التشرذم تعني في اللغة عدم إلتقاء الناس مع بعضهم، لا في الفكر ولا في العمل ولا حتى في هدوء العيش والسلم الاهلي، وقد ورد عن معناها في المعجم العربي الجامع، تشرذمَ النَّاسُ أي تفرَّقوا بشكل فوضويّ، وهذا ما شجع الاستعمار البريطاني على وجه الخصوص، أن يشهر بوجه المسلمين شعاره سيّئ الصيت (فرّقْ تسدْ)، وهذا الشعار في حقيقة الامر يمثل خريطة طريق للمسار السياسي الاستعماري الذي انتهجه البريطانيون خاصة وسواهم، ابان استعمارهم لعدد من الدول الاسلامية والعربية، فالتشرذم إذاً حالة من الفرقة يعيشها المسلمون في العصر الراهن، مع انه يتطلب منهم أقصى درجات الوحدة والتكاتف لمواجهة المخاطر التي تتهدد وجودهم بالكامل.
ولكن مهمة التخلص من التشرذم تستدعي قواعد وأسس معينة تعتمد عليها الام لتحقيق هذا الهدف الكبير، فالامم الحية تقوم على قواعد مبدئية تستند إليها في إدارة شؤون الناس المادية والفكرية معا، فإذا اختلت هذه المبادئ تختل المجتمعات ايضا، وسبب اختلال المبادئ يكمن أساسا في كونها تخالف فطرة الانسان أولا، ثم التطبيق الخاطئ لها من لدن الانسان نفسه، حيث يجعل من المبادئ غير ذات أهمية بسبب عدم تطبيقها الصحيح، الامر الذي يقود الى موت الكثير من الافكار والطروحات والمناهج الفكرية والعملية، بسبب انحراف تلك المبادئ او عدم تطبيقها بالصورة الصحيحة، فهل يمكن القول أن المسلمين يعانون من التشرذم بسبب ضعف القيم والمبادئ التي تنظم حياتهم؟ .
إننا في الحقيقة نمتلك عددا من الأدلة التاريخية التي تثبت تراجع الامم وضعفها بالتزامن مع ضعف المبادئ والقيم التي تؤمن بها، كما نلاحظ ذلك في انحدار الانسان الى الحضيض فيما لو ترك القيم الصحيحة، ومن الامثلة على ذلك هو التعامل الخاطئ للغرب مع المسيحية، حيث استبدلوا الروح بالمادة، وتلفعّت حياتهم بالمنهج المادي كليا، وصارت تبتعد رويدا عن الدين والروح وتهمل الجانب الروحاني المبدئي، فقادها ذلك الى الانحدار نحو التزمت المادي الذي اقصى الروح تماما، لذلك تلاشت الكثير من المبادئ والحضارات ايضا.
في هذا المجال، يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم (من أسباب ضعف المسلمين): لقد (رأى العالم كيف أن الغرب المسيحي رفض المسيحية واستبدلها بالعلمانية والمادية، وذلك لأن الإنجيل المحرف لا يملك من القدرة والشمولية ما يستوعب الحياة في كافة مراحلها، حيث لم يبق منه سوى بعض الوصايا وقد بدلوها أيضاً ولم يعملوا بها). وهذا الامر تسبَّب في ضعف المبادئ وسيطرة المادة على الروح، وانعكس ذلك على حالة التشرذم التي سادت الغرب.
ظاهرة الطغيان السلطوي
عندما نقارن بين الفكر الاسلامي والفكر الغربي، فإننا سوف نلاحظ الفرق الشاسع بينهما من حيث منظومة القيم والأسس التي يرتكز إليها الاسلام، فالانسانية بكل ما تعنيه الكلمة هي القاعدة الاساسية التي تنطلق منها القيم والمبادئ الاسلامية، على العكس من القاعدة المادية للفكر الغربي، لذلك نلاحظ إن الفكر الحي هو الذي يتفق مع فطرة الانسان، وهو أمر أثبتته وقائع التاريخ وتجاربه، وما يخرج عن هذه القاعدة سينتهي الى الانطفاء كليا، لذلك لاحظنا موت بعض الموجات الفكرية التي خطط لها اصحابها كي تبقى الى الأبد، لكنها لم تصمد لعدة عقود فقط (كما حدث مع الشيوعية مثلا)، وهذا دليل على نقصانها وعدم تلبيتها لحاجات الانسان الروحية، في حين هناك ديمومة في الفكر الاسلامي الخلاق، الذي لا يزال يتصاعد كلما تقادم عليه الزمن، والسبب أن الفكر القيّم والمبادئ الصحيحة هي التي تقف الى جانب الانسان وتدعمه، وليست تلك الافكار التي تدمر كيان الانسان وشخصيته وكرامته، لذا بقي الاسلام خالدا بمبادئه وتعاليمه وافكاره بسبب قربه واتساقه مع الفطرة الانسانية، كما نقرأ في قول الامام الشيرازي:
(الإسلام هو الدين الوحيد الذي بقي منذ خمسة عشر قرناً يواكب الحياة في كافة مراحل تطورها بالرغم من قسوة الحكام المتسلطين وأعداء الدين وسيبقى إلى يوم القيامة لأنه دين الفطرة). ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لم يوظف المسلمون هذه القواعد الفكرية والسلوكية لتنظيم حياتهم بطرق صحيحة، ومن ثم ينطلقون نحو بناء مجتمع راكز يقوم على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وكل القيم التي تحفظ قيمة الانسان؟!. لاسيما أننا لاحظنا أن الاخرين قبل المسلمين وجدوا في الفكر الاسلامي منظومة متكاملة، وأتخذوا منها منهجا لبناء حياة متطورة تواكب على الدوام كل ما يستجد في العصور المتتابعة، هذا ما يتعلق بغير المسلمين، أما المسلمون فهناك كما يرى المختصون، اسباب أدّت الى اختلال كبير في تطبيق المبادئ الاسلامية على حياة الناس، ومن جملة الاسباب بل أهمها ظاهرة الطغيان والتشبث بالسلطة، ما أدى الى بزوغ ظاهرة القمع والاستبداد، والتمسك بالعرش بكل الاساليب البعيدة عن الانسانية، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهدها ونلمس آثارها حتى اليوم). وقد ادت ظاهرة الطغيان السلطوي الى غرس ظواهر وحالات التخلف والاحتراب وضياع السلم الاهلي بين مكونات المجتمع الاسلامي، الامر الذي جعلهم بعيدين عن حالة الاتحاد والتوافق.
تسلسل حالة الضعف
ومن الملاحَظ أن مفردة التراتب تعني حدوث الاشياء تباعا بعضها وراء بعض بصورة متراتبة او متتابعة، فعندما يتدخل الطغاة لكي يصنعوا واقعا ضعيفا، فإن هذا الواقع سوف يقود الى واقع آخر لا يقل ضعفا عن الذي سبقه، فالوضع السابق اذا كان ضعيفا بسبب الطغيان، فإنه سوف يصنع حاضرا ضعيفا ايضا، وهذا بدوره سوف يؤدي الى مستقبل لا يقل ضعفا عن سواه، وهكذا نلاحظ ان التشرذم الذي تعيشه الامة تقف وراءه اسباب عديدة، ولعل اشدها وضوحا وتأثيرا هو ما فعله الاستعمار والتقى به مع الطغاة عبر التاريخ وما أسسوا له وتعاملوا به من نشر عوامل التفرقة التي أثرت على اتزان النسيج المجتمعي بين عموم المسلمين.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه حول هذا الجانب قائلا: (ان الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل أيضاً كما هو في صحة الإنسان).
ومع اننا نرى في الطغيان تاريخا شاخصا لا سبيل للخلاص منه، او إنكاره ونفيه، لكن هذا أدى بدوره الى خلخلة القيم، وأضعف المبادئ التي تنظم حياة المسلمين، وتجعلهم اكثر قربا وانسجاما مع بعضهم في مواجهة مستجدات الواقع، ولا يمكن أن نغض الطرف عن اهمال المسلمين لكثر من الفيم التي لو انهم لم يهملوها لكان واقعهم افضل بكثير مما هم عليه الآن، نعم هناك قيم وتقاليد اسلامية كان ينبغي على المسلمين التمسك بها، وتطويرها في ذواتهم من اجل مواكبة الحياة المعاصرة، وفقا لمنهج توافق الفطرة مع المبدأ وبالعكس، ولكن هناك خلل من المسلمين أنفسهم، فالاسلام ليس تأدية فرائض وحسب انما هناك سلسلة متواصلة من قيم العمل والانتاج وغيرها، ينبغي الالتزام بها من اجل حفظ الحضارة الاسلامية، استنادا الى خلود الفكر الاسلامي، لذلك مطلوب من المسلمين التنبّه الى أهمية المبادئ الصحيحة، وجعلها كخريطة طريق للتقدم والتطور والاستقرار، ولكن يبقى الخلل قائما بالنسبة للمسلمين ما لم تتم معالجة الاخطاء، خاصة ما يتعلق بحالات التصادم والافتراق فيما بين المسلمين انفسهم بسبب تركهم لقيم الاسلام الحقيقية، كما نقرأ ذلك، في قول الامام الشيرازي بالكتاب المذكور نفسه: (نعم إن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية).
اضف تعليق