؛ أن رسول الله، لما دخل مكّة وهو فاتح ومنتصر، وملك، كان راكباً على بعير عليه قِتْب خلق، وعليه قطيفة خلِقة... والخلق بمعنى القماش العتيق والبالي، وانه لما دخل مكة تواضع لله، وتواضع وتواضع حتى بلغت جبهته الى قربوس بعيره.
هذا وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله، آنذاك مالكاً لمفاتيح الكون، ورسول من السماء ليس على شعب وجماعة محدودة، إنما رسول للانسانية جمعاء، وأن مفاتيح الكون بيده، حياً وميتاً، بدليل استجابة الدعاء الى الله ببركته، بما لديه من الجاه العظيم عند الله –تعالى-.
وكان رسول الله يعلن لنا وللعالم بأن هذا الانتصار ليس منّي، إنما انا عبد صغير لله –تعالى- بينما نلاحظ الانقلابات العسكرية وما يدعيه أبطالها من ادعاءات فارغة عن منجزاتهم مما يستدعي تشبيههم بالمجانين الخارجين للتو من مستشفى الامراض العقلية! من قبيل حطمنا الاستعمار والرجعية والاقطاعية و.... فيما كانوا هم المجسدون لكل ذلك.
هكذا تقدم النبي الأكرم في الآفاق، المتواضعون هم المرتفعون، وخلال دخوله مكة ولما بلغ الكعبة، قال كلمة واحدة لا غير: "لا إله إلا الله، وحده وحده، أنجز وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وهزم الاحزاب وحده، فله الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير"، وهي الكلمة الذهبية التي يجب ان تكتب في كل قصر جمهوري وفي كل قصر أميري او مقر حكومي في العالم.
ولذا كانت ثورة النبي الأكرم، ثورة بيضاء وثورة بتواضع وأخلاق، وثورة بعدل، وثورة بجمع الناس وتآلف القلوب وخدمتهم، لأن الله – تعالى- هو المحور وليس الأنا".
التواضع الذي يرفع القائد
اذا اعتمدنا قاعدة "العبرة بالنتائج" نعرف جيداً حقيقة الادعاءات التي نسمعها عن هذا القائد او تلك الشخصية المثيرة عالمياً، وما أكثر ما نسمع اليوم و دائماً، كلمات رنانة ومثيرة مثل "العملاق" او "الأسطورة" أو "الملهم"، وغيرها مما يستدعي الى الاذهان السعة غير المحدودة والشمولية لكل شيء ضمن رقعته الجغرافية او حتى أبعد من ذلك، لذا يلزم توفير مصاديق هذه الصفات الكبيرة، ومعايير انسانية تحدد هوية حاملها، مثل أن يكون "بطلاً للتحرير"، او "بطلاً لمواجهة الامبريالية" أو "بطلاً قومياً"، رغم أن المعيار الاخير نفذ تاريخ استهلاكه مع نفاذ حكم صدام حسين في العراق، لانه كان آخر دعاة هذا النوع من البطولة!
هنا يقفز السؤال؛ عن ثمن ظهور هذا العملاق...؟!
بكل بساطة نجد أن العملاقة في التاريخ الذين آمنوا بمفهوم التضحية من أجل الآخرين، وبذلوا وقدموا وتحدوا، هم الذين كبروا تعملقوا العلمية والسياسية والحضارية، بينما نجد آخرين تعملقوا أيضاً بمنجزاتهم، ولكن؛ من خلال تضحيات الآخرين لهم. وبين الحالتين؛ أنهر من الدماء والدموع والمعاناة للملايين من البشر.
ولا داعي لأن نأتي بأمثلة من النوع الثاني من عملاقة زماننا، لانهم لا يصلون على عملقة شخص مثل فرعون الذي ترك للبشرية معلماً معروفاً تعده اليوم من العجائب، بيد ان هذه الاهرامات الثلاثة، لم تُشيّد على ضفاف النيل، إلا بعد سحق مئات الآلاف من العبيد الذين سيقوا لحمل مواد البناء ليرتفع هذا الصرح المعماري الباهر، فقضوا نحبهم وضاعوا بين أحجار هذه الاهرامات الجميلة والباهرة.
ثم لننظر الى عملاقة العلم الذين، ليس فقط لم يعرضوا حياة أحد للخطر والأذى، إنما هم من أسدوا الخدمة الجليّة والممتدة للبشرية مع التاريخ، من أمثال أديسون وباستور ومدام كوري وكريستوف كولومبوس وايضاً انشتاين – في القرن العشرين- وغيرهم كُثر، واجهوا محاولات التحجيم والتقزيم وايضاً التشكيك من أقرانهم في الجامعات والمراكز الاكاديمية، بيد أننا اليوم نعد كل منهم بما قدمه من انجاز باهر، عملاقاً وبطلاً ملهماً، لولاه لربما كانت حياة البشرية بشكل آخر.
وحسناً قال أحد الخطباء عن شخصية الامام علي، عليه السلام، بأن "من أبرز خصائصه كونه عظيماً وهو لم يكن يبحث عن العظمة"، والى ذلك يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في حديث مسجّل تحت عنوان: "سر تقدم الرسول الأكرم" مؤكداً أن سر نجاح النبي في تقدمه وانتشاره في الآفاق؛ تواضعه لله –تعالى- وهذا التواضع هو الذي جعله يكون عملاقاً في العالم بلا منافس كما أكد الباحثون والعارفون في العالم، وهكذا كان الامام علي وابناه؛ الحسن والحسين، عليهم السلام، والأئمة المعصومين من بعدهم، تجنبوا الاستعلاء فيما كانوا مصاديق للعلو والسمو، بالمقابل؛ كان الى جانبهم اشخاص استماتوا في التعالي والتطاول، وفي نهاية مطافهم ماتوا غير مأسوفين عليهم، بل وتطاردهم نتائج الأخطاء الكارثية على مر الاجيال والزمن.
يبقى السؤال الذي ربما يدور في خلد البعض؛ بأن التواضع وسائر الصفات الاخلاقية، قد لا تجد مكاناً في عالم السياسة والحكم، فكيف يستقيم الحكم، او يتحقق إنجاز ما دون تحقيق للذات على الارض وبقوة؟
غرور القدرات الانسانية ووهم القوة
من حق الانسان الاعتداد بما يملك من قدرات ذهنية وعضلية تمكنه من صنع ما يريد وتغييره وتطوير حياته وحتى التأثير على الآخرين، وهذا من موارد الثقة بالنفس وتقوية الارادة وشحذ العزيمة، بيد أن استمراره في التفكير بهذه الطريقة الى ما لانهاية، هو بعينه بداية النهاية له، فكم من قائد وزعيم ملك القلوب والعقول وتمكن من تسيير الملايين الى ما يريد ويخطط له، وما أن تملكه الشعور بالقوة اللامتناهية وجد نفسه فجأة أمام الجدار الاخير والنهاية المحتومة، لأن ببساطة وجد أمامه الأقوى والذي ربما كان خافياً عليه، او هناك دوافع نفسية تخفي هذا الأقوى وتجعله يشعر دائماً بالفخر والاقتدار.
ولا أدل على ذلك من زعماء وقادة كبار صرحوا بغير قليل من الاعتداد أنهم لا يهابون الموت، و لطالما تعرضوا لمحاولات اغتيال، ولعل رقم محاولات الاغتيال هذه، لها علاقة بدرجة قوة وصلابة ذلك الزعيم، حتى وإن كانت مختلقة ووهمية اساساً، فبعضهم يصرّح بأنه "أقوى من الموت"، لذا أفرج عن مجموعة الشباب الذين اعترضوا سيارته بوابل من الرصاص، وذاك الذي يفصح لإحدى الفتيات (الخليلات) المندسّات مخابراتياً، وكانت تستعد لاغتياله، بأن "لا أحد يستطيع قتلي..."!.
هذه النماذج اكتسبت القدرات الذاتية او مما وفرها عليها المحيط الذي عاشت فيه، فتوهمت القوة المطلقة بلا منازع، وكان الثمن؛ فقدان الثقة بالجميع، فهو يتوقع الخطر والموت من أي شخص وفي أي لحظة، وإلا لما كانوا على كرسي الحكم يوماً واحداً، لعلمهم بوجود آخرين محدقين بهذا الكرسي من حوله، ولديهم ايضاً مشاعر الثقة بالنفس والاعتداد بشخصيتهم وكفاءتهم وأحقيتهم.
هنا يتبين أن الارتباط بالقوة اللامتناهية والحقيقية، وهي قوة السماء، تمثل أدق وأكمل اختبار لمن يتطلع بشرف الى النجاح والتفوق ، فعندما يؤمن بأن هنالك قوة مطلقة واحدة في الوجود، وأن عليه ان يكون امتداداً لتلك القوة وفق الشروط والمواصفات المطلوبة، فانه لن يشعر قط بأي خطر يهدده، أو مكروه يصيبه، لأنه اساساً غير مرتبط بقوته الخاصة حتى يستشعر الدونية او المفارقة مع الآخرين، فليأخذوا منه كرسي الحكم أو المنجز العلمي الباهر، كأن يكون مؤلفاً ذا أهيمة بالغة، او كشفاً علمياً ما، فان قدراته العلمية والذهنية والقيادية وغيرها، لم يستخرجها من ذاته وليست صنيعته الشخصية، إنما هي موهوبة من الله -تعالى- فكما أنه –تعالى- وهب العلم والمعرفة وسائر القدرات له، فان ابتلى الآخر بالجهل والضعف في نفسه وعقله، فلا تمضي الايام والسنين حتى تكشف شمس الحقيقة، وجه ذلك البطل والعملاق الحقيقي امام العالم، كما تكشف زيف الآخرين، فالبطولة والعملقة لن تكون يوماً ما من صنع وسائل الاعلام، ولا أقلام المؤرخين ولا الكتاب ولا المداحين على طول التاريخ، إنما توجدها النتائج والمكاسب على الارض، مما يلمسه الانسان بكل حواسه، فيشعر بالحرية والعدالة والعيش الكريم، ويستشعر الأمان والاستقرار وفق نظام متكامل لحياة سعيدة، وهذا تحديداً ما خطّه الني الأكرم، صلى الله عليه وآله، خلال سنوات وجوده في مكة وفي المدينة المنورة، وهو الذي سطع وانتشر الى الآفاق ليشمل البشرية جمعاء.
اضف تعليق