إذا كان زمام القيادة بأيدي حكام ومسؤولين فاسدين، فهذا سوف ينعكس سلباً على حياة الناس، فيشيع الفساد كما هو حاصل اليوم في العراق، وتنتشر شبكات التخريب، وتُنتهَك حقوق وثروات الشعب، فتكون الفوضى سيدة الأحداث، ولهذا فإن الإصلاح بات من أهم مطالب العراقيين الذين خرجوا في احتجاجات متواصلة...
الإصلاح يشملُ عدة أنواع كما يؤكد علماء ومفكرو الاجتماع، ولكن أهم أنواعه إصلاح النفس لأنها مصدر كل الأفعال الجيدة والمسيئة، وهناك إصلاحات تطول النظام السياسي والسياسة بشكل عام، والنظام الاقتصادي، والمنظومة التي ينشط في ضوئها المجتمع، ويمكن أن يشمل الإصلاح التعليم بمراحله كافة، والنظام الصحي والتربوي كذلك، ولكن الأهمية القصوى يجب أن تبدأ إصلاح الحكام لأن جميع مضامير الإصلاح تنضوي تحت هذا النوع، فإن صلح الحاكم صلح المحكوم بل وصلحت الحياة!.
هذا بالضبط ما دعت إليه الأديان، فيما تطرقت إليه النصوص القرآنية بوضوح، وركّز على كونه الأساس الذي يرتكز إيه صلاح النظامين الجمعي والفردي، الدولة والفرد، وإن كان الإصلاح حقيقة مجسَّدة في قرارات الحاكم أو النظام السياسي، فإن ذلك ينعكس على أنشطة المجتمع، وتمسكه بالقيم النبيلة، ومنها نبذ العنف وشيوع السلام، وسعي الفرد لإصلاح نفسه ومن ثم إصلاح محيطه الأصغر كالعائلة، أو محيط العمل والدراسة وما شاكل.
نقرأ في كتاب الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الموسوم بـ (الإصلاح):
(إنّ الإصلاح الذي دعت إليه كافة الرسالات السماوية وعرض القرآن الحكيم نماذج منه، له مجالات عديدة ومتنوعة، بل يشمل كافة مجالات الحياة، كإصلاح المفاسد الاجتماعية والأخلاقية، ونبذ العنف والدعوة إلى السلام، وإصلاح الفرد نفسه وعائلته والآخرين).
فيما يتعلق بالنظام السياسي والحاكم الذي يُمنح صلاحيات القيادة، هناك نظرة شعبية عامة لشخصهِ، وتمحيص دقيق لسلوكه، وتحليل مستمر لأفكاره، فهو منذ أن يتقلّد صدارة القيادة ودفّة السلطة، يُصبح تحت مجهر المعاينة الجماهيرية التي تسعى لقراءة شخصيته بدقة، ومحاولة التشبّه به، فالشعب ينظر إلى قادته على أنهم يصلحون كنماذج يقتدون بها، من هنا جاءت أهمية أقوال وسلوكيات الحكام والمسؤولين بشكل عام، فهؤلاء ليسوا أناساً من عامة المجتمع، بل هم قادة، وهذه الصفة تمنحهم مكانة خاصة عند عموم الناس.
هكذا يكون الحاكم نموذجا للناس، فيسيرون وراءهُ، والمشكلة أن فكر وسلوك القادة قد ينعكس على الناس المحكومين، والمشكلة الأخطر تكوين الحاشية الساندة، أو البطانة التي تحيط بالحاكم، وربما توهمه بما ليس موجودا فيه، فتظهرهُ عادلا وهو ليس كذلك، وتظهرهُ عادلا ومنصفا وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ولكن طبيعة النفس البشرية تجعل الحاكم يصدّق أكاذيب المدح والتأليه التي تصدر عن مؤيديه وحاشيته، فيوغل في الأحكام الجائرة من دون أن يتأكد من ذلك!.
الحاكم عليه أن يحترس من المدح، وأن يقبل الذم أو الرأي المعارض، ويتيح الحرية لمن يعارضه، كون الرأي المضاد أصدق ممن يؤيدك ويمدحك، وفي حال صَلحَ الحاكم، وهو نموذج للناس كما سبق ذكره، فإن الناس سوف يسيرون في هدْيهِ وخطواته كونهُ النموذج لهم في مجمل الحالات.
الإمام الشيرازي يقول: (هناك مسألة مهمة يتوقف عليها قضية إصلاح شؤون الناس وإفسادهم، ألا وهي مسألة القيادة ومن بيده زمام الأمور، لأن الناس كما في الحديث والمثل السائر: على دين ملوكهم).
العقول السديدة عادلة ومنصفة
لا نخطئ إذا قلنا بأن الحياة برمّتها تسير على مسار الحكام، فهؤلاء يتربعون على قمة هرم القيادة، ومجمل الصلاحيات وأهمها محصورة بينهم أو لديهم، فإن كان القرارات المختلفة نابعة من عقل سديد ورأي حكيم، فإنها سوف تكون عادلة ومنصفة، وتصبّ في إطار تطوير الحياة وتحسينها، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على تنويع وتطوير حياة الناس.
فكيف يمكن أن يكون القادة بمختلف مراتبهم من النوع العادل المتروّي المنصف، هناك ضوابط وشروط يجب أن يتحلى بها القادة حتى يكونوا من نوع الحكام الناجحين، خصوصا في مجتمعاتنا المسلمة، فالحاكم الذي يؤمن بالله ويخشاه، ويقتدي بالرسول الأكرم وأئمة أهل البيت صلوات الله عليهم، سوف يكون حاكما رافضا للفساد بكل أنواعه، فهذا النوع من الحكام والمسؤولين يكون حريصا على بثّ العدالة بين الناس، والتعامل معهم وفق قوانين ومكاييل متساوية، وتجعل من تكافؤ الفرص متاحا للجميع بما يضمن العدالة الاجتماعية كاملةً.
ومن محاسن هؤلاء المسؤولين أنهم يؤثّرون في غيرهم، كونهم كما أسلفنا يكونوا نماذج للآخرين، فحتى أولئك الذين يخرجون عن الجادة الصواب وينتهكون حقوق الناس، سوف يتعلمون ممن هو أصلح وأفضل منهم، وما أحوج العراقيين وعموم المسلمين، إلى قادة يرفضون الفساد ويحاربونه، فهؤلاء هم من يجعل من الحياة قابلة للتطور ومثمرة إلى درجة تجعل من حياة الناس في قمة النجاح والاستقرار.
لهذا يؤكّد الإمام الشيرازي على هذه النقطة فيقول:
(كلما كان القادة ممن يؤمن بالله والرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم، وكانوا يخافون يوم الحساب، فإن نظام الحياة بأسره سيسير على طريق الخير والرشد والصلاح، فلا مكان فيه للفساد ولا مجال للإفساد حتى أن الخبثاء والأشرار يمكنهم الرجوع إلى حصن الدين وإصلاح سيرتهم وسريرتهم).
ولكن إذا كان زمام القيادة بأيدي حكام ومسؤولين فاسدين، فهذا سوف ينعكس سلباً على حياة الناس، فيشيع الفساد كما هو حاصل اليوم في العراق، وتنتشر شبكات التخريب، وتُنتهَك حقوق وثروات الشعب، فتكون الفوضى سيدة الأحداث، ولهذا فإن الإصلاح بات من أهم مطالب العراقيين الذين خرجوا في احتجاجات متواصلة، تطالب الحكام والطبقة السياسية بالكف عن هدر الموارد الطبيعية والبشرية للعراقيين، وضرب الفساد والفاسدين بقوة.
خطر الانغماس في الشهوات
السبب الرئيس في انحراف القادة هو عدم إيمانهم أو ضعفه، والانغماس في الشهوات، واللهاث وراء المغانم والامتيازات، بعيدا عن التصرف المؤمن العادل الذي يرتكز على العقلانية، والذي يدفع باتجاه تنمّر شبكات الفساد التي تدمّر الاقتصاد وتهشّم أركان الدولة ومؤسساتها، لذا فإن نظام الحياة في ظل حكام ومسؤولين فاسدين يتعرّض للتدمير والفوضى والنكوص المتواصل.
الإمام الشيرازي يؤكّد على هذه الحقيقة في قوله:
(أما إذا كان زمام الأمور بيد أناس لا يؤمنون بالله ولا يخافون يوم الحساب، أناس انغمسوا في الشهوات واتبعوا الشيطان، فإن نظام الحياة لا محالة سائر على البغي والعدوان والفحشاء والمنكر، فيدب الفساد والإفساد في كافة أنحاء المجتمع، وتعم الفوضى وتنتشر الأفكار الهدامة والنظريات الباطلة، وتكثر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية).
لذا من أهم مقومات الإصلاح الذي يحتاجه المسلمون اليوم ومن بينهم العراقيون والعراق على وجه الخصوص، هو الشروع الفوري في محاربة الفساد، على أن يتم ذلك وفق برمجة دقيقة في مجال وضع الخطط والإجراءات الفاعلة، ومن ثم توفير الأطر العملية لتطبيق برامج محاربة الفساد، على أن يتم التركيز على مرتكز بالغ الأهمية مفاده:
مَن يحارب الفساد يجب أن لا يكون حاكماً فاسدا، أو يؤتى به من حواضن الطبقة الفاسدة، لأنّ (فاقد الشيء لا يعطيه)، بمعنى أن الفاسد لا يمكنه محاربة الفساد والفاسدين والمفسدين، فإن أردنا دولةً بلا فساد، يجب أن نأتي بحكام لا يمس قلوبهم أو عقولهم أو نفوسهم الفساد مطلقا، وهذا يعني أن على الحاكم إصلاح أنفسهم أولا وهذه هي الخطوة التي يمكن أن تبدأ بها رحلة الإصلاح في العراق أو في غيره من الدول العربية والإسلامية.
الإمام الشيرازي يقول:
(من مقومات الإصلاح هو محاربة الفساد بكافة أشكاله، والحد من انتشاره، لأن نشر الفساد بين الأمة يعتبر من أهم موانع الإصلاح، والقادة الفاسدون لا يمكنهم القيام بالإصلاح، إلا إذا باشروا بإصلاح أنفسهم).
نستخلص مما تقدّم في أعلاه، أن القادة والحكام هم المسؤولون أولا على إصلاح أوضاع الناس، ويقع على عاتقهم نجاح الحياة أو فشلها وسقوطها، والأمر كلّه يتعلق أولا بإصلاح القادة لأنفسهم، وهذا الفعل سيكون فاتحة لعملية إصلاح كبرى تطول الجميع وتجعل من حياة الناس في أفضل صورها وحالاتها.
اضف تعليق