إسلاميات - الإمام الشيرازي

القائد اللاعنيف

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

إن ما يحدث اليوم في العالم من ظلم واحتقان وتوتر سببه تلك الحكومات وأولئك القادة المنكفئين على أنفسهم والمشغولين بمآربهم المتدنية، فهؤلاء بهذه الصفات العاطلة من الرحمة والخالية من الأخلاق، والبعيدة عن الفطرة الإنسانية، يسهمون بطريقة أو أخرى في تعكير الصفو الإنساني العالمي، ويشيعون منطق المصلحة...

عندما نطمح لإنجاز هدف مهم، ليس أمامنا إلا التسليم بوجود قيادة محنكة، تتصف بالصفات القيادية التي تؤهلها لتبوّء مكان الصدارة الذي ينظر إليه القادة الناجحون على أن تكليف وليس تشريف، لذا فإن جميع الحضارات الإنسانية التي ظهرت على مرّ التاريخ، كان للقيادة فيها دور الحسم، كما أن المجتمعات والدول التي وضعت بصْمَتِها في خارطة التقدم العالمي، مثل سنغافورة أو غيرها، ما كان لها أن تحقق هذا النجاح الباهر لو لا القيادة المتميزة التي رفعتها من قعر الفقر إلى فضاء الغنى المادي والفكري والقيم الجيدة.

الأمة أية أمة من المُحال أن ترتقي إلى القمة، ما لم يتصدَّ لهذه المهمة قادة محنّكون متوازنون، يتصفون بصفات متعددة تجتمع كلها في شخصيتهم وتطبع سلوكهم وطبيعة تفكيرهم وتنعكس على كيفية إدارتهم لشؤون الدولة والأمة، وتعاملهم مع الناس خصوصا في مجال السلطات التي تمنح القادة صلاحيات يمكن استخدامها بنجاح وإنسانية عالية، ويمكن أن يفشل القائد في إدارتها فيما لو كان مفتقراً للصفات التي يجب أن يتحلّى بها القائد الناجح.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (مواصفات القيادة الإسلامية):

(إن الحاجة إلى القيادة يكاد يكون أمراً مفروغاً منه، حيث ذلك واضح من خلال تأريخ الإنسانية وكيفية نشوء الأمم والحضارات، وهي حاجة ضرورية للمجتمع الإنساني، فالمجتمع لابد له من قيادة تمتلك من الصفات الكمالية ما يؤهلها لإدارة العباد والبلاد وتطوير المجتمع).

وتوجد صفة أخرى تكمّل مهمة القيادة، ود تكون أهم الشروط التي يجب أن تتوافر في القائد وهي الكفاءة، لاسيما أن مهمة القيادة يتوقف عليها مصير نجاح أو فشل جماعي فضلا عن فشل القائد نفسه، لذلك يجب أن يتحلى أي قائد بالإتقان والدقة من خلال الكفاءة التي يمتلكها، وفي حال وجد أو اكتشف بأنه ليس أهلا لهذه المسؤولية الكبيرة، فعليه أن ينسحب من القيادة ويتركها – عن طيب خاطر- لمن هو أجدر بها منه وأقدر على التصدي لهذه المهمة الكبيرة.

فالقائد هو النموذج لأمته الآن، كما أنه الصورة التاريخية الناصعة التي يحتفظ بها التاريخ للأجيال القادمة، ومستقبل الأمم يُبنى على قادتها الكبار المتميزين بالكفاءة والحنكة والذكاء والاستشارة والرحمة والابتعاد عن سمات التوحش والاستهتار بحقوق المحكومين، هكذا ينبغي على قادة الحاضر أن يفكروا بأنهم نماذج الحاضر والمستقبل في آنٍ واحد.

الإمام الشيرازي يتطرق إلى هذه النقطة الهامّة فيقول:

(من أهم ما يلزم أن تتصف القيادة به الكفاءة. فعمل القائد يجب أن يكون متقناً ودقيقاً، وعليه أن يعتني بكل ما تحت تصرفه لأنه مسؤول أمام الله والشعب، وبهذا يكون أسوة تتأسى به الأجيال. أما من لا يرى في نفسه الكفاءة لإدارة الأمور، فالأفضل له وللأمة التي يقودها، أن ينسحب ويفسح المجال لمن هو أكفأ منه).

الاستشارة عنصر نجاح حيوي للقائد

من دعامات النجاح الذي يحققه هذا القائد أو ذاك عنصر الاستشارة، فالقائد الذي لا يختصر الآراء في رأيه، ويتحاور مع الخبرات الساندة ويتفاعل بها، ومن ثم يستخلص منها العبَر التي تقوده إلى الطريق الصحيح، هو القائد المتميز بذكائه، فهو لا يعتزل الآخرين، ولا يضع حواجز فولاذية بينه وبين عقولهم وخبراتهم، إنه يقترب من العقول الأخرى يتحاور معها ويستفيد أقصى الاستفادة من التجارب والآراء الأخرى في إدارة السلطة وتوجيه دفّة القيادة.

على العكس من ذلك كل الشر وبؤر الفشل تكمن في الاستبداد الذي لا يسير عليه إلا القادة الفاشلون، فهؤلاء يقتلون أنفسهم بأيديهم من خلال التشبث بأفكارهم فقط وبآرائهم التي ترفض التلاقح مع آراء الآخرين، وهنا يكمن مقتل القادة المستبدين حين ينظرون إلى الجميع على أنهم متآمرين بدلا من النظر إليهم بأنهم ناصحين.

الإمام الشيرازي يؤكد هنا على:

(أن استفادة القائد من تجارب وعقول الآخرين، دليل على حنكته وذكائه واتساع أفقه الفكري، إذ أن المشورة وجمع وجوه الآراء والعمل بأصحها وأقومها يؤدي بالإنسان إلى التقدم نحو الأفضل، والتقليل من الأخطاء).

كذلك يجب أن يبتعد القائد عن أسلوب العنف في التعامل مع شعبه أو مع من يشاركه إدارة دفّة السلطة، وعليه أن يتحلى بالسمو الروحي الأخلاقي الذي يرفعه إلى القمم ويبعده عن الصغائر والتوافه، لأن المهمة الملقاة على عاتقه كبيرة وعظيمة، إنها مهمة الوصول بالأمة إلى مرفأ الأمان والسلام والرقيّ والتطور، وهو وحده القادر من خلال صلاحياته ومنصبه أن يأخذ بيدها إلى الطمأنينة والاستقرار للتفرغ للتقدم ومواكبة الأمم المتطورة.

يحدث هذا في حالة عدم مجافاة الناس، والابتعاد عن أساليب العنف كافة، فالقوة التي يمتلكها القائد لا تكمن في قدرته على البطش بالمحكومين، وإنما قوته تكمن في رحمته بهم، ومراعاته لحقوقهم، والتزامه بالحكم الأخلاقي الذي يراعي حقوق الأمة وليس البطش بها وحرمانها من حقوقها ومحاصرة حرياتها.

يقول الإمام الشيرازي:

(على القائد التحلي بالصفات التي تسمو به ليكون قائداً بحق يقود الأمة إلى ساحل البر والأمان ويأخذ بيدها إلى الخير والسلام آمنة مطمئنة، ويبتعد عن كل أساليب العنف والشر التي تجلب عليه وعلى أمته السوء والشر).

الأمة ومرحلة الكمال الروحي

إن ما يحدث اليوم في العالم من ظلم واحتقان وتوتر سببه تلك الحكومات وأولئك القادة المنكفئين على أنفسهم والمشغولين بمآربهم المتدنية، فهؤلاء بهذه الصفات العاطلة من الرحمة والخالية من الأخلاق، والبعيدة عن الفطرة الإنسانية، يسهمون بطريقة أو أخرى في تعكير الصفو الإنساني العالمي، ويشيعون منطق المصلحة والمنفعة الذاتية الغالبة والمفضَّلة على المصالح الأهم والأسمى، وهي مصالح المجموع التي ينبغي أن تتفوق على مصالح الساسة والقادة.

لذلك لا يصح للقائد انتهاج أسلوب الانعزال ومجافاة الناس والانغلاق، بل على العكس من ذلك يجب عليه الانفتاح على جميع الناس بغض النظر عن هويته أو انتمائه، فطالما كان ضمن مسؤوليته عليه أن يتعامل عليه بأسلوب الرحمة والابتعاد عن ظاهرة القيادة العنيفة التي أخذت تستشري في حكومات وقادة غير مؤهلين لقيادة الأمم والشعوب، وعلى هؤلاء القادة تصفّح سجلات التاريخ السياسي العالمي بدقة وتأنٍ شديد وتمعنٍ دقيق، حتى يفهموا ويستوعبوا أن أسلوب التعامل العنيف مع الآخرين لا يمكن أن يقود القائد للنجاح، كما لا يمكن أن يجعله في مأمن وفي ديمومة محمية في سدة الحكم.

كما ينبغي أن يكون القائد محفّزا لشعبه وأمته نحو بلوغ الكمال الروحي الذي يشكل قمة الهرم في البناء السليم للإنسان وللدولة، وهذه هي إحدى أهم الأهداف التي تقع على عاتق القائد بتحقيقها لأمته، ويحصل ذلك من خلال سبل عديدة في المقدمة منها نبذ أساليب العنف كافة في إدارة السلطة بجميع صلاحيتها، فالقائد الرحيم هو القائد القوي الناجح، وهو ليس القائد الضعيف كما يُشاع في بعض الأحيان.

ويذكر لنا التاريخ بوضوح أن أعظم القادة هم أولئك الذين كانوا رحماء بالآخرين، نابذين للعنف، مفضلين مصلحة الناس على مصالحهم، فصاروا بذلك نماذج خالدة على مر التاريخ، هذا هو النموذج الصحيح للقيادة الناجحة، ولابد لقادة اليوم المسلمين وغيرهم أن يتخذوا من شعار (اللاعنف في إدارة السلطة)، أسلوبا حاسما في إدارتهم لشؤون الدولة والأمة.

يقول الإمام الشيرازي:

(من شأن القيادة الصحيحة أن تهدي الناس إلى ما يوجب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وتسوق الناس نحو التكامل الإنساني والأهداف الإنسانية المنشودة والتي تتلاءم مع الفطرة النقية، وهي مرحلة الكمال الروحي).

مما تقدّم، لاحظنا تأكيدات الإمام الشيرازي على سمات القائد الناجح، وتأكيده على وجوب نبذ العنف ورفض البطش وحفظ الحقوق وأهمية مشاورة الآخرين، والأخذ بمبدأ التحاور والإفادة من عقول الآخرين والحرص كل الحرص بعدم التفرّد بالحكم.

اضف تعليق


التعليقات

نجاح العَمْري
العراق
كلام رائع وجميل ..
لكن يا حبذا لو كان فيه شواهد للصفات القائد من خلال الايات القرانية .. سواء كانت القيادة صالحة مؤمنة أم طاغوتية فاسدة .2019-04-08