ما هو المقصود من جملة صدمة المستقبل؟ هل يوجد تفسير محدّد لها، وهل هناك إطار معنوي أو زمني خاص بهذه التسمية؟، المقصود هنا بصدمة المستقبل، هو الزمن القادم الذي تجد فيه الأمة نفسها في عالم لا تفقه منه شيئا، لأنها لم تستطع مواكبة تغيير العالم...
ما هو المقصود من جملة (صدمة المستقبل)؟ هل يوجد تفسير محدّد لها، وهل هناك إطار معنوي أو زمني خاص بهذه التسمية؟، المقصود هنا بصدمة المستقبل، هو الزمن القادم الذي تجد فيه الأمة نفسها في عالم لا تفقه منه شيئا، لأنها لم تستطع مواكبة تغيير العالم، ولم تقم النخب أو الطبقة الرائدة بدورها، فبقي المجتمع/ الأمة تراوح في مكانها، في هذا الحالة فإن التطور المستقبلي للبشرية سوف يشكل لها صدمة قاسية.
بعض المصادر ترى بأن المستقبل هو كل ما سيحدث في وقت بعد الوقت الحاضر. ويعتبر وصوله لا مفر منه، بسبب وجود الوقت وقوانين الفيزياء، ونظرا للطبيعة الجلية للواقع، وحتمية الطبيعة. مفهوم المستقبل والخلود موضوعان رئيسيان في الفلسفة، والدين، والعلم، واستعصت أعظم العقول على الدوام إيجاد تحديد لهما غير مثير للجدل. يشيع استخدام التصور الخطي للوقت؛ باعتبار المستقبل هو جزء من خط الزمن المتوقع له أن يحدث. أما المستقبل في النسبية الخاصة، فهو المستقبل المطلق، أو المخروط الضوئي للمستقبل.
لماذا علينا أن نستعد لصدمة المستقبل، وكيف يمكننا تجنب هذه الصدمة، تساؤلات ونقاط في غاية الأهمية يطرحها ويناقشها الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل).
لصدمة المستقبل آثارها الوخيمة التي لا يمكن تحييدها أو التخلّص من تداعياتها، إلا في حالة واحدة، هي حالة الاستعداد الجيد لها من خلال مواكبة التغيير الذي يحدث في عموم العالم ومجاراة التغييرات على الأصعدة كافة.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه آنف الذكر:
(صدمة المستقبل لا رادّ لها، إذا لم نستعد إليها ونكتشف أجزاءها، ونتحدى آثارها الوخيمة).
ماذا يحدث لو أننا عجزنا عن قراءة المستقبل جيدا، وما هي العوائق والأسباب التي تحول دون مواكبة التغييرات على المستوى العالمي، بالطبع من أكبر الأسباب وأكثرها تعقيدا، عدم صناعة الاستعداد الذاتي للتغيير، وتلكّؤ الطبقة الرائدة (النخب) عن إيجاد التوعية والتثقيف الجمعي اللازم لحث الناس على التغيير من خلال دراسة المستقبل واستكشاف تداعيات الصدمة قبل حدوثها.
التغيير المستقبلي قادم لا محالة
المهم أن يؤمن الإنسان بأن التغيير المستقبلي ممكن، وأن لا ثبات مطلقاً، والسعي لإيجاد ما يكفي من الدلائل والأسانيد لفهم حيثيات القادم، بوعي لا يقل عما تمتلكهُ الأمم الذاهبة إلى المستقبل بثقة وثبات كونها درست حيثياته، وواكب مستجدات الزمن، ولم تنظر إلى التغيير على أنه من المستحيلات.
الإمام الشيرازي يؤكد على: (إن المستقبل ـ عادة ـ ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل أو لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً).
وهناك أسباب أخرى تضع حواجز وأسوارا عالية بين الإنسان ومستقبله والمجتمع ومستقبله أيضا، ومنها حالة الانغلاق الفكري التي يعيشها الفرد والمجتمع، وعدم استعداده لتجديد أفكاره وترك خلايا مخّه بلا غذاء فكري جديد، وتخوفه من القادم أو الجديد، لأن هذا النوع من البشر يخشى من التغيير ويرفضه تماما.
أما المجتمع الذي يسعى للنجاح ويبحث عنه بجدية وبعقول متفتحة وذكية ولا تتخوف من التغيير، فإنها سوف تحصد ما تتمنى الوصول إليه من أهداف ومساعٍ، بعد أن ترى في المستقبل ضالتها، وتجد وسائل استكشافه وقراءته قراءة صحيحة، فتملك القدرة على التكيّف والتغيير، ولن تخشاه حتى لو كان لا يزال مجهولا في كنف المستقبل القادم.
يقول الإمام الشيرازي: (على الناس كي يعيشوا حياة ناجحة، أن يؤمنوا بحقيقة ثابتة، هي أنّ المجتمع يتغيّر، وأنّ العالم يتغيّر، وأن يتعلموا باستمرار كيف يتكيفوا مع هذه التغيرات الحادثة إلى حدّ الألفة).
ولكن النجاح في معرفة المستقبل، وقراءته بطريقة مقارِبة للحقيقة، أو لما سيحدث، يتطلّب سقفا عاليا من التخطيط، مع اعتماد الحكمة بأعلى درجاتها، فحتى نكون قادرين على التغيير، ويكون لدينا استعداد للتخطيط الدقيق، علينا أن ننتهج الحكمة والذكاء وطرد الخوف المعشش في نفوس من يخشون التجديد، فمن يرغب بالعيش الرغيد، عليه أن يواجه تحديات المستقبل بشجاعة وذكاء وحكمة، كي ينال النتائج المستقبلية الراسخة.
من هنا يرى الإمام الشيرازي بأن الإنسان: (لو استطاع أن يواجه تحديات المستقبل بحكمة وخطة، لاستطاع أن يعيش حياة رغيدة).
مقترحات وخطط لمواجهة صدمة المستقبل
لكن لابد من وضع مقترحات ودراسات وخطط متخصصة في مجال فهم المستقبل، وحتمية دراسته بصورة دقيقة، وهذا الركن يقع تحقيقه على الطبقة الرائدة، فهي التي تقوم بدور الإرشاد والتوعية والتثقيف بخصوص التصدي لصدمة المستقبل، من خلال معالجة حالة الخوف أو التردد من التغيير والتجديد، والطبقة الرائدة تقع عليها مهمة إزاحة تراكمات الخوف من عقول الناس، حتى يكون لديهم القدرة والاستعداد لمواكبة ما يجري في العالم، وعدم الانغلاق على الذات بحجج واهية تحرم الفرد والمجتمع والأمة من فرصة امتصاص صدمة المستقبل وتخفيف تداعياتها، والعيش كالأمم الأخرى التي اتخذت التدابير اللازمة لمواجهة المستقبل بكل ما يضمره من مجاهيل غامضة.
الإمام الشيرازي يرى أنّ: (مسؤولية الطبقة الرائدة تتجسّد في المجتمع عبرَ توعية الناس، وفتح عيونهم لحقائق المستقبل؛ لأنهم بذلك سيمنحونها الثقة وسيصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل).
وربما يتساءل بعضهم ما هي مسؤوليات الطبقة الرائدة في المجتمع بالضبط، إن رمزية هذه الطبقة واضحة، ودرجة علميتها وكفاءتها متفوقة كثيرا على عامة الناس، من ذوي الوعي البسيط أو السطحي، لذلك تتحدد مسؤولية الطبقة الرائدة/ النخب بأنواعها كافة، بالنهوض بالمجتمع والأمة والسمو بها إلى مصاف المجتمعات والأمم الأخرى التي لا تواجه مشكلة تجاه المستقبل، ولا تخشى من الصدمة القادمة، لأنها كأمة وكأفراد واكبت التغيير الذي يحدث في العالم، واستشرفت المستقبل، وخططت لكل المفاجآت وجارت الأمم الأخرى في التغيير والمواكبة، لذلك فهي لا تعاني من عواقب الصدمة المستقبلية.
العقول الرائدة في الأمم المتقدمة، تصدّت لمهامها جيدا، وارتفعت بأفرادها ومجتمعاتها عاليا، وجعلها تدرك وتفكك رموز المستقبل بطريقة ناجحة، واستطاع الناس في الأمم المتفوقة أن يميزوا بين ما يفيدهم وما يضرهم، واستطاعوا أن يطوروا كل ما يفيدهم ويصب في صالحهم، فهل يا تُرى قامت الطبقة الريادية في مجتمعاتنا بما عليها، وهل استطاع الفرد فينا أن يواكب التغييرات الهائلة ويتقبلها ويجاريها ويطورها بما يكفل مواجهة صدمة المستقبل بقوة وجدارة؟
يقول الإمام الشيرازي: (إن مهمة الريادات المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطِر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، وتلافي الأخطار، وتحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك فإنها تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).
هل قام الرواد بما ينبغي أن يقوموا به؟ هذا هو السؤال المهم، ولابد لنا من الإشارة إلى الطبقة السياسية التي تسببت بكل لحظة تأخير تعاني منها أمتنا، ومع ذلك ليس أمام العقلاء والحكماء وجميع المسؤولين إلا أن يفكروا على نحو جاد بكيفية مواجهة المستقبل في ظل عالم تفصل بيننا وبينه علميا وتكنولوجيا مسافات كبيرة؟
لهذا يؤكد الإمام الشيرازي على (إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل).
وهكذا تتضح لنا الصدمة المستقبلية القادمة، في ظل تلكّؤ ريادي سياسي واضح، يتسبب في كل يوم بتأخير إضافي عن الأمم الأخرى، يجعلنا في مواجهة خطيرة مع المستقبل إذا لم يبادر المعنيون بخطوات جادة وسريعة ومستدامة، تمنح أمتنا القدرة على عدم الخوف من المستقبل وصدمته.
اضف تعليق