مسؤولية المال في بناء الدولة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

التبرع ومساعدة الناس هو فعل خير، لذا من المهم أن يبادر أصحاب الأموال للبحث عن أعمال الخير التي يمكن أن تبنيها أموالهم وتبرعاتهم، فهناك مشاريع يمكن للأموال تأسيسها وتحريكها ويمكنها أن تستقطب عشرات الآلاف من الشباب الذي تدمره البطالة، وتقتله المقاهي، ويحاصره الملل والكسل من كل صوب وحدب...

(الأثرياء يحرّرون بالإنفاق بلادهم، وينقذون شبابهم من السقوط) الإمام الشيرازي

المال من الجمادات، وليس له عقل، ولا يفهم قيمتهُ ولا أهميته، ومع هذا كلّه هو الذي يتحمّل المسؤولية الكبرى في بناء الدول، فيمكن للأموال الطائلة والثروات الهائلة إذا ما تم استعمالها بالشكل الصحيح والمدروس علميا واقتصاديا، أن تجعل من الدولة المتأخرة متقدمة، ومن الدولة الفقيرة غنية، بالإضافة إلى الامتيازات التي تعود على شعوب تلك الدول.

هل يمكن للمال حقًّا أن يفعل كل هذه الأشياء، وهل له دور كبي وفعلي في بناء الدول، وهل يتحمل فعلا المسؤولية الكبر في إخفاق أو نجاح الدول وفي تقدمها أو تأخّرها؟

هذه حزمة من التساؤلات المشروعة التي نطرحها هنا في هذا المقال، ونضيف لها تساؤلا أخيرا، هل حقا يمكن للمال أن يفعل كل هذه الأشياء ويقوم بكل هذه المسؤوليات والأدوار؟

إذا سلّمنا بصحة هذه الإجابات، وبالأهمية الكبيرة للمال في بناء الدول والأمم، فهذا يعني أن الأثرياء يمكنهم أن يبنوا دولتهم، ويمكنهم أيضا أن يتركوها تتخبط في وحل التخلّف، ولكن الله تعالى حثّ الأغنياء على الإنفاق وعلى التكافل وعلى مساعدة المعوزين، وهذا يدل بشكل قاطع على المسؤولية الكبيرة التي يتحملها الأثرياء وأموالهم.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (أنفقوا لكي تتقدموا):

(على المال تقع المسؤولية الكبرى في البناء، فبالمال يمكن أن يُعمَل كل شيء، والمال عند أهل الثروة، فهم المسؤولون، وقد قرر الله في أموالهم حقا معلوما، للسائل والمحروم).

أشرنا في أعلاه إلى أهمية المال وإلى دوره الحاسم في بناء الدولة والمجتمع، وهو أمر لا يمكن أن يكون محل تشكيك، لأن المال قوة اقتصادية كبيرة وفاعلة، واستخدامه العقلاني الخبروي الصحيح، يمكن أن يرتقي بالدولة والشعب إلى مصاف الدول الراقية المتقدمة، ولهذا ليس أمام أصحاب الأموال إلا أن يفكروا في الطرق التي يمكنهم من خلالها دعم الشعوب، وجعلها قادرة أن تقف على أقدامها من خلال قوة المال.

الاهتمام بحاضر ومستقبل الشباب

إن الإنفاق المدروس للمال من قبل الأغنياء يمكن أن ينتشل شريحة الشباب من السقوط، لاسيما في الدول الإسلامية التي تقودها حكومات لا يهمها حاضر ومستقبل الشباب، بل لا تهمها الأجيال اللاحقة وكيف ستعيش مستقبلا، لهذا تتم إضاعة الثروات العامة في السياسات الاقتصادية الفاشلة وفي القرارات غير المسؤولة، ولكن هناك دول ليس فيها ثروات أصلا.

هذه الدول الإسلامية تنظر إلى أصحاب الأموال على أنهم قادرون وفاعلون في قضية بناء الدولة من خلال الإنفاق، وإنقاذ الشباب وتوفير فرص العمل المناسبة لهم.

قد يظن البعض أن أصحاب المال غير مسؤولين عن القيام بدور الحكومة في قضية إنعاش الاقتصاد، ومساندة الفقراء، ودعم المشاريع الاقتصادية، لكن الثراء الفاحش للأشخاص يوجب عليهم مشاركة الفقراء في أموالهم، حتى الأحكام الشرعية قرّرت هذا الشيء، وكل من يجد نفسه مسلما ومنتميا للإسلام عليه أن يتحمل مسؤوليته المالية في هذا المجال.

إن الدول الفقيرة يمكن أن تتعرض لخطر السقوط، كما أن الشرائح الفقيرة لا يمكن أن تبقى صامتة إلى الأبد على هدر حقوقها، وفي هذه الحالة يجب أن تكون هناك رؤية متوازنة لأصحاب المال، في قضية الإنفاق، والمساهمة بدعم المعوزين، وإنشاء المشاريع الاقتصادية الجيدة التي تنهض بالدولة والمجتمع في وقت واحد، لذا من المهم أن يبادر الأثرياء بمشاركة الفقراء أموالهم من خلال فتح المشاريع الإنتاجية السليمة وبناء المؤسسات الخيرية الناجحة.

لذا يقول الإمام الشيرازي:

(في غياب المال يكون كل شيء في حالة تأخّر، فمن الضروري على أصحاب المال أن يفكروا مليا، ثم يتقدموا إلى الإنفاق، إنهم بالإنفاق يحررون بلادهم، وينقذون شبابهم من السقوط، ويحفظون كيانهم من الخطر، ويمتصون نقمة الناس عليهم، بالإضافة إلى انهم يخدمون دينهم ومبدأهم، ويؤدون أمانتهم، ويفكون رقابهم من النار، فهل من مفكر أو متذكر)؟

التبرع ومساعدة الناس هو فعل خير بطبيعة الحال، لذا من المهم أن يبادر أصحاب الأموال للبحث عن أعمال الخير التي يمكن أن تبنيها أموالهم وتبرعاتهم، فهناك مشاريع يمكن للأموال تأسيسها وتحريكها ويمكنها أن تستقطب عشرات الآلاف من الشباب الذي تدمره البطالة، وتقتله المقاهي، ويحاصره الملل والكسل من كل صوب وحدب.

تخصيص المليارات للمشاريع الناجحة

إطلاق المشاريع بأموال الأثرياء يحل مشاكل لا حصر لها ولا عدّ، وبهذا يمكن أن تكون هذه المشاريع مصادر أرباح مناسبة ومشروعة لأصحاب المال، فتكون النتائج إيجابية في اتجاهين، تفيد صاحب المال، وتدع الشباب والدولة، وتقوّي الاقتصاد، وينظر الناس إلى المشاركين في مثل هذه المشاريع على أنهم أصحاب فضل عليهم، يؤيدونهم، ويحترمونهم، ويتكلمون عن أفضالهم في مجالسهم وفي حلّهم وترحالهم، فهل يقوم الأثرياء بالإنفاق المفيد المؤدي إلى الخير؟  

يذكر الإمام الشيرازي في نفس الكتاب:

(قال الإمام الصادق ــ (عليه السلام) ــ ما مضمونه: اجتهد أن تكون من أهل الخير.. إن الإنسان يجب عليه أن يسعى هو لأجل الخير، ولا ينتظر حتى يأتيه طلاب الخير، فإن الدال على الخير كفاعله).

هناك أقوال وشواهد تؤكد بأن الأمريكان سبقوا الأوربيين في قضية التقدم بألف عام، وروسيا فعلت المثل مع اليابان وسبقتها بمئة عام، وهناك شعوب وصلت القمر، وأخرى لا تزال تسابق الزمن كي تتقدم على سواها من الأمم، فأين نحن كبلدان إسلامية مما يحدث حولنا اليوم؟

هناك دول إسلامية لا تستطيع حتى اليوم أن تصنّع إبرة، لماذا هذا التأخّر أو التخلف بالأصح، ما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك، تلك الدول الناجحة تخصص المليارات للمشاريع الناجحة، ولا تتردد في دعم الجهات المهنية المتخصصة بالأموال حتى تحقق النجاح اللازم في الصناعات أو التجارة أو التعليم، أو أية مشاريع تخدم الدولة والمجتمع، لماذا تأخرت الدول الإسلامية، وعلى من تقع مسؤولية ذلك، ألا تقع على المال واصحابه نسبة عالية من هذه المسؤولية؟

يذكر الإمام الشيرازي في هذا الخصوص:  

(يُقال إن الأمريكيين سبقوا الأوربيين بقرن من الزمان، والروس سبقوا البلاد الصناعية ــ مثل اليابان ــ بقرن من الزمان، وهم سبقوا المسلمين بقرن من الزمان. أما أنا فلا أقصد صحة المثل، لكني أعلم أن بعض الشعوب وصلوا إلى القمر، وبعض الشعوب الإسلامية لا يصنعون حتى الإبرة، فكم الفاصل بين الطرفين).

نعم هناك مسؤولية كبرى لا يمكن حجبها، أو إغفالها، تقع على المال وأصحابه، فهؤلاء يكنزون الأموال، ويخفونه في قاصات وأرصدة لا يصل إليها أحد، وتبقى حبيسة هذه السجون، ولا يستخدمها هؤلاء في النهوض ببلدانهم وشعوبهم، بحجة أنهم ليسوا حكومات وهذه ليست مهمتهم، لكن الله تعالى والدين والقرآن حثوا على هذه المهمة ودعوا الأغنياء للتبرع، وهناك جنبة شرعية معروفة في هذا المجال.

لذا لابد أن يبادر أصحاب المال وأن يشاركوا بالدور المطلوب منهم في هذا المجال، وأن ينهضوا بشعوبهم وحتى دولهم، عبر أموالهم والمشاريع التي يمكن أن يطلقوها لكي تتحرر دولهم من ربقة الفقر وتنطلق بلدانهم في سباق التقدم الأبدي مع الأمم والدول الأخرى.

يقول الإمام الشيرازي:

(إن الأثرياء منا إذا بذلوا بسخاء، وأهل القوة إذا سهروا وخدموا بسخاء، فلعلنا نتلافى بعض ما نعانيه من التأخر).

الخلاصة لا يمكن لصاحب المال أن يتحجج بأن القانون لا يجبره على التضحية بأمواله، ولكن الدين يطالبه بذلك، وعمل الخير يجلب للأموال الخير ولصحابها، ويضاعفها، بالإضافة إلى أن هذه المبادرات تنقل الدول الإسلامية ومجتمعاتها إلى مصاف الدول الكبرى.

اضف تعليق