من العوامل التي باتت حاسمة في تغيير المجتمعات، عامل التربية الأسرية، وهذا ما لم يتنبّه له المسلمون جيدا، ولم يعطوه ما يستحق من اهتمام وتشبث، فالتربية الأسرية بحسب قو علماء التربية والاجتماع، هي التي تضع الأسس الصحيحة او الخاطئة لبناء المجتمع، ما ينعكس سلبا أو إيجابا على الدولة وعلى حياة الأمة أو الشعب برمته، وحسب هذا التحليل، فإن التربية الأسرية باتت تشكل العنصر الحاسم في تصنيف المجتمعات والدول من حيث التقدم أو الانتماء الى الدول المتأخرة، فهل يمكن أن يكون دور التربية الأسرية على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة؟.
في مراجعة متفحصة ودقيقة لأدبيات ومبادئ الفكر الاسلامي، يستطيع الباحث المدقق، أن يصل الى نتيجة مؤداها أن الاسلام منذ انبثاقه، ومنذ تدرّج ظهور القيم الاسلامية تتابعا وتناميا مع انتشار الرسالة النبوية، ركّز بنسبة عالية من تعاليمه على أهمية الأسرة كركن أساسي في بناء الأمة، وأولاها عناية كبيرة وأساسية، وألحق بها مسؤوليات كبرى، وأوكل لها رعاية الانسان الذي قومه الله تعالى وخلقه (بأحسن تقويم)، وانطلاقا من هذا الاهتمام الاسلامي الحاسم بالعامل التربوي، يتطيع الباحث أن يصل في جملة من الاحاديث الشريفة والروايات المسندة، الى الأهمية الكبير التي اولاها الاسلام للتربية السليمة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الفقه: المستقبل): (إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام بها؛ وذلك لما لـها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها المعنوي، وانقاذها من مزالق الشيطان ومرديات الهوى، وكذلك في إصلاح المجتمع وسوقها نحو الخير والفضيلة والمحبة والإنسانية).
وليس ثمة أنسب من هذا الشهر الكريم رمضان المبارك، أن تنطلق الأسرة في تعضيد ومضاعفة دورها في رفع مستوى الجانب التربوي لأفرادها، ونعني بهم الأبناء (ذكورا وأناثا)، وحتما أن النتائج سوف تكون بمستوى الرعاية والاهتمام الذي تقدمه الاسرة في هذا المجال، وصار من البديهي أن التأسيس لتربية قويمة هو تأسيس لدولة ومجتمع ينتمي الى التقدم والارتقاء بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن تأثير التربية على سلوك الإنسان يشبه إلى حد كبير توفير التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات ورشده، وثمره وينعه، وعليه: فالاهتمام بالتربية، يعني: توفير مستلزمات التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين والصالحين).
أثر الوالدين في نوع التربية
كما هو واضح، ينشأ الانسان وليدا لا يعي من الدنيا شيئا، ولا يعرف ماذا يدور حوله، وليست له فكرة عن الحاضنة التي ينضم إليها، لذلك مع تواصل نموه سوف يتطبع بطباع هذه الحاضنة الاسرة، وسوف يتخلق بأخلاقها، ويتعلم من علمها ويغترف من القيم والعادات التي تؤمن بها، وسوف يكون نسخة قريبة لها نفس الافكار التي يحملها افراد الأسرة، ولكن يبقى للأبوين (الأم والأب) الدور الحاسم في طريقة ونوعية الشخصية التي سيكون عليها الطفل.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (لا شك أن للأسرة ـ وخاصة الوالدين ـ الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة، والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات الحسنة، التي ينبغي لهم ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي). وهذا يعني انعكاس القيم التي يؤمن بها الأبوان على افراد العائلة، لذلك لابد أن يتم ترسيخ القيم الانسانية في نفوسهم، ولعل الوقت الاكثر تأثيرا من حيث الانسجام والتقبل هو شهر رمضان الكريم، ففي هذا الشهر تكون النفس مستعدة لقبول التصحيح والتوجيه والتغيير نحو الأصح والأقضل دائما، ولهذا ينبغي أن يستثمر الأبوان هذه السمة بصورة جيدة.
إن حضارة الانسان أسست لها التربية الأسرية، فالقادة والمفكرون والفلاسفة والعلماء ودعاة التحرر، انما تخرجوا على ايدي أمهات وآباء عظماء، غرسوا قيم الخير في نفوس ابنائهم، وانعكس ذلك على المجتمع من خلال تأثير افكار هؤلاء المتميزين على افراد الامة، فتم تشييد الحضارة الانسانية الراقية، وفي الغالب كان شهر رمضان هو التوقيت الأكثر تأثيرا نظرا لأجوائه التي تجعل النفس اكثر استعدادا لاستقبال قيم الخير والعمل بها.
إن الأسرة هي المسؤولة عن منع الفكر المتطرف من الدخول الى حياض العائلة، وهي المسؤولة عن غلق ابواب العقول عن استقبال العادات والافكار المتطرفة، فالأسرة هي صمام الامان الذي يمنع الانسان المنتمي إليها من الانحدار في التطرف، والافكار المتعصبة والتكفير وما شابه، فالأسرة، وخصوص الأب والأم ومن ثم الأخ الاكبر والأخت الكبرى، هؤلاء نماذج لمن يصغرهم، حيث يتعلمون منهم القيم الجميلة ذات البعد الانساني الخلاق، لذلك دور الاسرة يكون حاسما وخطيرا في قضية البناء والتحصين والحماية من الانحراف.
يقول الامام الشيرازي في ذلك: إن للتربية الأسرية (دور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالأسرة هي التي تربّي الأبناء وتعدهم للمشاركة في الحياة؛ لذا فهي مسؤولة عن تنشئة أطفالها تنشئة سليمة متسمة بالاتزان والاستقامة، والبعد عن الإنحراف والتطرف).
دور المدرسة والتجمعات الاخرى
لا شك ان الانسان ليس معزولا عن محيطه، بل هو على تماس دائم مع افراد هذا المحيط، لذلك سوف يؤثر ويتأثر بهم ايضا، من خلال الأقوال والافكار التي يتقبلها، أضف الى ذلك ما يراه من سلوك سوف يتطبع عليه ويعمل به بسبب تأثره بالمحيط، من هنا لابد أن يتم تركيز الاسرة على هذا الجانب، فلا يصح أن تزج الاسرة بطفلها في وسط موبوء بالانحراف والتعصب او الركون الى عادات اللهو وما شابه.
ان الاسرة وخاصة الاب والأم، تقع عليهم مسؤولية العلاقات التي تجمع بين ابنهما وبين افراد المحيط الذي يتغلغل فيه، صحيح ان الخطوة التربوية الاولى للوليد تبدأ بالأم والأب ومحيط الاسرة، لكن بعد ذلك سوف تأتي خطوات اكبر وأوسع وقد تنطوي على مخاطر في حال اذا كان المحيط الذي ينشط فيه الطفل ليس سليما، لذلك ينبغي على العائلة أن تراقب الابن والبنت، وان تستثمر اجواء الايمان والزهد والتقوى في شهر رمضان لكي تبني شخصية الابن بصورة سليمة وتحميه من الانحراف والتأثير بالمحيط اذا لم يكن سليما.
لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر في أجواء المجتمع.. في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه).
وفي الخلاصة لدينا ركنان أساسيان يشتركان في العملية التربوية، وهما الأسرة والمجتمع، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي، هذا الركنان يتركان تأثيرا فعالا على الانسان، فالاسرة هي الرافد الاول لتربية الانسان، طفلا ومراهقا وشاب، أما المجتمع فهو المدرسة الكبرى التي يغترف منها الفرد افكاره وعاداته وقيمه، لذلك ينبغي ان يكون هناك دور فاعل للاسرة في هذا المجال، فالمحيط المجتمعي يتم اختياره من الأسرة لضمان احتكاك سليم لابنهم مع الحاضنة.
فكما يقول الامام الشيرازي: (إن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان، لأن الإنسان يستند إليها في سنه المبكر ويعتمد عليها في شبابه وكبره، مضافاً إلى ما قد تلقاه من تعليم في صغره، وما سوف يحصل عليه من تجارب وعلوم في مستقبله).
اضف تعليق