يعدّ النزاع نتيجة حتمية لتضارب المصالح وتصارع الإرادات، لذلك من الأفضل أن يتم احتواء النزاعات، وتقليل مخاطرها إلى أقل حدّ ممكن، ولا تخلو أمة من ظهور صور ومظاهر متعددة للنزاع في بعض القضايا، ويختلف الناس أيضاً في سبل تعاطيهم مع النزاع عند وقوعه...
(جميع أنواع النزاعات تنتهي إلى لا شيء) الإمام الشيرازي
يعدّ النزاع نتيجة حتمية لتضارب المصالح وتصارع الإرادات، لذلك من الأفضل أن يتم احتواء النزاعات، وتقليل مخاطرها إلى أقل حدّ ممكن، ولا تخلو أمة من ظهور صور ومظاهر متعددة للنزاع في بعض القضايا، ويختلف الناس أيضاً في سبل تعاطيهم مع النزاع عند وقوعه، فالرصيد الثقافي والتربوي بين الناس يختلف، وهذا بدوره يترك آثاراً حول سبل وكيفية إدارة النزاع والبحث عن حلول له.
النزاع مظهر لتأزم العلاقات، وانسداد سبل الحل القائمة أو المتاحة، وهناك آثار تترتب على النزاعات منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي، وللإنسان في إدارته للنزاع دور في تحديد ما يناسب من هذه الآثار، وللنزاع أسبابه المفضية إليه، وله أيضاً مراحله التي يمر فيها من بداية التأزم، إلى حدوث وخروج مظاهر النزاع، ونتائجه على السطح.
من الأفضل للجميع أن يتجنبوا النزاعات بأنواعها، وإذا كان وقف النزاعات بصورة تامة غير ممكن، نظرا لطبيعة الوضع التكويني للإنسان، فإن العمل على تخفيف النزاعات وتجنيب الناس مساوئها أمر لابد منه، بل هو واجب على الجميع أن يتصدوا له بالعقل والتخطيط والتنظيم.
كل المشكلات مهما كبر حجمها وتعقّدت تفاصيلها، من الممكن حلّها أو التخفيف من حدّتها، وذلك من خلال معرفة أسبابها، لذلك على من يدخل طرفا في نزاع ما أن يعرف ما هو الشيء الذي يدفعه لتأجيج هذا النزاع، ولماذا يمتنع عن الحلّ المنصف، وفي حال معرفة الأسباب تصبح إمكانية الحل قريبة وممكنة.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ (لكي لا تتنازعوا):
(على من يريد التنازع أن يطرح على نفسه هذا السؤال؛ ما هو مصدر التنازع، هل هو الجهل أو الكبر أو الحسد؟).
طرح التساؤل عن أسباب النزاع في غاية الأهمية، فهو النافذة الأولى التي تفتح الطريق أمام المتنازعين لكي يطفئوا نيران التنازع، فإذا كان السبب هو الجهل، على طرفي النزاع أن يتنبّهوا لهذه العقبة أو المشكلة، فالجهل قد يجعل الإنسان غير عارف بالأسباب الحقيقية للصراع، فقد يظن أن خصمه مؤيَّدا أكثر منه وأن الناس تلتف حوله أكثر، فيثير هذا الموقف ضغينته وحسده، ويبدأ يضمر الحقد على الطرف الآخر وصولا إلى لحظة اشتعال النزاع التي تأتي على الأخضر واليابس.
الأحقاد هل تصنع التنازع؟
إذا أوغل الإنسان في معاداة الآخر بسبب حقده عليه، فإنه يخسر كل شيء في نهاية المطاف، لأن تصوّره لم يكن في محله، ولذلك ينتهي إلى الهزيمة المؤكدة، فيما يبقى الطرف المقابل له قويا معزّزا كونه لم يدخل في حالة نزاع أصلا، ولم يستنزف قواه، كما أنه لم يفقد احترام الآخرين له، كما يحدث مع الحقود الذي ينظر إليه الجميع بمنظار الإنسان غير الوقور، أو غير الحقاني.
يقول الإمام الشيرازي:
(ربما كان مصدر النـزاع هو الجهل، كأنْ يتصور الإنسان أنّ الناس قد التفّوا حول قرينه أكثر من التفافهم حولـه، ويتسبب ذلك تبطين الحقد في نفسه، فيبدأ بمخاصمته وإعطاء مبرر غير حقيقي للمخاصمة، وتنتهي هذه الخصومة إلى نتائج غير محمودة على الشخص نفسه، أما القرين فلا يتأثر كثيراً بهذه الخصومة).
كما نلاحظ أسباب النزاعات متعددة كما تتعدد النزاعات نفسها، وقد يكون التكبّر على الآخر أحد مصادر صنع النزاع، وفي تأكد ذلك للشخص عليه أن يكف فورا عن هذه الطبيعة المؤذية، أما الأذى فلن يكون من نصيب الطرف الآخر فقط وإنما الشخص أو الطرف المتكبّر هو أول المتعرّضين للأذى.
ولا يتوقف الأمر عند هذه الحدود، فالمجتمع كلّه يصبح تحت رحمة النزاعات فيما لو كثر فيه المتكبرون، وقد يكون سبب التكبّر لا أساس له في الواقع، كأن يتوهم أحدهم أنه إذا تكبر على رئيس عمله، فهو بذلك يتخلص من مسؤولياته العملية، ويحاول أن يوهم الناس بأنه على حق، لكن هذا التفكير ليس صحيحا، حتى لو اختلقه الإنسان الذي يتكبر على من فوقه.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(ربما كان السبب من وراء الخصومة الشخصية الكِبر، مثلاً عند ما يتكبَّر إنسان عن طاعة مَنْ فوقه، وحيث لا يجد سبيلاً للفرار من واجبه يلتجئ إلى المخاصمة ليحطّ من قدره، ويبرِّر عند المجتمع عصيانه له).
الجميع يربح بتجنّب النزاعات
قد يكون هناك سبب من نوع آخر لحدوث الخصومة أو النزاع، وهو (الحسد) كما أكده الإمام الشيرازي، فربما نجد شخصا ناجحا في عمله وحياته وخطواته، وهذا ما يتسبب في كثرة الحاسدين له بسبب نجاحه، لكن الحسود من هذا النوع لا يجني أي شيء سوى الخسائر المتتالية، لأن سبب التخاصم ليس معقولا.
إذ من غير الصحيح ولا المعقول أن تحسد شخصا وتتنازع معه لأنه حقق تطورا شخصيا في عمله أو في أي مجال آخر، فحق النجاح مكفول للجميع، ولا ينبغي أن يكون سببا في خلق النزاعات، بل يمكن أن يكون سببا لصنع المنافسة القائمة على حسن السلوك والتصرف والمبادئ الأخلاقية التي تحكم أنشطة الناس المختلفة,
يقول الإمام الشيرازي:
(ربما يكون المنطلق نحو الخصومة هو الحسد، فقد يحسد إنسان إنساناً آخر، أعلى شأناً منه، وتصبح النتيجة هو حدوث الخصومة بين الحاسد والمحسود، وإذا سألت أحدهما لأي سبب تختصمان؟، فإنك لا تشعر بوجود سبب معقول للاختلاف سوى الحسد، والحسد يحطّ من قيمة صاحبه؛ لأنه سيجعله صغيراً في أعين الآخرين).
إذا نحن أمام أسباب مختلفة تقف وراء صنع النزاعات، منها (الجهل)، وقد يكون السبب هو (الكِبَر)، أو ربما يكون (الحسد) أحد أسباب إثارة النزاعات، وفي كل الأحوال ومهما كان سبب هذا النزاع أو ذاك، فإن المبررات غير كافية ولا مقنعة، ولن تصب في صالح من يختلق الحجج من أجل التنازع مع الآخرين.
كل هذه الأسباب لا يمكن أن تُقبَل من الناس لإثارة الفتن والنزاعات، وحريّ بمن يبحث عن التنازع أن ينشغل بما هو أجدة وأنفع للناس، وليس بما يعرقل مسيرة الأمة أو المجتمع إلى أمام، لأن كثرة النزاعات هي السبب الأول في إحداث الفوضى المانعة للتقدم كما هو الحال الآن في العراق، حيث نلاحظ نزعات فردية وجماعية تحت شتى المسميات والأسباب الواهية.
يقول الإمام الشيرازي:
(إذا كان منطلق النـزاع هو الجهل، يجب أن يكفّ عن ذلك؛ لأن نزاعه لا مورد له، وهو هواءٌ في شبك. وإذا كان منشأ النزاع هو الكِبر، فليعلم أن التكبر مذموم في الشريعة، ولذا يجب الابتعاد عنه. وأما إذا كان الباعث هـو الحسد، فليكن فـي علمه أن الحسود لا يسود).
إذا أتينا إلى النتائج التي تتمخض عن جميع أنواع النزاعات وأشكالها، فإننا في واقع الحال نتوصل إلى أن الجميع بات في كفّة الخسارة، ولا رابح من بينهم، وهذا ما يؤكدّه الواقع والأدلة التي حدثت بصورة فعلية، فجميع النزعات من هذا النوع ينتهي مثيروها وأصحابها إلى الخسارة المحققة، بالإضافة إلى أنهم يعرضون المجتمع كلّه إلى خسارة فرص التقدم والاستقرار.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا حين يقول:
(لقد شاهدت في حياتي هذه الأقسام الثلاثة من أقسام التنازع، وشاهدت نهاية تلك المنازعات التي كانت تنتهي إلى لا شيء، ولم يكن من نصيب أصحابها سوى الخسارة والفضيحة).
الخلاصة علينا أن نتجنب النزعات ما أمكننا ذلك، إذ ليس هناك رابح من النزاع وإن بدا لبعضهم أنه من خلال اختلاق النزاعات مع الآخرين سوف يتفوق عليهم، وسوف يحصل على ما يريده، لكن الحقيقة الثابتة أن الخسارة التي تنتج عن النزعات سوف تطول الكل ولا تستثني منهم أحدا أو طرفاً.
اضف تعليق