إننا ملزمون بقراءة التاريخ جيدا، لاسيما السياسي والحقوقي، وعلينا أن نفهم جيدا ما طرحه الإمام الشيرازي من أفكار وآراء وملاحظات قبل عقود طويلة، ولابد لذوي الشأن أن ينظروا لهذه الملاحظات بجدية وخصوصا النخب السياسية، ليقوموا بمعالجة حالات الظلم والاستبداد التي لم تعد تتلاءم مطلقا مع واقع العصر الراهن....
(يتضاعف الظلم إذا كان الحاكم نفسه ظالماً لشعبه، مستبداً برأيه) الإمام الشيرازي
قد لا يقدّر بعض الحكام والمسؤولين تلك النتائج المؤلمة التي تحدث للمجتمع بسبب حالات الظلم التي تفتك به، والتي غالبا ما يكون سببها الأساسي هم الحكام الظالمون المستبدون، فالظلم يقع على فرد أو مجموعة أفراد، وقد يقع بشكل أوسع على مكوّن أو جماعة كبيرة نتيجة لاتخاذ قرار، أو إصدار أمر معين يُلحق الضرر بهؤلاء، فتكون النتيجة مؤذية ومؤلمة.
وفي الغالب ينظر الناس إلى الحكام والمسؤولين من الدرجات العليا على أنهم نماذج لهم، لذلك لا نستغرب إذا كثر الظالمون في مجتمعات حكامها من الظالمين، فالناس على دين ملوكهم كما يُقال، وعندما يرى المواطن الذي لا سلطة بيده ولا ممتلكات كبيرة عنده ولا قوة ولا مال، من يمتلك هذه الأدوات ويبدأ يبطش بالناس، فإن المواطن العادي سوف يكون ظالما أيضا.
وهكذا سوف تكثر المشكلات والنزاعات والاضطرابات داخل المجتمع، مما يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار، وتهديد واضح للسلم الأهلي، وصراعات لا أول لها ولا آخر، بسبب حالات الظلم التي تتكاثر وتنمو لتصبح سلوكا مألوفا بين الجميع، فلا غرابة حين يظلم المدير مرؤوسيه بقرار مجحف، ولا دهشة في رؤية الظالمين يتكاثرون أكثر من الناس الصالحين، والمشكلة أن النتائج ستكون وخيمة على المجتمع الذي ستنتشر فيه الأمراض النفسية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (آثار الظلم في الدنيا والآخرة):
(إن المجتمع الذي تكثر فيه حالات الظلم، لابد وأن تكثر فيه الاضطرابات المختلفة، وحالة عدم الاستقرار، وتترتب عليه آثار وخيمة جداً في نفوس أبناء المجتمع).
في مجتمعاتنا المسلمة، يكثر الظلم، والسبب الأكبر هو الحاكم وحكومته، لاسيما إذا كان فرديا في إدارته للبلاد، وينظر لعقله على أنه العقل الوحيد القادر على فهم ما يدور، وأن رايه هو الرأي الوحيد الصائب من بين كل الآراء.
الظالمون مصابون بالأمراض النفسية
المشكلة الأكبر أن هذا النوع من الحكام، لا يهمه سوى حماية سلطته، لذلك يعتقد بأن القرارات التي يتخذها سوف تعزز قوته وسلطته وتحمي عرشه من السقوط، ولا يعلم بأن العكس تماما هو الذي سيحدث، فالاستبداد ينتهي بسقوط الحاكم، لكنهم لا يتابعون مسيرات الطغاة السابقين، فجميعهم سقطوا لأنهم مستبدين ظالمين.
هذه النتائج التي حصلت واقعيا، أكدها الكثير من علماء النفس والاجتماع، فالحاكم المستبد هو إنسان مريض نفسيا، يعاني من التضخم الذاتي، ويرى إلى نفسه فوق البشر العاديين، بينما تقول الحقيقة أنه لا يختلف عنهم بأي شيء، بل على العكس هنالك الكثير من الناس أذكى منه، وأشجع منه، وأكثر توازنا منه، وبإمكانهم إدارة البلاد والأمة بكفاءة عالية.
التاريخ دائما له الكلمة الفصل، وهو الذي يضع النقاط على الحروف، ويُظهر الأخطاء الفاحشة التي ارتكبها الظالمون المستبدون في حق شعوبهم وبلدانهم، ولو أردنا أن نعدد ونذكر الأمثلة لوجدنا العشرات منهم إن لم نقل المئات على مرّ التاريخ.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال:
(يتضاعف الظلم إذا كان الحاكم نفسه ظالماً لشعبه، مستبداً برأيه، لا يهمه سوى مصالحه الشخصية، وبقائه في الحكم مدة أطول. وهذا شيء لا ينكر وقد صرح به علماء الاجتماع أيضاً، والتاريخ ينقل لنا شواهد كثيرة بهذا الخصوص).
ونظرا للنتائج الوخيم للظلم، فإن الإسلام وضع شروطا وصفات واضحة يجب أن تتوافر بلا أدنى شك في شخصية الحاكم أو الرئيس، ولا يجوز لكل من هبّ ودب أن يدير الناس لمجرد أنه يمتلك القوة العسكرية الضاربة، كما حدث في مرحلة الحكومات الانقلابية في العراق
فحكامها في الحقيقة لم يأتوا بالطرق الدستورية التي تؤهلهم كي يكونوا حكاما يأخذون سلطتهم من مصدرها الصحيح، ونعني به (مجموعة الناخبين) الذين ينتخبون الحاكم والحكومة بطريقة الانتخاب الحر الواعي العادل في أجواء آمنة وبعيدا عن الإكراه أو استخدام وسائل اللف والدوران والاحتيال والتزوير وما شابه.
لذا فإن الحاكم وحكومته يجب أن تتوافر فيه الشروط المحددة، وعليه أن يتحلى بالصفات المعروفة للقادة والرؤساء، وفي المقدمة منها العدالة والإنصاف وكل القيم التي كان يتحلى بها قادتنا العظام في حكومتي الرسول صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام، فحين يكون الحاكم أكبر من السلطة وأعلى من العرش وكرسي الحكم، لن يكون ظالما ولا مستبدا.
الإمام الشيرازي يثبت هذا الرأي في قوله:
(من هنا نرى أن الإسلام أكد على صيانة المجتمع بدءاً من قيادته إلى عموم الرعية، فجعل هناك شروطاً وصفات لابدّ من توفرها في الحاكم والرئيس، بحيث لا تنحرف القيادة عن طريق الحق، ولا تنتهي بالأمة إلى أسوأ مصير).
الإيمان صفة الحكام الناجحين
الإيمان أيضا يجب ان يكون حاضرا في شخصية الحاكم والمسؤولين الذين ينفذون سياساته وقراراته، فالحاكم المؤمن لن يظلم أحدا مطلقا، بل لا يسمح لأحد من المسؤولين بظلم الناس، وهذه هي ميزة الحكام الذين خلّدهم التاريخ وظلت أعمالهم وطريقة إدارتهم للدول مضرب أمثال تاريخية للجميع، على العكس تماما من الظالمين الفاشلين.
ظلّت الألسن والقلوب والتاريخ أيضا يواصلون ذكرهم باللعنات، ويجعلون منهم أمثلة فاسدة وفاشلة للحكومات الرديئة الفاسدة، وللحكام الفاشلين الفاسدين، لهذا طالب الإسلام بأن يكون الحاكم مؤمنا ومدعوما بالإيمان الحقيقي، عادلا بما لا يقبل الشك، وله قدرة وفهم وتبحّر في إدارة الشؤون والقضايا السياسية.
الإمام الشيرازي ركز على هذا الجانب قائلا:
(لقد فطن الإسلام إلى الظلم لأنه أمر خطير، فاشترط شروطاً مهمة في الحاكم، ومنها: الإيمان، العدالة، التفوق في الدراية السياسية، وقد أشار الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) إلى هذه الناحية فقال: لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم).
واقعنا يشير إلى أننا لم نلتزم بكل ما أوصانا به القرآن والرسول صلى الله عليه وآله، نحن في الحقيقة خضعنا لحكومات وحكام فيما مضى لم يحملوا هذه الشروط ولا هذه الصفات، لذلك تأخرنا كثيرا عن الأمم الأخرى، وزادت مشاكلنا، وتعددت نزاعاتنا، وصرنا نعاني من العجز التام في معالجة الكثير من النتائج التي أفرزها الحكام غير الصالحين.
وهكذا زادت الفواحش أيضا، وانتشر الظلم والفساد، وانعكس ذلك على طرائق إدارة الحكم، الأمر الذي يتطلب فهم الواقع، ودراسة النتائج، ومعالجة حالات الظلم وحل المشاكل، وفك تعقيدات النزاعات، والحد من السلوكيات والقرارات الحكومية غير السليمة.
هذا ما يراه الإمام الشيرازي قبل عقود عندما يقول:
(لكننا في الوقت الحاضر أهملنا العمل بالكثير من التوصيات التي أوصانا بها القرآن والرسول (صلى الله عليه وآله)، لذا نجد الظلم والفساد وغيرها من الفواحش قد كثرت في غالب المجتمعات المسلمة، وهذه بدورها قد انعكست على سمعة القوانين الإسلامية).
في الخلاصة إننا ملزمون بقراءة التاريخ جيدا، لاسيما السياسي والحقوقي، وعلينا أن نفهم جيدا ما طرحه الإمام الشيرازي من أفكار وآراء وملاحظات قبل عقود طويلة، ولابد لذوي الشأن أن ينظروا لهذه الملاحظات بجدية وخصوصا النخب السياسية، ليقوموا بمعالجة حالات الظلم والاستبداد التي لم تعد تتلاءم مطلقا مع واقع العصر الراهن.
اضف تعليق