q

هذا نداء واضح للمسلمين، عليكم إحياء القيم، فالأمم المنضبطة هي الأكثر استقرارا وازدهارا وتقدما على كوكب الأرض، والانضباط هنا، ليس بمعنى التحجّر وفق نمط فكري حياتي واحد، إنما يعني الانضباط مجموعة من الاجراءات تنظم نشاط المجتمع وفق تشريعات وقواعد تضبط ايقاع الحركة في علاقات متناسقة تصب في الاتجاه السليم، والنتيجة ستكون أمة ومجتمع مستقر متقدم، هذا ما نراه في المجتمعات والأمم التي تتصدر قيادة العالم اليوم.

فقد اجتهدت النخبة في تلك المجتمعات كي تعلّم الامة كبح الرغبات الفردية الخارجة عن اطار المتعارف والمتفق عليه، حيث تحتاج النفس البشرية الى ضوابط تحد من غرائزها ورغباتها غير المنضبطة، وهذه القواعد تواجدت وتضاعفت عبر الرحلة البشرية في الاديان السماوية وفي الفكر الانساني الخلاق، وكلها تضع حدودا ومسارات على الانسان أن يلتزم بها، لأنها طريق الخير وصيانة الحرمات والحقوق، وهي ايضا الطريق الى بناء اسرة بشرية منسجمة ومتعالية على الصغائر، ينتج ذلك من خلال تربية قوية وجادة تقودها العقول الرصينة في المجتمع.

علما أن كل الأفكار التي تعارض فطرة الانسان سوف يكون مصيرها الاضمحلال والانطفاء، كما يؤكد ذلك الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، اذ يقول سماحته في كتابه القيم الموسوم بـ (من اسباب ضعف المسلمين)، حول هذا الموضوع: (لقد رأى العالم كيف تموت المبادئ غير الصحيحة والتي تخالف فطرة الإنسان، فلم تنتشر إلا في ظروف خاصة يحكمها الجهل حتى إذا ما وعت الشعوب ولو بعد مضي سنوات أو قرون نبذوها وراء ظهورهم).

وهكذا سعى المصلحون الى وضع الخطوط العريضة التي يمكن من خلالها ضبط حركة المجتمع بصورة متناسقة، ولكن من الامور الحساسة التي لاحظها العلماء والمصلحون والمفكرون المعنيون، أن المبادئ الانسانية التي رسختها الاديان السماوية والافكار المتنورة، تمر في العصر الراهن في منحدر خطير، قد يؤدي بالبشرية الى مسارات مهلكة نتيجة الصدامات وتضارب المصالح الحيوية وما شابه، الامر الذي قد يقود الى حروب قد تقضي على البشرية، فيما لو غاب العقل، وغابت الافكار العقلانية، وهذه مهمة قد تكون شاقة على من يهمه الامر، لكنها الطريقة الوحيدة التي تعيد الوضع الانساني الى طبيعته.

لهذا الأمر فإن ما يؤكده المعنيون الاجتماعيون والاخلاقيون في هذا الصدد، لم يأت اعتباطا، ولم يعلن المصلحون تخوفهم جزافا، بل إن الانسانية ازاء منزلق اخلاقي ومصيري خطير، بسبب تزايد التناقضات والصراعات على الموارد وحماية المصالح بالقوة، بعيدا عن ركائز العدل واعتماد المواثيق والقوانين التي ينتظم تحتها الوجود البشري اجمع، إن المبادئ الانسانية تموت أمام مرأى الانسان، والاسباب معروفة سلفا، لذا يجب التحرك الفوري لانهاء هذا الانحراف الخطير في المسار البشري.

تبديل القيم الجيدة بالرديئة؟!

هناك مشكلة يواجهها العالم أجمع، تتمثل بانحدار القيم، من دون أن يتنبّه الانسان الى الخطورة الفادحة التي تكمن وراء هذه المشكلة الكبيرة، علما أن العلماء يجمعون الرأي على أن انتشار الحالات والظواهر السلبية، يتم في الاوساط التي يكتنفها الجهل والتخلف والجوع، وهذه البيئة الخطيرة تتولد في ظل الاستبداد والقمع الذي تنتجه الحكومات المتجبرة والحكام الطغاة، لهذا تبدو الحاجة للفكر الوضاء كبيرة جدا، لأن غياب الفكر الذي يتسق مع فطرة الانسان يشكل فراغا نفسيا وفكريا وماديا هائلا بين الناس، ويضطرهم الى ملء هذا الفراغ بالخرافات والظواهر الفكرية المتخلفة، لهذا يدعو العلماء والمصلحون الى ملء الفراغ الفكري بالمبادئ الانسانية الراسخة، التي تتواءم مع فطرة الانسان

وهذا ما يرتئيه الامام الشيرازي، حول هذا الموضوع اذ يقول سماحته في كتابه نفسه: (كما رأى العالم كيف أن الغرب المسيحي رفض المسيحية واستبدلها بالعلمانية والمادية، وذلك لأن الإنجيل المحرف لا يملك من القدرة والشمولية ما يستوعب الحياة في كافة مراحلها، حيث لم يبق منه سوى بعض الوصايا وقد بدلوها أيضاً ولم يعملوا بها، فقد روي عن السيد المسيح العظيم -على نبينا وآله وعليه السلام- أنه قال لبعض أصحابه: ما لا تحب أن يفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم أحد خدك الأيمن فأعطه الأيسر، ولكنهم صيروها إلى قنابل وصواريخ وحربين عالميتين وحروب لا تعد ولا تحصى في بلاد المسيحية وغيرها التي يقودها العالم الغربي، إلى ألف شيء وشيء).

في المقابل هناك معاناة كبيرة تطول المسلمين بسبب الحكومات الظالمة التي تضعف القيم وتدمر الاعراف وتخرق النسيج المجتمعي وتنشر الاحقاد بين مكونات الشعب، حتى يقل التماسك بينهم، وتصبح السيطرة عليهم ممكنة، وهذه هي اساليب الطغاة، اذ أننا نلاحظ ما يعانيه المسلمون في عموم الدول ذات الانظمة القمعية، من تشرذم وتشتت وضياع في الهوية الاسلامية الحقة، حيث ينتشر الجهل وتنتهك حقوق المسلمين، ويتم سرقة ثرواتهم واموالهم، وهم يعانون من قلة التعليم والوعي، وتدمير القيم او اضعافها بصورة مستمرة.

من هنا يؤكد الامام الشيرازي على: (أن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم).

الغرب عمل بالتعاليم الاسلامية

علما أن هناك نقطة ضعف واضحة في حياة المسلمين، تتمثل في أنهم لم يتمسكوا بجوهر الاسلام وتعاليمه، ولهذا تأخروا عن الركب، وتركوا بمحض ارادتهم موقع الصدارة في قيادة البشرية، ولو ان المسلمين عملوا بقوانين الاسلام وتعاليمه، حول تنظيم الحياة، وحماية الحقوق الفردية، وحق الانسان بالانتخاب والتصويت والمشاركة الفعلية في اختيار القادة السياسيين، لما تعرضوا الى شتى انواع الجهل والمعاناة، والدليل أن الغرب الذي اخذ بقوانين الاسلام، استطاع ان يحقق نجاحا مستمرا في مجال الحريات، والحد من ظواهر القمع والتجاوز على حقوق المواطنين، وصار الحاكم خاضعا له بدلا من ان يكون مصير الشعب بيد الحاكم.

يشير الامام الشيرازي الى هذه القضية بقوله في كتابه المذكور نفسه: (لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات). وها أن الامام الشيرازي يضع اصبعه على الجرح، عندما يصف حال المسلمين الآن بالمتأخر، قياسا بما كان عليه المسلمون في صدر الرسالة الاسلامية، ومزاياهم الكبيرة والعظيمة، وبين ما هم عليه الان من تراجع ونكوص وضعف، فضلا عن التعامل الشكلي مع الدين الاسلامي وتعاليمه، بسبب ضعف المبادئ الانسانية وعدم اعتماد القيم الاسلامية في ادارة شؤون المسلمين.

لذلك يتساءل الامام الشيرازي بوضوح تام، مقارنا بين مسلمي الماضي ومسلمي هذا العصر: (هل نملك نحن المسلمين اليوم تلك العزيمة اللازمة، والفكر الكافي، والوعي الإسلامي، والإيمان الثابت، والجهاد الصادق، وبذل كل الطاقات في سبيل الله كالذي كان عليه المسلمون الأوائل، وبحسب الذي يريده الإسلام منا، أم أن الإسلام شيء ونحن المسلمين شيء آخر؟). هكذا ينتهي هذا التساؤل المؤلم، علّه يؤثر في نفوس قادة المسلمين، كي يستعيدوا أمجادهم من خلال كبح الرغبات البائسة، والنهوض بعناصر القوة والازدهار بما يتناسب والحجم الصحيح للمسلمين غبر التاريخ.

اضف تعليق