تتحمل الأحزاب السياسية الناشطة في الميدان المسؤولية الأكبر في تأسيس وتطوير المؤسسات المستقلة التي تسهم في صناعة الدولة المدنية، ويتسع حجم هذا النوع من المسؤوليات نظرا لما أثبتته الأحزاب الناجحة من دور رئيس في إنجاح الدولة التي لا يمكن أن تبني نظاما سياسيا استشاريا ديمقراطياً...
تتحمل الأحزاب السياسية الناشطة في الميدان المسؤولية الأكبر في تأسيس وتطوير المؤسسات المستقلة التي تسهم في صناعة الدولة المدنية، ويتسع حجم هذا النوع من المسؤوليات نظرا لما أثبتته الأحزاب الناجحة من دور رئيس في إنجاح الدولة التي لا يمكن أن تبني نظاما سياسيا استشاريا ديمقراطياً بعيدا عن الأحزاب أو في عدم وجودها، لأن غيابها عن الساحة لابد أن تقف وراءه أسباب خطيرة، فأما حاكم طاغية يمنع الأحزاب من العمل السياسي خشية اختلافها الفكري مع منهجه وآماله، وأما إلغاء الأحزاب كي يبقى حزب الفرد الحاكم هو المتحكم الأوحد بالسلطة، وفي هذا النوع من الأنظمة عيوب لا تعد ولا تُحصى.
لذلك دولة بلا أحزاب، تعني حراكاً سياسيا فرديا حيث يؤكد خبراء السياسة وبناء المؤسسات الدستورية القوية، على أهمية نوع النظام الحزبي السياسي الذي يحكم الدولة، وأعطى هؤلاء أهمية كبيرة للمؤسسات ودورها الكبير في بناء الدولة، على أن لا يكون هذا الدور شكليا، كما تفعل الأنظمة القمعية التي يقودها نظام الحزب الواحد غالبا، او الأنظمة العسكرية التي تسعى دائما للسيطرة على الحكم بالقوة الغاشمة او الانقلاب العسكري، بعيدا عن الشرعية التي يمنحها الشعب للسلطة عبر الانتخابات، فيسود منطق القوة والقمع وتغيب مؤسسات الدولة المستقلة.
ويعد نظام الحزب الواحد، أو النظام الفردي الأكثر حرصا على إنشاء مؤسسات شكلية في الدولة تقوم بأدوار مزيّفة، مثل تشكيل مجلس نواب او برلمان او مجلس وطني، يقوم بتمثيل الشعب بصورة شكلية، باتخاذ القرار والتشريع او المشاركة فيه، إذ غاليا ما يكون مثل هذا البرلمان، دمية بيد الحاكم وحكومته القمعية، يحركها فوق المسرح السياسي كما يشاء، لذا فإن المشاركة الحزبية الواقعية الفاعلة في العمل السياسي يشكل العمود الفقري للنظام.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يعرّف الحزب في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام) بالكلمات التالية:
(يقال لحزب انه ديمقراطي فـي حال ما إذا انتخب زعماؤه، من قبل أعضاء الحزب من خلال انتخابات حقيقة وبالاقتراع السرّي أو العلني، والمنهج والسياسة العامة لمثل هـذه الأحزاب سواء على صعيد التنظيمات أو القرارات، يتم تعيينهما وتحديدهما في المؤتمر العام للحزب).
يوجد فارق كبير بين نظام الأحزاب المتعددة ونظام الحزب القائد أو الواحد في تقديم النموذج الأجود للنظام السياسي، لأن أهمية الأحزاب وفاعليتها السياسية الديمقراطية، أهم بكثير من منهجية نظام الحزب الواحد، الذي يدعم فكرا أحاديا ومنهجا لا يقبل الآخرين ويصادر حرياتهم، فالحزب القمعي ينتج عنه قادة طغاة غير مرغوب بهم قطعا، ويخرج منه حاكم دكتاتور يستمد قوته ومنهجه من حزب لا يقبل الأحزاب الأخرى فكرا أو مشاركة في إدارة الشؤون السياسية.
يقول لإمام الشيرازي: (يكون منهجُ الحزب تجسيداً لما يريده قادة الحزب، ويكون الرأي المخالف للمنهج العام فيه ممنوعاً، فيحظر فيه تعدد الأفكار والآراء ويطرد أي شخص له علاقة بالفكر المعارض، وفي مثل هذه الحالة ينساق الحزبُ نحو الاستبداد والديكتاتورية والتفرد السلطوي).
نظام الحزب الواحد أسوأ الأنظمة
تتبلور الدكتاتورية وتنمو في ظل نظام الحزب الواحد، لذلك يتوافق معظم علماء السياسة على أن أسوأ الأنظمة هو ذلك النظام الناتج عن الحزب الأوحد لأنه يمكن أن يحدد نظام الحزب وتشكيلته وأفكاره، النظام السياسي للدولة، لاسيما اذا استطاع الحزب الوصول الى السلطة، من هنا يوجد هناك تأثير مباشر لفكر الحزب، وطبيعة تنظيمه على بناء المؤسسات التي تحكم الدولة وتدير شؤون المجتمع، من الأفضل أن يكون هناك تعدد في الأحزاب، وتكون لها مشاركة واسعة في الانتخابات النيابية أو سواها، هنا تكمن أهمية الأحزاب الكبيرة للتواجد الفاعل في الساحة السياسية، وعدم ترك الأمور بيد حاكم أوحد وحزب يأتمر بأوامره، فتضيع الحقوق وتموت التعددية ويحرق الطغيان الأخضر واليابس.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(إنّ تعدد الأحزاب السياسية وطبيعة تنظيماتها لهما تأثير كبير جداً في انتخاب الهيئة الحاكمة، وان هذا التأثير ملحوظٌ بشكلٍ اكبر في الهيكلية الداخلية للمؤسسات الحكومية.(
وهكذا تجيء أهمية الأحزاب في المشاركة بالعمل السياسي كونها تقضي على الفردية، ولكن هناك شرط مهم أن تكون هذه الأحزاب نزيهة، وتكسب ثقة الجماهير، وتحرص فعليا على تمثيل تطلعاتها، لذلك فإن أهمية الأحزاب تكمن في المشاركة الفعالة في اختيار الشخصيات القيادية للنظام السياسي في الدولة، كما نلاحظ ذلك في الدول الديمقراطية الراسخة، حيث يتوسع تأثير الأحزاب الى حد أنها هي التي تختار الوزراء والمسؤولين.
يتضح هذا في قول الإمام الشيرازي:
(إن الأحزاب السياسية، ينبغي أن لا تكتفي بتصنيف الناخبين والمرشحين بل تسعى أيضاً، إلى التأثير في اختيار الوزراء ونواب الوزراء وأعضاء البرلمان).
إتقان قاعدة الفصل بين السلطات
تتعدد وتتنوع أدوار ومهام الأحزاب السياسية العاملة في الميدان السياسي، ولكن من أهم الأدوار التي يمكن أن تؤديها الأحزاب في الساحة السياسية هي إصرارها على بناء مؤسسات الدولة وفق خطط مسبقة تساعد على تحقيق الفصل بين السلطات، لذلك لابد أن تتنبه الأحزاب الى أهمية بناء المؤسسات الرصينة، التي تضبط حراك الدولة بجميع السلطات التي تتحرك فيها، بمعنى أن المؤسسات ذات بعد معنوي قوي، قادر على التأثير في ضبط حركة السلطات التي تقود الدولة، بما فيها السلطة التنفيذية التي تشكل أهم السلطات، من حيث الجانب التنفيذي العملي، وإذا تمكنت الأحزاب من تقوية استقلالية المؤسسات فهذا يعني أنها استطاعت أن تبني ركائز الدولة، من ناحية أخرى هنالك من يرى العكس تماما، فيذهب بعضهم الى أن تعدد الأحزاب في الدولة الواحدة ينطوي على مخاطر كثيرة، أهمها أن كثرة الأحزاب تساعد على تفتيت الجهود، وتضعف دور المؤسسات في بناء الدولة، كما أنها تفرق جهود المعارضة وتقوم بتفتيتها، الأمر الذي يجعلها ذات تأثير ضعيف على صانع القرار، ولا تشكل قوة ضغط كافية، تمنع الضرر الذي قد يلحق بالشعب، إذن فإن تعدد الأحزاب قد يكون مضرا إذا لم يكن عملها منسقا ومنضويا تحت دستور يلتزم به الجميع.
من هنا يقول الإمام الشيرازي:
(هناك من يرى أن تعدد الأحزاب قد لا يساعد على بناء مؤسسات الدولة كما يجب).
مع ذلك يوجد خطر أكبر يلوح في الأفق، يتمثل بسيطرة الحزب الواحد على السلطة، وبالتالي فرض الرأي الواحد والفكر الواحد، وإقصاء الأفكار الأخرى، وضرب الصوت والرأي المعارض حماية للسلطة وامتيازاتها، وهنا يتحول نظام الحزب الواحد من نظام سياسي يدير الدولة وشؤون الشعب، الى نظام يكرّس السلطة له فقط، ولا يتورع عن استخدام أبشع السبل واغرب الوسائل وأشدها قمعا، في سبيل الحفاظ على السلطة، ولنا في التاريخ القريب أمثلة كثيرة عن فشل هذا النوع من الأنظمة التي اعتمدت نظام الحزب الواحد، فتحوّلت الى أحزاب ذات أنظمة عرفت بنزعتها القمعية التي أتت على جميع معارضيها بلا استثناء، وفي كل الأحوال تعتبر أنظمة الحزب الواحد فاشلة، حسب التجارب التي يضج بها التاريخ، لأنها تعتمد سياسة العنف وتحتكر السلطة وتقمع المعارضة، وتدمر تطلعات الجماهير.
يقول الإمام الشيرازي:
(من لوازم النظام القائم بحزبٍ واحد هي العقيدة الواحدة وممارسة سياسة الإرهاب والعنف واحتكار السلطة، لذا فإنّ هذه النظم تعتبر اخطر من الجناة العاديين). نظام الحزب الواحد يُصنَّف بأنه نظام قمعي دكتاتوري بامتياز ولهذا يرفضه مفكرو السياسة ويؤشرون فيه عيوب خطيرة، على الرغم من بعض الآراء التي ترى في مثل هذه الأنظمة مناسبة لبعض المجتمعات المتأخرة لضبطها، ولكن يجب أن لا يكون ضبط الشعب بالقمع بل بالوعي والتثقيف، والممارسات الديمقراطية التي تغير أفكار ومنهج حياة المجتمع.
اضف تعليق