يوم بعد آخر تتعقد الحياة أكثر في كوكب الأرض، وتتقلص الموارد، ويزداد عبث الإنسان بالبيئة والطبيعة، وبدلا من أن يستثمر المزايا ويجعل منها طريقا لبناء الحياة الأجمل، يسعى نحو الطرق الأخرى التي تقوده الى الحروب والمجاعات والامراض، وهذا الخلل في إدارة الأرض ومواردها، لا يتحمله صناع القرار والأغنياء الذين يوجهون سياساتهم ويتحكمون بها كيفما يشاؤون، وإنما يتحمله فقراء الأرض، فيعانون من المجاعات والبؤس وشظف العيش بسبب تردّي الاقتصاد العالمي!.
لا يحدث هذا في الغرب وحده، او في الشرق، ولا يقتصر البؤس على شعوب بعينها، فحتى الشعوب والدول التي توصف بأنها غنية ومتقدمة، تعاني من عبء الأخطاء المادية التي يرتكبها قادتها، أما الشرق، والدول التي تقودها حكومات اسلامية، فإنها في الحقيقة لم تقترب من نظرة الاسلام لادارة الاقتصاد، ولم تجهد نفسها كما ينبغي كي تحمي شعوبها من الفقر والجوع على الرغم من أن العلماء وقادة الفكر والرأي وضعوا تصورات ومرتكزات مهمة لبناء الاقتصاد السليم.
لكن في الحقيقة لا نعرف لماذا يهمل الحكام تلك الرؤى، والنظريات والافكار الاقتصادية التي تنطوي على حلول ناجعة للأمراض الاقتصادية التي تعاني منها الشعوب الاسلامية الغنية بثرواتها، والفقيرة في واقعها وحياتها، ولو أنهم أعطوا قليلا من وقتهم واهتمامهم لمثل هذه الأفكار، لما كان المسلمون في العالم أجمع، يعانون من المشكلات الاقتصادية الصعبة التي يواجهونها في هذا العصر كمحصلة او نتيجة لأخطاء حكومية سابقة.
الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، هو واحد من أهم العلماء المعاصرين الذين قدموا نظريات وبحوث مهمة في معالجة الاقتصاد، وفق منظور اسلامي، ويتميز هذا الفكر بالوضوح والدقة وسهولة التنفيذ العملي، كما نلاحظ ذلك في عدد من مؤلَّفات سماحته في هذا المجال، ومنها كتابه القيم الموسوم بـ (الاقتصاد الاسلامي في سطور).
اذ يلخّص سماحته رؤيته لمعالجة المشاكل الاقتصادية، في خطوات واضحة، كما نقرأ ذلك في قوله: (من أهم الأمور التي ينبغي الإشارة إليها في الاقتصاد الإسلامي، هو السعي من اجل تحقيق ما يلي: أن لا يكون هناك فقراء يعانون الجوع والمرض والفقر. أن لا تكون هناك مشاريع معطلة. أن لا تبقى طاقات إنسانية، أو غير إنسانية عاطلة. أن لا يبطر الغني).
إذاً نحن ازاء بنود واضحة عددها أربعة، حددها الامام الشيرازي وألقى مسؤولية تطبيقها على القائمين بإدارة الاقتصاد، كما نطالع في قول سماحته: (يقوم الاقتصاد الإسلامي بدور البنود الأربعة: فلا فقراء في الدولة الإسلامية. ولا مشاريع معطلة. ولا طاقات معطلة. ولا يتمكن الغني من البطر.
حماية الكرامة الإنسانية
من أهم الادوار التي يجب أن تتبناها الدولة، وترعاها وتكون مسؤولة عنها، هي حماية كرامة الانسان، من خلال مكافحة الفقر الذي قد يطول حياة الانسان، فيجعله عرضة للذل والامتهان، وهو امر تتحمله الدولة بصورة تامة، لذلك ينبغي أن تتخذ الدولة كافة الاجراءات والخطوات التي تسهم بصورة فعالة في مكافحة الفقر، وتقوية الاقتصاد ودعمه بالحيوية والركائز العلمية التي تجعل منه اقتصادا ناهضا ومواكبا لمستجدات لعصر.
علما أن القيام بهذا الدور وتحقيق كفاية الانسان، ليس فضلا للدولة او قادتها على الناس، إنما هذا واجب عليهم القيام به على افضل وجه، ولا يمكن أن يتم النظر له على انه فضل، او صدقة يحصل عليها المواطن، وانما هي حق مكفول للشعب تؤديه الدولة واجهزتها ومؤسساتها الاقتصادية والادارية على افضل وجه.
وهذا بالضبط ما أكد عليه الامام الشيرازي في قوله الواضح حول هذا الموضوع، عندما قال سماحته بالحرف الواحد في كتابه المذكور آنفا: (أما أنه لا فقراء، فإن الدولة الإسلامية مسؤولة بسد حاجات كل فقير. وذلك حسب اللائق بالكرامة الإنسانية، لا - صدقة- بمفهومها المزري، بل حقاً واجباً).
وقد كان الامام الشيرازي في افكاره الاقتصادية دقيقا وواضحا، وطالما كان سماحته يذهب الى هدفه بصورة واضحة، حتى يسهّل على القادة واصحاب القرار، اتخاذ الخطوات العملية المباشرة التي تقودهم الى معالجة الاقتصاد بصورة فعالة وحيوية، وتمكنهم من تأشير مكامن الخلل، والشروع بمعالجة الاخطاء والمشاكل بصورة علمية وفورية في ذات الوقت.
ولذلك حدد الامام الشيرازي احتياجات الانسان المعاصر بأنواعها، وحسب اولوياتها وأهميتها، ثم اكد سماحته بأن جميع هذه الاحتياجات تقع على عاتق الدولة، وهي التي ينبغي أن تتبنى اداءها على نحو مكتمل، وهذا هو واجبها ازاء الشعب، وهذه الحاجيات ما هي إلا حق مكفول لا ينبغي أن تهمله الدولة في أي حال من الاحوال.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحته حول هذا الجانب: (المراد بالحاجات، المأكل، والملبس، والمسكن، والمركب، والزواج، والسفر، والثقافة، والدراسة والضرورات الطارئة كالمرض وما أشبه).
خارطة عمل للمشاريع المتميزة
من الامور التي لا يجادل فيها أحد، أن المشاريع الحيوية الكبيرة، هي التي تجعل من اقتصاد الدولة متينا قويا ومستقرا، وقادرا على المنافسة في الاطار العالمي، كما انه قادر على اداء واجباته حيال الشعب، لاسيما ما يتعلق برفع المستوى المعيشي والقدرة الشرائية، وتطوير مؤسسات الدولة التي تضاعف من خطط التنمية والموارد بأشكالها وانواعها كافة.
لذلك ليس مسموحا إهمال المشاريع وحسب الحاجة لها، وفق دراسات متخصصة تحدد حاجة الدولة والاقتصاد لهذه المشاريع او تلك، وهذا الهدف يقع ضمن مسؤولية الدولة والحكومة وصناع القرار في المجالين السياسي والاقتصادي، لذلك على الكفاءات ولجان التخطيط، أن تنهض بالعمران، والصناعة والزراعة والتجارة، وادارة الاموال العامة بصورة حازمة ودقيقة بعيدا عن حالات الفساد التي قد تطولها.
يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص تحديدا: (أما بخصوص المشاريع المعطلة، فإن الدولة الإسلامية مسؤولة، لا بإقامة المشاريع بمفهومها العام فحسب، بل بالسير إلى الأمام في جميع نواحي الحياة، كالعمران، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والمال، وغيرها).
كذلك ينبغي أن تكون هناك سياسة واضحة المعالم ومدروسة بدقة، حول الطاقات الموجودة في الدولة، وتأشير المعطّل منها، لاسيما الطاقات البشرية، إذ ينبغي أن تبادر الدولة ومؤسساتها كافة، بصورة مباشرة وفورية لمعالجة ظاهرة البطالة، بين الشباب والخريجين، والاستفادة من خبراتهم ومهاراتهم العلمية والعملية في وقت واحد.
كذلك يضع الامام الشيرازي ضوابط لمنح المال للشباب او القادرين على ادارة مشاريع اقتصادية، فالمال ينبغي أن يتم صرفه في المكان المناسب، وغير مسموح أن يتم تبذيره او إهداره أو منحه لمن لا يستحقه من الكسالى والمتكلين على غيرهم، هكذا بهذه الدقة يحدد الامام الشيرازي الخطوات العملية التي ينبغي أن يسير عليها صناع السياسة الاقتصادية، في معالجة المشكلات الاقتصادية، ويمكن منح المال المناسب للعاجزين والضعفاء.
لكن ينبغي أن تهيّئ الدولة فرص العمل المناسبة للشباب وللعاطلين عن العمل كافة، فهذا هو واجب الدولة، وايضا هي مهمة الحكومة الناجحة، وهكذا نجد دروسا واضحة دقيقة سهلة وعملية في افكار الامام الشيرازي يمكن لقادة المسلمين اليوم تطبيقها للتخلص من فشلهم الاقتصادي المزمن.
يقول الامام الشيرازي في كتابه أيضا: (أما بخصوص لا طاقات معطلة، فإن الدولة الإسلامية، لا تعطي المال لمن يتمكن من العمل ويكسل ويترهل، حتى تبقى هناك طاقات بشرية عاطلة، بل يُعطي المال للضعفاء والعجزة، ولمن ينقص مكسبه عن حاجياته، أما البطالون فتهيئ لهم الدولة الإسلامية فرص العمل والتشجيع عليه).
اضف تعليق