هناك فرق شاسع بين الإسلام بمفاهيمه وعقائده وبين الممارسات الخاطئة للحكّام المسلمين المنحرفين عن عقائد الإسلام ومبادئه السماوية، فالحاكم المسلم الذي تدثر بلباس (الخلافة) وهو أبعد الناس عنها جعلته يتلاعب بالدين كيفما يشاء ويريد لأن خلافته غير شرعية أساساً، ولأن هذه الخلافة هي خلافة مزيفة...
بقلم: راجي أنور هيفا
كيف شكل الغرب تلك الصورة الشوهاء عن الإسلام؟ ومن أين استمدوا موادهم الأولية لتشكيل تلك الصورة؟.
وهل يمكنا أن نبرر لبعض المستشرقين ما كتبوه عن الإسلام وعن رسول الإسلام؟.
إننا سنترك تفاصيل الأجوبة على هذه الأسئلة بعد أن نقرأ تلك السطور الهامة التي خطتها يد الإمام الشيرازي في كتابه (هل للشعوب قيمة؟) والتي ترتبط بشكل مباشر ووثيق بجوهر موضوعنا الآن.
يقول الإمام الشيرازي: (الغرب يرى أن المسلمين من الشعوب الفاسدة الضارة التي لا ترحم صديقاً ولا عدواً كما حدثهم التاريخ بني أمية وبني عباس والعثمانيين ويحدثهم اليوم ألف حاكم وحاكم يطغى على الشعب سواء كان شعبه أو شعب عن جيرانه.
لذا لا يعقل أن يرحم الغرب المسلمين ما دامت هذه الأمور منتشرة في مجتمعاتنا كالمرض الخبيث.
والعلاج هو تغيير نظرة الغرب للإسلام والتمييز بين مفاهيمه المقدسة وبين ممارسات الحكام المنحرفين من المسلمين الذين سطروا على الحكم بألف مكيدة) (22).
إن هذا الكلام هو عين الصواب، فهناك فرق شاسع بين الإسلام بمفاهيمه وعقائده وبين الممارسات الخاطئة للحكّام المسلمين المنحرفين عن عقائد الإسلام ومبادئه السماوية، ويمكننا أن نشبه الفرق بين مبادئ الإسلام الحاكم الفاسد كالفرق بين مهنة الطب النبيلة والطبيب المنحرف عن أخلاقيات مهنته وبالتالي نقول إن فساد الطبيب لا يعني فساد الطب وانحطاطه.
فالحاكم المسلم الذي تدثر بلباس (الخلافة) وهو أبعد الناس عنها جعلته يتلاعب بالدين كيفما يشاء ويريد لأن خلافته غير شرعية أساساً، ولأن هذه الخلافة هي خلافة مزيفة ولا تملك من مقومات الخلافة الحقيقية إلا الاسم فقط.
ولذلك، فعندما يدون هذا الباحث أو المستشرق في كتبه ومؤلفاته وجهات نظره السلبية تجاه المسلمين أو حتى تجاه الإسلام فهو محق بعض الشيء في ما يكتبه، والسبب في ذلك هو أن هذا المستشرق سيعتمد أول ما يعتمد في كتاباته على الكتب التي كتبناها نحن عن عقائدنا الإسلامية وعن تاريخنا الإسلامي، واعتقدنا أن كل ما جاء فيها من أحاديث وأحداث لا يمكن أن يأتيها الباطل أبداً، وليس هذا فحسب، فعندما نبرر لبعض المستشرقين ما كتبوه عن الإسلام من خلال سيرة رجاله وقادته ومن خلال ما جاء في كتب البعض من المسلمين عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه بشكل مقزز، يجعلنا ويجعل المستشرقين معنا يقفو موقف المرتاب من رسالة وشخصية ذلك الرسول.
لقد شاء بعض رواة الحديث أن يتعمدوا الإساءة إلى شخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) من خلال ما نسبوه إليه من أحاديث وأعمال تتنافى مع أبسط القواعد الأخلاقية، وقد تعمدوا فعل ذلك كي يبرروا أفعال وفضائح الحكام الأمويين والعباسيين، وبالتالي فقد أرادوا أن يرفعوا من شان خلفائهم ولكن على حساب شرف وكرامة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وإننا نأبى أن نلوث كتابنا بذكر تلك الأحاديث والروايات التي تحط من قدر النبي (صلى الله عليه وآله) ومن سمو أخلاقه الإلهية. ولكنا بنفس الوقت سنذكر شيئاً مما جاء بحق من نعتبرهم مثالاً أعلى في تاريخنا الإسلامي الأول:
ينقل لنا محمد بن جرير الطبري في (تاريخه) أن عمر بن الخطاب شكك برسالة وبنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) يوم صلح الحديبية وقد اجترأ عليه بلسانه معترضاً على أحكامه بعد أن شك في أن يكون الرسول رسولاً من الله سبحانه وتعالى. وقد أدرك عمر فظاعة ما قام وتفوه به أمام المسلمين، فكان يقول بعد ذلك: (ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي واعتق من الذي صنعت يومئذٍ، مخافي كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً) (23).
فإذا كان هذا هو كلام عمر بن الخطاب الذي يشكك من خلاله بنبوة ورسالة محمد (صلى الله عليه وآله)، فبأي منطق بعد هذا، نصب اللم على المستشرقين الذين يشككون بنزول الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) ؟!!.
فكيف يجوز لنا أن نشكك برسالة نبينا ولا يجوز لغيرنا أن يشك بنبينا؟!!.
ثم كيف لا أن نلوم المستشرقين في كتاباتهم عنا عندما يقرؤون في بطون كتبنا ما حدث يوم وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في اجتماع بسقيفة بني ساعدة؟!.
إن ما حدث في سقيفة بني ساعدة لم يكن امتثالاً لقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى: 28)، بل كانت عملية مدروسة لاغتيال مفهوم الشورى الحقيقي، والدليل على ذلك هو أن الأول استخلف الثاني دون (الشورى)، والثاني عين ستة رجال لاختيار واحد منهم دن اللجوء إلى الشورى، وحتى دون اللجوء إلى توضيح أسباب اختيار هؤلاء الستة دون بقية المسلمين. وهذا يعني باختصار أن البعض رفع شعار الشورى باليد اليمين ثم قام باغتيالها باليد اليسرى. ولذلك فلا داعي للقول إن الغرب له بعض الحق عندما يتهمنا بالافتقار إلى الديمقراطية أو الشورى في ديننا لأن ما حدث في فجر الرسالة الإسلامية يؤكد ذلك انطلاقا من ممارسة الحكام المسلمين ليس انطلاقا من الإسلام كنظرية عقائدية متكاملة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الأمور تذهب إلى أسوء من ذلك بكثير. فلو قرانا ما قاله المستشرق الهولندي (فان فلوتن) عن خالد بن الوليد وما فعله بسيفه لإعادة الناس إلى دين ليس بالدين القائم على المحبة والكلمة الطيبة، بل إلى دين قائم على سفك الدماء وعلى لغة (الإنذار وقوة السيف) (24)، فسوف يسارع البعض منا إلى تسفيه هذا المستشرق والنيل من شخصه ومن موضوعية بحثه، ولكن هل خطر ببالنا فعلاً أن نقرأ ما قام به خالد بن الوليد جهراً حتى كتب عنه (فلوتن) ما كتب؟!.
لماذا نحيط بعض الشخصيات الإسلامية بهالة من القداسة مع علمنا أنها قامت بأفعال يندى لها الجبين خجلاً، ثم بعد ذلك تستر عليها، بل ونتهم كل مستشرق كتب عنهم من خلال ما قرأه عن تلك الشخصيات في كتبنا التاريخية بأنه صليبي حاقد؟!.
لماذا نغضب من (فلوتن) وغيره إذ تناول ابن الوليد بالغمز في دينه وشهامته في الوقت الذي نقرأ فيه عن أفعاله الدموية المخزية في (الجزء الثالث من تاريخ الطبري) أحد أبرز المؤرخين المسلمين؟! هل لما فعله ابن الوليد من بني جذيمة وزن في ميزان الإنسانية؟!.
لقد ذكر الطبري في تاريخه كيف سار خالد بن الوليد بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعوهم إلى الإسلام، حيث أعطاهم الأمان التام. وبعد أن أعطاهم خالد الأمان جردهم من أسلحتهم ثم أمر بعد ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف وقتل منهم من قتل، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الإمام علياً (عليه السلام) أن يدفع ديات القتلى نيابة عنه حالاً، ثم وقف رسول الله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديهن حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبه، وهو يقول: (اللهم إني أبرأ إليكم مما صنع خالد بن الوليد) ثلاث مرات (25).
وقد اتهمه عبد الرحمن بن عوف -وكان حاضراً معه تلك الوقعة- بأنه قتل القوم وهم مسلمون وذلك كي يثأر ثأر الجاهلية لعميه اللذين قتلهما بنو جذيمة (26) فيما مضى من الأيام.
والدليل على أن القوم كانوا مسلمين هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر الإمام علي (عليه السلام) بدفع الديات لهم، والدية لا تدفع إلا عمن قتل وهو مسلم. ونحن نعرف تماماً من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، وبعد ذلك يقال عنه أنه (سيف الله)؟!!!.
وقد علق الدكتور التونسي (التيجاني السماوي) على هذه الحادثة المروعة والتي تلعب دوراً عظيماً، بالإضافة إلى غيرها من الحوادث، في تشويه صورة الإسلام أمام المستشرقين والمفكرين في الغرب وفي العالم قاطبة، بقوله: (ومهما يعتذر المعتذرون من أهل السنة والجماعة عن خالد بن الوليد، فإن صفحات تاريخية حافلة بالمآسي والمعاصي لكتاب الله وسنة رسوله، ويكفي الباحث أن يقرأ تاريخه وما فعله في اليمامة أيام أبي بكر، وغدره بمالك بن نويرة وقومه وكيف قتلهم صبروا وهم مسلمون، ودخل بزوجة مالك ونكحها في ليلتها، ولم يراع في ذلك شرع الإسلام ولا مروءة العرب، حتى أتى عمر بن الخطاب مع تساهله في الأحكام إلا أنه شنع عليه وسماه عدو الله وتوعده بالرجم) (27).
ومن هنا نؤكد على أن ما جاء في كتب المستشرقين الذين تناولوا الجوانب السلبية في تاريخنا الإسلامي له ما يبرره في بعض وجوهه.
فعندما يحدثنا أحد المستشرقين عن ضعف إيمان ما يعرفون بصحابة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقلة يقينهم برسالته، فلا يعني هذا أن المستشرق والمفكر الغربي قد تجنى على الصحابة في كل ما قاله عنهم، له من الطبيعي تماماً أن يوصف أي صحابي بهذه الأوصاف إذا كانت صورته منطوية على التناقض وعلى تعدد الوجوه وتضارب المواقف والمبادئ:
فكيف سينظر العالم الغربي إلى دين يقوم أول حاكمين لأمور المسلمين فيه بمحاولة جادة لحرق بيت ابنة رسولهم (صلى الله عليه وآله) بالنار (28) لا لشيء إلا أنها امتنعت هي وزوجها، الخليفة الشرعي عن مبايعة من هم ليسوا أهلاً لها، ومن لم يوص لهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بها؟.
وكيف نلوم من يصف الأمويين بالخيانة وطلب الدنيا دون الآخرة، في الوقت الذي نعرف نحن فيه قبل غيرنا أن أولئك الأمويين الذين ادعوا حمل رسالة محمد (صلى الله عليه وآله) قد سارعوا إلى قتل أحفاد محمد الرسول (صلى الله عليه وآله) واحداً حتى صار ك يوم لهم عاشوراء، وكل أرض لهم كربلاء؟!.
لاشك أن القارئ للتاريخ الإسلامي من خلال ما كتبه الطبري أو ابن الأثير أو اليعقوبي، أو ما جاء في الصحاح والمسانيد عن بعض الحوادث أو عن بعض الشخصيات الإسلامية سيصاب في نهاية المطاف بخيبة أمل كبيرة من أفعال رموز إسلامية بارزة يحسبها القارئ العادي شخصيات فوق مستوى النقد والتقييم، ولكن يتضح في نهاية الأمر أنها شخصيات مريضة في إيمانها وسقيمة في سلامة إسلامها.
وقد عزز هذه الفاجعة المرة أن أضفينا هالة قدسية على بعض من روى العدد الأكبر من الأحاديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا يهم إن كانت تلك الأحاديث صحيحة أم موضوعة. فقد روى أبو هريرة وحده (5374) حديثاً عن الرسول (صلى الله عليه وآله) على حين أنه لم يصاحب الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا عاماً واحداً وبضعة أشهر (29). وقد اتهمه كبار الصحابة بالكذب والتزوير عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وقد ثبت أن عمر وعليا وعثمان وعائشة وغيرهم من كبار الصحابة قد كذبوه في وجهه، وبلغ من أمر عمر معه أن نهاه عن الرواية ثم ضربه عليها، وبعد ذلك انذره إذا هو روى أن ينفيه إلى بلاده) (30).
وبالرغم من ذلك كله، يكفي أن تقول إن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة حتى يكتسب مصداقية كبيرة عند المستمعين وكأن هؤلاء الناس لا يحبون قراءة التاريخ أو أنهم لا يريدون أن يسقطوا الأقنعة عن وجوه أصحابها حتى لا يعيشوا مأساة صدمة الحقيقة الضائعة.
ما قول القارئ والباحث عندما يقرأ ما قاله ابن أبي العوجاء قبل أن يضرب عنقه:
(وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، احرم فيها الحلال واحل الحرام) (31)؟!.
فلماذا لا نريد أن نفتح عيوننا على الحقيقة بمحاولاتها ومرارتها؟!.
ولماذا لا نعيد كتابة تاريخنا على حقيقته كما كان وليس كما كتبناه بأقلام مأجورة لبني أمية تارة ولبني العباس تارة أخرى؟ (32).
فلنكتب التاريخ من جديد، ولنعمل على نشر مليارات الكتب الخالية من الزيف والخداع عملاً بنصيحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي: (ثلاثة مليارات من الكتب حيلة العاجز وأقل الإيمان لمن يريد إنقاذ المسلمين من هذا السقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل) (33). إن هذه الكتب التي يجب نشرها، هي الكتب المصفاة من شوائب التاريخ وآثاره على الشخصيات والأحاديث والأحداث المتناقضة التي تطفح بها كتبنا.
فالكتاب الذي يدون لنا تاريخنا بصدق، هو طريقنا إلى الوعي، وبقدر وعينا، بقدر ما نكون قادرين على دفع وجودنا إلى الإمام باتجاه معابر الحضارة والرقي.
وقد أكد سماحته على أن (الثقافة -ومن جملتها الكتاب- من أهم ما يحفظ الأمم واستقلالها وصمودها أمام غزو الأعداء، ولذا نرى الأمم الحية دائماً تهتم بالكتاب كل الاهتمام بينما الأمم الميتة لا تهتم به أي اهتمام ((34. فبالثقافة النظيفة وبالكتاب النقي من الأدران والترهات نستطيع أن نعيد الحياة لأمتنا الإسلامية بعد أن طال رقادها العميق. ونستطيع وقتها أن نبين للمستشرقين وللمفكرين الغربيين أن إسلامنا رسالة السماء إلى الأرض ووثيقة المحبة إلى أبناء آدم وحبل الله المتين الذي يربط عالم الأرض بعالم السماء.
أما إذا قبلنا وضعنا الحالي وقبلنا أن ننام عن طلب الحقائق في بطون كتب التاريخ وفي متاحف الماضي، وإذا رفضنا أن نسقط أقنعة القداسة عن الوجود الغابرة، فلا يسعنا وقتها إلا أن نضم صوتنا إلى صوت العالم الأزهري محمود أبو رية عندما خاطب أبناء الإسلام الطاعنين في أمانة المستشرقين: (إن هؤلاء المستشرقين الذين تنحطّون عليهم وترمونهم دائماً بأنهم يطعنون في ديننا ويشوهون ديننا وعملنا، هم في الحقيقة لم يتجنوا علينا ولم يفتروا شيئاً من عند أنفسهم، وإنما وجدوا مادة خصبة من الخرافات والأوهام قد انبثت في ديننا، ونسب بعضها -واأسفاه- إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فتشبثوا بها وتسلقوا عليها وانتقدونا من اجلها، ولا تثريب عليهم في ذلك لأنهم قوم يفهمون بعقول راجحة وأذهان مستنيرة وعلوم واسعة وأفكار متحررة لا يكبلهم شيء من تقليد أو عبادة للأسلاف. ولا يعرفون عبارة -قال المصنف رحمه الله!- من أجل ذلك لا تلوموهم ولوموا أنفسكم، ثم اجعلوا ردكم عليهم وصدّكم لهجومهم أن تعمدوا إلى دينكم فتمحصوه وتطهروه من الشوائب التي لحقت به حتى يعودوا كما جاء على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) ديناً قيماً صافياً يتبين منه لأهل هذا العصر ومن يأتي بعدهم إلى يوم الدين أنه دين العقل والعلم والحرية والفكر) (35).
وبناء على ذلك، فإن الإمام الشيرازي كان محقاً تماماً في تنظيره الفكري لأسباب ضعف المسلمين وتشويه صورة الإسلام في أذهان وقلوب الناس، حيث عزا سماحته هذه النتائج إلى ما قام به بعض الحكام (الذين كانوا أشد أسباب توقف زحف الإسلام، وتحجيم نفوذه في الضمائر والقلوب، وكسبه للمشاعر والعقول) (26).
وقد بين سماحته في كتابه (من أسباب ضعف المسلمين) الظروف الرديئة التي قمنا نحن المسلمين بوضعها في طريق تقدمنا وتدرجنا على سلم الحضارة مما أدى بنا إلى تمزيق دينا ترقيع دنيانا بما قمنا بتمزيقه. وها هو يقول: (إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين الذي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم، فإن الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل أيضاً كما هو في صحة الإنسان، فإن الإنسان الذي لا يراعي صحته في صغره لابد وأن يكون في كبره معرضاً للآفات والأسقام وما أشبه. وهناك العديد من القصص التاريخية التي تدل على ما ذكر) (37).
وقد يبدو للقارئ الكريم وهو يقرأ هذه الصفحات عن علاقة المستشرقين بتراثنا العربي والإسلامي أننا مع المستشرقين في كل ما كتبوه عن ديننا الإسلامي وعن بعض الرموز المميزة فيه. كلا، إن الوضع ليس كذلك، ولكن نحن مع عدم إلقاء اللوم على المستشرقين الذين كتبوا عن تاريخنا من خلال قراءاتهم المركزة لما قام له بعض حكام المسلمين من ادعوا الخلافة واستووا بموجبها على رقاب المسلمين يعاملونهم معاملة العبيد والجواري ويبدلون في الدين كيفما يشاؤون. وقد انتبه الكاتب والباحث السوري الراحل (سليمان الخش) إلى هذه التجاوزات الخطيرة في التاريخ الإسلامي، وذكر العديد من هذه التجاوزات المهينة حقاً للعقيدة الإسلامية في كتابه (الفتح العربي الإسلامي). وعلى سبيل المثال، فقد ذكر هذا الباحث كيف أن (المغيرة بن شعبة) زنى بامرأة وثبت عليه البرهان وقامت عليه الحجة، فقام (زياد ابن أبيه) بالإدلاء بشهادة كاذبة لإنقاذ المغيرة من عقوبة الرجم، وفي ذلك يقول الخش: (أما المغيرة بن شعبة الذي أنقذته من الرجم شهادة زياد بن أبيهن الذي تضرع إليه (عمر) ألا يفضح أصحاب رسول الله، فقد كان محفوظاً بتدخل عمر، أما عمر بن الخطاب نفسه فلم يكنس مخططاً بتعطيله حدود الله وقوانين البلاد من أجل (ثعلب) بدأ حياته الإسلامية بالخيانة، وأنهاها بالتآمر، وسار فيها سيرة الفاجر الذي أحصن (تسعاً وثمانين) امرأة غير الجواري، ثم لم يردعه ذلك عن الزنى) (38).
ولا يجد سليمان الخش حرجاً في أن يزود القارئ بالعديد من النماذج الأموية التي لعبت الدور الأكبر في تشويه وتقزيم الإسلام في الضمائر والنفوس بعد أن اغتالت تعاليم ووصايا محمد (صلى الله عليه وآله) واستمرأت الحكم الفردي غير المسؤول أمام هيئات الشعب لهذا، نراه يؤكد ذلك، في كتابه المذكورة، واصفاً فظاعة الأمويين وأثرهم السلبي على الإسلام عموماً:
(وإذا كان الإسلام قد شوه هذا التشويه منذ اللحظات الأولى لانتقال الرسول العربي الكريم إلى الرفيق الأعلى، نتيجة لفقدان الشورى والتخلي عن الديمقراطية، والإصرار على عدم فصل السلطات في هيئات الحكم وأجهزته، فماذا عسى أن تقول في مجازر (بسر بن أبي أرطأة) الذي ذبح طفلي عبيد الله بن عباس في حجر أمهما، فأفقدها عقلها، ومجازر (زياد بن أبيه) الذي قطع في ليلة واحدة (خمسمائة رأس) لرجال وجدهم في شوارع البصرة بعد صلاة العشاء، بعد أن منع التجول فيها ليلاً، وكان أكثرهم من الأعراب الواصلين من بواديهم ليلاً، وهم لا يعرفون أن التجول ممنوع في الليل، أو مجازر (بشر بن مروان) الذي كان يسمر خصومه على الخشب ويتركهم معلقين ينزفون حتى يموتوا، أو مجازر (الحجاج) الذي قتل مائة وعشرين ألف إنسان صبراً، بدون قتال، وأطلق من سجونه يوم مات (خمسون ألف معتقل)، بينهم ثلاثون ألف امرأة بينهن ستة عشر ألف امرأة مجردة من الثياب (39).
هذا غيض من فيض الأحداث الدامية التي صنعها الحكم الأموي ثم أعاد صياغتها الحكم العباسي من بعده أيضاً، إن هذه النماذج من الأحداث التي قام بها أولئك الحكام والولاة بحق أبناء دينهم دون ذنب أو سبب وجيه باستثناء العداء العقائدي ضمن الدين الواحد وحب التسلط والاستئثار بالحكم وإبادة من كان يدعوهم إلى العودة لتعاليم القرآن وسنة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله): إن هذا النماذج هي التي شوهت صورة الإسلام ورسوله في عيون وقلوب الغربيين، وبالطبع فنحن لم نذكر ما قام به معاوية من فظائع تقشعر لها الأبدان، ولم نذكر أيضاً أفعال ابنه يزيد الذي يصلح أن يكون معلماً لـ(نيرون) و(هولاكو) وغيرهما من الطغاة في التاريخ حتى يتتلمذون على يديه ويأخذون عنه فنون القتل والتعذيب وعلوم النفي والتنكيل وأساليب تحريف العقائد والأديان والرسالات. ولا نريد أيضاً أن نتناول بقية الخلفاء المدعين للخلافة بغير حق من الأمويين والعباسيين، لأن التاريخ الإسلامي يحفل بنماذج (من الخلفاء الجبارين كعبد الملك بن مروان الذي قال قولته المشهورة بعد مقتل عبد الله بن الزبير: والله لئن امرني أحدكم بعد يومي هذا بتقوى الله لقطعت رأسه.
كما يحفل أيضاً بنماذج من الخلفاء الماجنين الذين كانوا لا ينقطعون عن مجالس اللهو والشرب والغناء والمتعة مع القيان والغلمان من أمثال يزيد بن عبد الملك الأموي والمهدي العباسي ومن تبعه من خلفاء آخرين كالرشيد والأمين الذي يقول عنه الطبري إنه لما ملك، طلب الخصيان وابتاعهم وغالى بهم وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهم) (40)، نعم، كان تاريخنا الإسلامي يحفل بهذه النماذج التي لعبت الدور الأكبر في هدم ما بناه رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله).
ولكن الغريب من الأمر هنا، أن كل ما كتبه رجال التاريخ الإسلامي الأوائل عن بعض الخلفاء أفعالهم الشنيعة، مع اعتراف كافة الطوائف الإسلامية بوقوعها، تراه مبثوثاً في كتب المستشرقين وفي كتب المسلمين المعاصرين بنسب وبتأويلات متفاوتة في عمقها وأبعادها المنعكسة على المسلمين وعلى جوهر الرسالة الإسلامية التي كان من المفترض لها أن تكون قد ضربت جذورها عميقاً في أصقاع العالم بأكمله.
وتأتي الغرابة الحقيقة من أن بعض أولئك المفكرين المسلمين المعاصرين يريدون أن يوهموا الناس أن أولئك الخلفاء المسلمين كانوا فوق أي اعتبار فوق كل ما الصق بهم من تهم وافتراءات حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول أن الكثير الكثير مما كتب عن يزيد، روايات معادية للأمويين، وهي من أغاليط المؤرخين (41) وأوهامهم، وبعبارة أوضح، يريد بعض الكتاب المسلمين أن يجعلا من ملوك الإسلام وأباطرته خلفاء زهاداً قد باعوا دنياهم من اجل آخرتهم، ويريدون أن يصورهم أيضاً على أنهم نذروا حياتهم من أجل الرعية وهمومها، ومن اجل رفعة كلمة ورسالة الإسلام، لا من أجل الملذات والقيان والجواري والخصيان، وهم بعملهم هذا يحاولون أن يضعوا يدهم الأولى على عيون المسلمين كي لا يروا تاريخ (خلفائهم) وسوء فعالهم الضاربة جذورها في عمق التاريخ، أما اليد الثانية فيحاولون أن يضعوها على أفواه المستشرقين كي لا يتحدثوا بما قرأوه عن ماضينا فيكتبنا ودواويننا.
ورب متسائل يسأل قائلاً:
هل كان (الخليفة) الأموي أو العباسي هو الممثل الوحيد لعلاقة المسلم بإسلامه؟.
وهل هناك مستشرقون كتبوا بنزاهة عن الجانب الإنسان الحقيقي في الإسلام؟.
ما هي المدرسة التي كتب عنها المستشرقون بموضوعية وشمولية باعتبار أن تلك المدرسة هي التي كانت تمثل بحق جوهر الإسلام وشفافيته؟.
إن من حق أي قارئ أو باحث أن يتساءل عن هذه النقاط وعن غيرها حتى يكتشف الجواب الشافي لكل سؤال من أسئلته التي تدق بإلحاح أبواب فكره.
الإجابة سوف تأتي في القسم الثالث من الفصل الثاني.
اضف تعليق