الحجاج الذين يفدون إلى بيت الله الحرام يشكلون مجتمعا إسلاميا متكامل الأوصاف والخصائص: مجتمعاً تذوب فيه الفروق والحواجز.. مجتمعاً متكاتفاً يساند بعضه بعضا.. مجتمعاً يرتدي لباسا واحدا، ويتجه صوب هدف واحد، ويطوف حول محور واحد.. مجتمعاً يعيش كله في بيت واحد، لأنهم أبناء أب واحد، وأم...
كان الحج من تلك الأمور التي أخذت موقع الصدارة في فكر المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (أعلى الله درجاته)، فقد اعتبر هذه الشعيرة الإسلامية مفصلاً للشعائر والعبادات، ومنطلقاً لبناء الحضارة الإسلامية القائمة على أركان (الأمة الواحدة) و(الأخوة) و(الحرية) و(الشورى) و(التعددية).
ليس الحج مجرد طقوس عبادية وحسب، بل هو عصارة الإسلام، حيث يتضمن مختلف العبادات والأهداف الإسلامية، ومن هذه النظرة تعامل الإمام الشيرازي مع هذه الفريضة ونظر إليها باعتبارها منطلقا لإعادة بناء حضارة المسلمين بعدما لحقها من دمار وسقوط وانهيار.
فالواقع الذي تعيشه الأمة في الوقت الراهن بحاجة ماسة إلى العودة إلى المفهوم الحضاري للحج، ذلك المفهوم الذي كتب عنه الإمام الشيرازي في الكثير من الإصدارات المستقلة أو في دراسات تعنى بشؤون الأمة والحضارة.
من هنا كان هذا البحث في فلسفة الحج عند الإمام الشيرازي إضاءات على الطريق الذي ستسلكه الأمة نحو استرداد عافيتها بعد سقم طال أمده.
يصف الإمام الشيرازي (ره) الحج قائلاً: (الحج أقوى مظهر إسلامي).
فإن الإسلام له جوهر وعرض، وجوهره هو التوحيد والنبوة والإمامة، وخلاصة هذه الأمور الثلاثة هي الولاية، فالإسلام يتلخص في الولاية: أولا: الولاية لله ومن ثم للنبي (ص) ومن بعده للإمام علي (ع) هذا هو جوهر الإسلام، أما المظهر (العرض) فهو العبادات كالصلاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أقوى هذه العروض ـ على رأي الإمام الشيرازي ـ هو الحج.
وقد أكتسب الحج هذه القوة من عدة زوايا:
1: الحج يتضمن كل العبادات
فالحج يتضمن الصلاة، لأن فيه ركعتي الطواف التي تجب على الطائفين بعد أن انتهوا من الشوط السابع سواء في الحج أو العمرة. وفي الحج يصوم من لم يقدر على الهدي، وكذا صوم بدل البدنة أي الإبل لمن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً وهو ثمانية عشر يوماً إن لم يتمكن من نحر بدنة، فإنه يجوز له أن يصومها وهو في سفر مكة. كما يستحب صوم ثلاثة أيام في المدينة المنورة لقضاء الحوائج، والأفضل إتيانها في الأربعاء والخميس والجمعة.
وفي الحج يسرع الناس لأداء ما في ذمتهم من أموال لله كالخمس والزكاة، ومن أموال للناس كالدَين والأمانة والوديعة وما شابه ذلك.
وفي الحج ينطلق المؤمن لأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلما رأى منكرا نهى عنه، وكلما رأى معروفا دعا إليه.
وفي الحج يقوم الإنسان بزيارة النبي (ص) والأئمة الطاهرين (ع) والأولياء والصلحاء مما يكون في دائرة التولي والتبري.
2: الحج هو أقوى تعبير عن الولاية
الولاية المطلقة لله سبحانه تعالى، وذلك من خلال الطواف والسعي والوقوف بين يدي الله في عرفات والمشعر الحرام، حيث يؤكد المؤمن عبرها أنه موحد، وأن الامتثال لأوامر الله وتعاليمه هو محور حياته، والحج بمافية من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشرك، وتتجلى في الحج الولاية المختصة بالنبي (ص) حيث يقوم الحاج بالامتثال للحركات والسكنات التي قام بها رسول الله (ص) في حجة الوداع، ويبيت في منى كما فعل رسول الله (ص) في حجة الوداع، ويطوف كما طاف رسول الله (ص) ويسعى كما سعى رسول الله (ص) ويقف في عرفات كما فعل رسول الله (ص) ويقتفي كل أثر قام به رسول الله (ص) في الحج دون أدنى تغيير.
وأيضا تتحقق في الحج الولاية الخاصة بالأئمة المعصومين (ع)، حيث يبدي الحجيج استعدادهم لإطاعة أوامر الإمام الغائب المهدي المنتظر ـ أرواحنا لمقدمه الفداء ـ وهو الإمام المفروض طاعته على جميع المسلمين والذي سيظهر بأمر من الله تعالى في مكة المكرمة ليقود المسلمين إلى دولة الحق والصدق، ولما كان ظهوره في مكة فإن تقاطر المسلمين إلى بيت الله الحرام كل عام هو تعبير عن استعدادهم لان يكونوا جنودا للإمام المهدي المنتظر(عج) ينتظرون قدومه لينصروه على أعدائه.
3: الحج هو ترجمة للحياة الإسلامية السعيدة
إن الحجاج الذين يفدون إلى بيت الله الحرام يشكلون مجتمعا إسلاميا متكامل الأوصاف والخصائص:
مجتمعاً تذوب فيه الفروق والحواجز.. مجتمعاً متكاتفاً يساند بعضه بعضا.. مجتمعاً يرتدي لباسا واحدا، ويتجه صوب هدف واحد، ويطوف حول محور واحد.. مجتمعاً يعيش كله في بيت واحد، لأنهم أبناء أب واحد، وأم واحدة، هما آدم وحواء (ع).
يقول الإمام الشيرازي عن مجتمع الحج: (والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية).
هذا هو الحج عند الإمام الشيرازي، فيراه من أقوى المظاهر الإسلامية، وأهم عباداتها، حيث يتم فيها تجسيد التوحيد والنبوة والإمامة، ويتضمن لمختلف فروع الدين وتعاليمه الغراء.
من هنا فالحج هو من أقوى مظاهر جوهر الإسلام الحنيف.
طريقية الحج
الحج كبقية العبادات مضافاً إلى خصوصياته وموضوعيته، إنه وسيلة لهدف كبير سيأتي ذكره بشيء من التفصيل في الأبواب الآتية. والحج ليس وسيلة عادية بل هو على رأي الإمام الشيرازي (ره) (من أعظم الوسائل).
ولما يعتبر الإمام الشيرازي (قده) الحج وسيلة أيضاً فهو يسعى في توعية الذين يذهبون للحج من أجل أداء مناسكه حصراً من دون تطبيق أهدافه، فيصبح حجهم مجرد حركات وسكنات بدون روح متجاهلين الأهداف الكبيرة التي تضمنها الحج وأرادها الله للمسلمين في أكبر اجتماع لهم.
يقول الإمام الشيرازي (قده) في هذا المضمار: (والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع من خلاله المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة، لان إظهار القوة أمام العدو واجب شرعي ليرى أعداء الإسلام قوة الإسلام وتماسك الأمة الإسلامية فيرتدعوا عن غيهم وتآمرهم علينا).
وعليه فإن السيد (ره) يرى وجوب القيام بمهمة التبليغ في موسم الحج بكل الوسائل الممكنة، لأن في ذلك أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإرشادا للجاهل وتنبيهاً للغافل، فلا يكفي انغماس الحاج في أعمال الحج دون رعايته للأهداف الكبيرة التي أرادها الله سبحانه وتعالى من خلال الحج تأكيداً على ما مر في الآية الكريمة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) الحج: 28.
منافع الحج
يقول الإمام الشيرازي (قدس سره) في تفسيره للآية الكريمة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ): (اللام هنا للتعليل والمعنى: يأتون لشهادة منافع لهم، أو يأتون فيشهدون منافع لهم، وقد أطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية).
وقال في تفسيره (تقريب القرآن إلى الأذهان): (وإنما أمروا بالحج (لِيَشْهَدُوا) أي يحضروا هناك (مَنافِعَ لَهُمْ) دنيوية وأخروية، فالمنافع الدنيوية اقتصادية واجتماعية ونفسية وما أشبه، والمنافع الأخروية الجنة والثواب (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) فيجددوا عهدهم به خالصا من كل شائبة (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) الحج 28. وهي أيام الحج، كما يظهر من السياق، وقد ورد عن علي (ع): إنه الأيام العشر، وورد أيضا إنه الأيام الثلاث للتشريق، والظاهر أنها من باب بيان بعض المصاديق).
نعم، يقسم الإمام الشيرازي (قده) منافع الحج إلى قسمين:
القسم الأول: المنافع الدنيوية وهي التي تتحقق في الدنيا في حياة الحاج.
القسم الثاني: المنافع الأخروية: وهي التي تتحقق في الآخرة.
المنافع الدنيوية
يذكر الإمام الشيرازي (قده) عدة فوائد دنيوية للحج، منها:
1: الفوائد الاجتماعية
إن من أهم فوائد الحج تلك الفوائد التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش وفي سياق هذه الفوائد يذكر الإمام الشيرازي (قده) أبعاد القضية الاجتماعية التي يعيشها الإنسان فيقول: (الإنسان بفطرته مدني بالطبع، وتميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة، وهذا الميل عبارة عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان الساعي سعيا دائبا مستمرا لإشباع غرائزه، فميله نحو التوطن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه، وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى).
نعم إن لكل عبادة من العبادات بعد اجتماعي، فالبعد الاجتماعي للصلاة هو تطهير الأخلاق من الرذائل واصطفاء النفس لتصبح مؤهلة تأهيلا كاملا لبناء أوسع في العلاقات الاجتماعية.
والبعد الاجتماعي للصوم هو الإحساس بحوائج المحتاجين، ومد يد العون إليهم ومساعدتهم على تحمل الصعاب والمشاق.
والبعد الاجتماعي للزكاة هو سد احتياجات الفقراء من عامة الناس.
والبعد الاجتماعي للخمس هو سد احتياجات الفقراء من نسل رسول الله (ص).
والبعد الاجتماعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التواصل مع المجتمع، ومد الجسور الاجتماعية على قواعد متينة توجب تكريس حالة المعروف واجتناب المنكر.
والبعد الاجتماعي للحج هو أوسع بكثير من تلك الأبعاد الاجتماعية التي ذكرناها، فهو يجمع البعد الاجتماعي للصلاة، والبعد الاجتماعي للزكاة، والبعد الاجتماعي للصوم، والبعد الاجتماعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً إلى أبعاده الاجتماعية الخاصة، فالحج يجمع كل الأبعاد الاجتماعية للعبادات.
من هنا قال الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه): (الحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية)، لأن أداء فريضة الحج وشعائره يؤدي إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية، وبذلك تتحد القلوب وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون هما واحداً بعد أن تخمد النعرات وتذوب الاختلافات والقوميات والعرقيات وما أشبه في بحر من الانسجام والاجتماع والتآلف وقضاء الحوائج والاعتناء بالآخرين.
ويستدل الإمام الشيرازي (ره) ببعض الروايات على أهمية هذا الجانب الاجتماعي في الحج، منها:
رواية إسماعيل الخثعمي إنه قال: (قلت لأبى عبد الله (ع): إنّا إذا قدمنا مكة ذهب أصحابنا يطوفون ويتركوني أحفظ متاعهم، قال: أنت أعظمهم أجرا)(4).
وعن مرازم بن حكيم قال: (زاملت محمد بن مصادف فلما دخلنا المدينة اعتللت، فكان يمضي إلى المسجد ويدعني وحدي، فشكوت ذلك إلي مصادق، فأخبر به أبا عبد الله (ع) فأرسل إليه: قعودك عنده أفضل من صلاتك في المسجد)(5).
وفوق هذه الروايات يضع الإمام الشيرازي عنوان: (خدمة المؤمن أفضل من الطواف).
2: الفوائد الاقتصادية
وللحج فوائد اقتصادية لا تحصى، يقول الإمام الشيرازي: (ينفع كثيرا من الناحية الاقتصادية والتبادل التجاري، بانتقال أنواع السلع واكتساب تجارب الآخرين بعد الإطلاع عليها).
إن بمقدور الحج وفق ما خطط الإمام الشيرازي في كتابه (ليحج خمسون مليونا كل عام):
أولا: أن يحل مشكلة البطالة في العالم الإسلامي، لأنه سيدفع بأعداد كبيرة من العاطلين إلى سوق العمل.
ثانيا: أن يرفع من مستوى الإنتاج، ويزيد من دخل الفرد، وبالتالي من الدخل القومي.
ثالثا: أن يقوي من حركة النقل الجوي والبري وفتح جسور الترابط بين أجزاء العالم الإسلامي.
رابعا: أن يقوي حركة تبادل السلع والخدمات بين الدول الإسلامية وكذلك ما يرتبط بالاتصالات.
خامسا: أن من الإنتاج الزراعي والصناعي والحيواني.
كل هذه المكتسبات الاقتصادية ستتحقق من خلال الحج إذا ما درست دراسة شاملة واتخذ فيها القرارات الحازمة ووضع لها الخطة الكاملة من جميع الدول الإسلامية.
ويجب أن تقوم هذه الخطة على القواعد التالية:
1ـ استخدام أكبر قدر من الأيدي العاملة الإسلامية.
2ـ حصر وشائج التجارة مع الدول الإسلامية، حتى المقدور.
3ـ توزيع الأدوار على مختلف الدول الإسلامية، مثلا بعض الدول تتولى أمر الإنتاج الغذائي، وبعض الدول تتولى أمر النقل، وبعض الدول تتولى الإنتاج الحيواني وتوفير الأغنام الكافية، وبعض الدول تتولى مسؤولية الخدمات الصحية والبنائية، وبعض الدول تقوم بتوفير السلع الضرورية في موسم الحج.
3: الفوائد النفسية
والى جانب الفوائد التي تقدم ذكرها يحصل الحاج على فوائد نفسية كثيرة، كإشباع غريزة حب الاستطلاع والسياحة والمشاهدة للبلاد الأخرى ولأناس آخرين.
فأول فائدة من فوائد السفر هو التخلص من الهموم، حيث يوصي الأطباء والنفسانيون مرضاهم بالسفر الكثير، لأن السفر يزيل ما علق في الإنسان من الهم والغم الناجم عن تطور الحياة والمشاكل الكثيرة.
وإذا ما دققنا في جذور المشاكل النفسية لوجدنا أنها تعود إلى الأسباب التالية:
1ـ حب الدنيا والانغماس الشديد فيها.
2ـ التكبر وتضخم الشعور بالأنا لدى الإنسان.
3ـ قلة الصبر وقلة تحمل المشكلات.
4ـ ضعف المناعة النفسية.
ومن شأن الحج أن يعالج هذه الجذور وينهي المشاكل النفسية لو هاجمت أحدا.
فبالحج يتخلص المؤمن من حب الدنيا والانغماس الشديد فيها، لأن هدفه الأسمى سيكون الآخرة، ولأنه سيترك الأهل والولد في سبيل الله سبحانه وتعالى، كما وإنه يعالج مشكلة التكبر وتضخم الأنا لدى الإنسان، فعندما يأتمر الحاج بأوامر الله سبحانه وتعالى في خلع ملابسه وزينته وارتدائه للإحرام وهو قطعتان من قماش عادي، هذه الأوامر ستدفع بالإنسان إلى التواضع والى الابتعاد عن زينة الحياة الدنيا فيزال العامل الأول للتكبر.
والحج يزيد من احتمال الإنسان ويقوي لديه مقاومة المشكلات وذلك بتسليحه بسلاح الصبر، فصبر على فراق الأحبة، وصبر على العبادة، وصبر على ترك الشهوات.
والحج هو دورة تدريب على الصبر وعلى التحمل، وإذا تمكن الإنسان من تقوية المناعة النفسية لديه بالصبر وتحكّم على الشهوات فإنه سيكون أقدر على مواجهة المشاكل النفسية التي مصدرها ما ذكرناه سابقا.
إن من يـأتي إلى الحج ثم يخرج منه سيكون أكثر مقاومة وقدرة على تحمل الصعاب ممن لم يحج، وأكثر قدرة على تحمل الجوع والعطش والحر، وما إلى ذلك.
الفوائد الأخروية
يذكر الإمام الشيرازي (ره) ثلاث فوائد أخروية للحج هي:
1ـ التقرب إلى الله تعالى
فالحج هو قمة العبودية، حيث يستسلم المؤمن لربه استسلاما كاملا، يفعل ما يريد الباري تعالى منه بدون اعتراض أو أقل تردد في التنفيذ.
تراه يستسلم له عندما يريد منه أن يدير ظهره لمباهج الدنيا، من النساء، والعطر، وزينة الوجه، وزينة الشعر، كما يترك الجدال وكل أمر فيه شعور بالأنا وفيه حب للدنيا.
تراه يستسلم لربه عندما يأمره بأن يطوف حول بيته سبع مرات، فيسرع دون تردد، ثم يأمره بأن يسعى بين الصفا والمروة فيهرول عن طيب خاطر مستسلماً لإرادة ربه.
تراه يستسلم أيضا عندما يأمره بأن يجمع الحصى من صعيد مزدلفة ليأتي بها محسوبةً ودقيقة إلى منى لأن هناك مناسك تنتظره، رمي العقبة الكبرى في اليوم الأول من العيد، ثم يبتدأ بالعقبة الصغرى فالوسطى فالكبرى في اليومين التاليين، يفعل كل ذلك وهو منشرح الصدر لأنه مسلم قيادهُ إلى ربه.
وعندما يصل إلى بيت ربه في آخر أشواط الحج يجد نفسه قريبا وقريبا جداً من ربه، لأنه سلم له القيادة بالكامل وذاب في إرادته حتى لم تعد لنفسه إرادة كحبة رمل تذوب في أمواج المحيط.
من هنا كان الحج من أكثر العبادات التي يتقرب فيها العبد إلى ربه.
يقول الإمام الشيرازي: (وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من توجه إلى الله عزوجل، وترك لذائد الحياة وشواغل العيش، والسعي إليه بتحمل المشاق، والطواف حول بيته، والصلاة والتضحية، والإنفاق والصيام وغير ذلك).
2ـ كسب الثواب الإلهي
إن الثواب الذي يحصل عليه الحاج هو ما لم يحصل عليه في أيّة عبادة أخرى، وبقليل من التأمل يظهر لنا منطقية هذا الرأي لأن الحاج يبذل في طريق الحج أكثر مما يبذله في العبادات الأخرى، فالحج أكثر مشقة من الصلاة، وأكثر مشقة من الصوم، وأكثر مشقة من الخمس والزكاة، لأنه يتضمن جميع هذه العبادات.
كما أن الحج جامع للمكاره والصعوبات، ولما كان أفضل الأعمال أحمزها، فإن الحج له من الثواب والأجر ما لم يدخره الله لبقية العبادات.
3ـ غفران الذنوب
وقد تقدم في الحديث السابق أثر الحج في إسقاط الذنوب والسرّ في ذلك هو: إن الله يريد أن يطهر الحاج من كل الشوائب التي لحقت به في دنياه خلال عمره المديد، لا يريد منه أن لا يخرج من بيته إلا طاهرا خاليا من أية رذيلة كيوم ولدته أمه ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ وهذا ما لا يتحقق إلا بغفرانه للذنوب.
فإن مسيرة الحج هي مسيرة التوبة والاعتراف بالذنب والإنابة إلى الله عزوجل.
ويستفاد من الروايات الشريفة إن عرفة سميت بعرفة لأنها مكان للاعتراف بالذنب، حيث قال جبرائيل (ع) لإبراهيم (ع) هنا اعترف بذنبك واعرف مناسكك. وفي هذا المكان أقر أبونا آدم (ع) بما صدر منه في إتباعه الشيطان حيث أكل من تلك الشجرة.
وأن منى هي محط قبول التوبة، وبين عرفات ومنى مسيرة عشر كيلو مترات، وفترة يوم وليلة حيث يفيض من عرفات ليلة العيد إلى المشعر، ومن المشعر إلى منى بعد شروق الشمس… وخلال هذه المسيرة الزمنية والمكانية يقوم الحاج بفتح ملف حياته صفحة صفحة، فكلما وجد ذنبا اعترف به وأقر ثم استغفر ربه وعاهد على عدم العودة إلى الذنوب، حتى يتم تصفية جميع تلك الصفحات، وعندما يصل إلى منى يكون قد أحصى جميع نواقصه التي تذكرها وأصر على عدم الإتيان بها، وعندئذ تقبل توبته، وسيبقى في منى ثلاثة أيام هي فرصة أخرى للتوبة، فإذا نسي بعض الذنوب فثمة وقت إضافي يستطيع خلاله من غلبة هواه والإنابة إلى ربه لقبول توبته.
الخطاب السياسي للحج
منذ سنوات مديدة والإمام الشيرازي يوجه كل عام بيانات إلى حجاج بيت الله الحرام يضعهم أمام مسؤولياتهم الدينية والدنيوية.
ومع أن بيانات الإمام الشيرازي مصبوغة بصيغة سياسية عادة، لأنه كان المرجع النهضوي الذي وضع الأمة أمام مسؤولياتها منذ أربعة عقود، أي منذ أن استلم زمام المرجعية الدينية بعد وفاة والده المعظم (ره)، فعلى رغم اصطباغها بالصبغة السياسية لكن لم تفقد محتواها الروحي والمناقبي.
يقول في إحدى بياناته مؤكدا على الجانب الروحي: إنّ الحج هو الوقت المثالي لتعميق الارتباط بالله سبحانه وتعالى، وإيجاد حالة من الإحساس الداخلي بأنه عزوجل وعلا يراقب الإنسان ليلا ونهارا، سرا وجهارا، في كل صغيرة وكبيرة، وإذا أحس الإنسان بأنه في محضر الله دائما وبمرأى منه ومشهد، وبأنه عالم الغيب والشهادة، وهو المهيمن القادر، والأول والآخر، والظاهر والباطن، انعكس ذلك على كل جوانب حياته الفردية والاجتماعية، وعلى جوارحه وجوانحه، فيصبح عندئذ مثالا للمتقي الزاهد عن ملذات الحياة، والصابر على الأذى في ذات الله، المضحي بالغالي والنفيس دون أي تلكؤ أو تماطل في طريق إحياء ما أندرس من معالم الدين وهداية المستضعفين.
وبعد أن تتوثق العلاقة بين العبد وربه يأتي الدور للقيام بالمسؤوليات الكبرى، وهي مسؤولية الأمة، يقول في هذا الصدد: والحج هو فرصة هامة لتعاضد الجهود وتكاتف وتعاون الاخوة الكرام للتخطيط لانتشال المسلمين من واقعهم المأساوي المر.
قال تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى)، وأيضا (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).
وفي الحديث: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).
ثم يشرع الإمام الراحل (ره) في سرد المشاكل التي يعاني منها المسلمون والتي يجب مواجهتها، وموسم الحج أفضل فرصة للتفكير بحلول لها، مشاكل التفرق والتشتت والاستبداد والتخلف والعجز عن ملاحقة ركب الحضارة.
ومنشأ هذه المآسي هو الابتعاد عن التعاليم الإسلامية، وترك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسيرة أهل البيت (ع).
يذكر الإمام الشيرازي في بيانه إلى حجاج بيت الله الحرام:
إن جذور مشاكل المسلمين تعود إلى إعراضهم عن العديد من آيات القرآن الحكيم مثل:
آية (الشورى)، قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)، وقال عزوجل: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
وآية (الأمة الواحدة)، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
وآية (الحرية) المستفادة من قوله سبحانه: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).
وآية (الأخوة)، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وقد أنذر الله سبحانه عباده بترك هذه الآيات: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). وقد وفى بوعده حيث سلط عليهم من لا يرحمهم في بلدانهم وأخرهم حتى عن من (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).
مؤتمر الحج
كان الإمام الشيرازي (ره) يعتقد بضرورة إقامة العديد من المؤتمرات في الحج، وكان قد ساهم بصورة شخصية في إقامة المؤتمر السنوي في بعثته الدينية التي كان يرسلها إلى الديار المقدسة.
وهو لا يرى في هذا المقدار كفاية، فكان يدعو إلى عقد مؤتمر كبير يضم كافة الحجاج القادمين من مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.
فإن الحج بصورة عامة هو مؤتمر موسع، هذا ما يقوله الإمام الشيرازي:
(إن الحج ملتقى سنوي عام يرتبط فيه الإنسان بربه وبأفراد أمته بأوثق رباط، فهو فرصة كبرى لكل المسلمين، فبمقدورهم أن يتبادلوا فيها شؤونهم وشجونهم الدينية والدنيوية.
ومن الضروري انتهاز هذه الفرصة الإلهية القيمة لمحاسبة النفس، ما الذي عملت؟ وما الذي قدمت طوال السنة أو السنين الماضية، كما ينبغي وضع برنامج متكامل مادي معنوي للسنين القادمة).
وانطلاقا من الحج شرع الإمام الشيرازي الراحل (ره) في توسع (مفهوم المؤتمرات) وبلورته، معتقدا أن جميع المسلمين أحوج ما يكونوا اليوم إلى عقد المؤتمرات التي يتم فيها تداول مختلف الأمور ومناقشة مختلف السبل والطرق للوصول إلى الحل، مسميا إياها بمؤتمرات الإنقاذ.
اضف تعليق