هل نحن نعيش في عالم مجنون أم عاقل، كيف يمكن أن نصل الى نتيجة منطقية حول هذا الموضوع، وما هو الفارق بين عالم عاقل وآخر مجنون، قبل عدة عقود، طرح الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) رؤيته الخاصة في هذا الشأن، وقبل أن يقول بأن البشرية تعيش في عالم مجنون، طرح المبررات المقنعة التي تدعم رؤيته هذه، وتساءل عن الكيفية التي يتم فيها اكتشاف الانسان العاقل من جهة، والمجنون من جهة ثانية، علما أننا نتفق على أن الأشياء تُعرَف بأضدادها.
فالليل يقابله النهار والاسود يقابله الأبيض والحرارة تقابلها البرودة وهكذا، يمكننا التفريق بين الشيء وضده، كذلك يمكن عزل العاقل عن المجنون بالطريقة نفسها، كما يؤكد ذلك سماحة الامام الشيرازي قائلا في كتابه القيم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة): (إذا أردنا أن نعرف عاقلاً فقد نعرفه بالقياس إلى عاقل آخر، فكلاهما موزون الحركات، وكلاهما لا تبدو عليه ملامح الاضطراب والفوضى في الكلام والسكون والحركة والأكل والشرب والمشي وغير ذلك).
وقد يتم التفريق بين السلوك العاقل وسواه من خلال الفعل او الحركة التي يقوم بها الانسان، فهناك سلوك قويم هادئ متزن يكشف عن طبيعة الانسان ومدى اتزانه في التعامل مع الاخرين، وهناك عكس ذلك تماما، حيث تسود الفوضى والغرابة افعال الانسان، بما يؤكد انه خارج السائد والمقبول، فيتم اطلاق صفة (مجنون) عليه بسبب أفعاله وافكاره غير المتوازنة.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه المذكور نفسه: (قد نعرف العاقل بالمجنون، كما أن المجنون يعرف بالعاقل، فإذا رأينا عاقلاً متّزن الحركات علمنا أن المجنون هو ما ليس كذلك، وإذا رأينا مجنوناً فوضوي الحركة علمنا بأن العاقل ليس كذلك).
ان الفرق بين الاثنين (العاقل والمجنون) هو السلوك الذي يقبله المجتمع، فاذا كان سلوكا شائعا هادئا لا ينطوي على خطر ما، فإن ذلك يساعد على الفرز بين العقلاء والمجانين واهم الأسس هنا عدم الحاق اذى بالآخرين، بالاضافة الى اختفاء الفوضى للعقلاء، لأن المجنون هو الذي تقوم افعاله وانشطته وحركاته على الفوضى والارباك.
عالم عقلاء أم عالم مجانين
تساؤل أطلقه الامام الشيرازي قبل عدة عقود، هل نحن نعيش في عالم عاقل أم مجنون، ثم اكد سماحته على أن الصورة المرئية الخارجية للعالم تبدو للرائي منطقية ولكن هذا هو الوصف الخارجي او السطحي، لأننا عندما نغوص في الأعماق سوف نكتشف عالما آخر، يغص بالاضطراب والفوضى وبكل علامات الجنون، صحيح أن المجانين هم أولئك الذين يعانون من اضطرابات عصبية، وتبدر منهم تصرفات واقوال غير محسوبة أو غير مسيطَر عليها، ولكن هناك جنون خفي او غير مرئي، هذا النوع من الجنون هو الذي يحكم سلوك العالم.
لذلك يتساءل الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه، وبتأريخ يعود الى عدة عقود ولكن الرؤية تنطبق على عالم اليوم اذ يقول سماحته: (هل العالم في عصرنا هذا عالم عقلاء أم عالم مجانين؟ ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ واضح أن العالم عالم العقلاء، وان المجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين ومستشفيات الأعصاب. لكن هذا هو السطح الظاهر من الأمر، ولعل التعمّق في الأمر يفيد غير ذلك. ولنتساءل: المجنون من هو؟ حتى نعرف أن العالم بمجموعه مجنون أو عاقل، والعاقل من هو؟ حتى نعرف هل أن العالم بمجموعه عاقل، أم لا؟!).
ويؤكد الامام الشيرازي على أننا نعيش في عالم غير سوي، عالم مجنون، وهناك عدة دلائل على هذه الرؤية، كما نلاحظ ذلك في نتائج الحربين العالميتين؟ فقد خلفت هاتان الحربان ملايين القتلى وتركت مآسيها في قلب البشرية وذاكرتها الى الأبد، فهناك مئات الآلاف من الايتام، ومثلهم من المعاقين (ذوي الاحتياجات الخاصة) ومثلهم من الآرمل والثكالى، وفوق هذا وذاك هناك تدمير شامل لبنى دول ومدن بأكملها، كما حدث لمدن (هيروشيما) و (ناكازاكي) اللتين تم تدميرهما بالسلاح النووي في لحظة جنون لا يزال العالم نادما عليها حتى الآن، ولكن هناك مشكلة، من يضمن عدم تكرار التجربة لتكون اشد وقعا واقسى من حيث النتائج على العالم أجمع، في الحقيقة لا احد يستطيع أن يتكهن بالنتائج.
(إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا قتل الملايين خلال نصف قرن في حربين عالميتين، تركت العالم شظايا ورماداً ودماء ودموعاً وأشلاء ومعوقين وما إلى ذلك. ولماذا نصدّق بالأمم المتحدة وهي أوضح مثال للانحراف، حيث نرى منظمة الأمم المتحدة مكاناً لهدر الحقوق).
لماذا تُحرق المحاصيل الزراعية؟
عالمنا المجنون بات حقيقة لا مفر منها، فالثروات العالمية تتكدس في جيوب وارصدة افراد أقلية يتحكمون بالعالم أجمع، والسؤال الذي يطرحه الامام الشيرازي بهذا الخصوص، لماذا تسيطر اقلية من الافراد وشركات قليلة على الثروات العالمية، ومن الذي يسمح لهم بذلك، ثم لماذا يحدث هذا الاستحواذ الفردي على الاموال مقابل مجاعات عالمية تضرب العالم، فالافراد يمتلكون الثروات وملايين الجياع يتضورون في عموم العالم، ويموت ملايين الاطفال بسبب المجاعات، كما نلاحظ ذلك في تساؤل الامام الشيرازي:
(لماذا يتكدّس المال حتى يملك بعض الأفراد مليارات، بينما الملايين جائعون، وبينما الملايين من الأطفال يموتون جوعاً وهل هذا من التعقّل؟). وثمة أدلة اخرى على هذا الجنون، فهناك دول وبعضها كبرى تقوم بحرق آلاف الاطنان من القمح والسكر والأرز، في حين يعاني الملايين من الجوع، كذلك يتم القاء حليب الاطفال المجفف في اعماق البحار حتى لا يستفيد منها الاطفال؟.
هنا ايضا يطلق الامام الشيرازي تساؤلاته عن سبب قيام دول كبرى بمثل هذا الاجراءات المميتة للبشر، اذ يقول سماحته بوضوح تام: (إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا تحرق المحاصيل الزراعية أمثال القمح والسكّر والأرز، وتلقى في البحر ملايين الأطنان من الحليب المجفف والأدوية؟ بينما هناك ملايين من الناس يموتون جوعاً، أو لسوء التغذية، أو يمرضون من جهة عدم كفاية الدواء والغذاء والعناية الصحية).
ان هذا التناقض في السلوك البشري يمثل تناقضا غريبا على الروح الانسانية الرحيمة، ان القسوة بلغت بالانسان، انه يعمل بالضد من نفسه، والدليل على ذلك واضحة، فما هو الدافع الذي يقف وراء حرق المحاصيل الزراعية او اتلاف الحليب، انها اعمال خبيثة عدوانية لا احج يستفيد منها، لذا لابد ان تقوم حملات عالمية كبرى من اجل تحقيق التغيير اللازم، على ان يشترك الجميع في هذا المجال بما في ذلك الطبقات النخبوية وجماعات السلطة بأنواعها.
وهنا يتساءل الامام الشيرازي تساؤلا حاسما ودقيقا، حول جنون العالم بسبب عدم تصرفات الاقوياء بطريقة مثقفة وعادلة.
وهنا يتساءل الامام الشيرازي قائلا حول هذا الجانب: (أليست هذه الأمور وأمثالها دليلاً على أن العالم الذي نعيش فيه قد فقد الموازين؟). نعم نحن نعيش اليوم في عالم مجنون، وإن بدا في السطح الخارجي هادئا، ولكن الاعماق تؤكد أننا نعيش في عالم يستحق التغيير الجذري والفوري، وهذا ما دعا إليه الامام الشيرازي منذ عدة عقود مضت ولكن لم يستجب القادة والنخب، لكن الفرصة لا تزال متاحة لهم لتغيير الأمة نحو الأفضل دائما.
اضف تعليق