إن صناعة الرأي العام لا يعتمد القوة ولا القسر ولا الإجبار، فقد تصنع لك القوة نصرا آنيا على الآخر، وقد يستسلم لك تحت منطق القوة، ولكن هذا النصر المادي لن يكون أبدياً، أما النصر الحقيقي فهو يتم عبر الأفكار والتحكم بالعقول وإقناعها بما تراه وما تريده...
لم تعد أساليب العنف واستخدام القوة بأشكالها المختلفة، مجدية في تحقيق النصر على الغريم أو الطرف المضاد، فاستخدام السلاح وحده كطريقة للتغلب على الخصوم بات طريقة قديمة، كان القدماءُ مغرمين بها، فيستخدمون وسائل الصراع القتالية المباشرة لتحقيق ما يهدفون إليه، اليوم في عصرنا الراهن برزت أشكال وطرائق أخرى لنشر رأيكَ ومنهجكَ وأسلوبك وجعله هو الأفضل والأقدر، ولكن ليس باستخدام القوة وحدها، بل هناك ما يُسمّى بالرأي العام، فمن يكون قادرا على صناعة رأي عام مناصر له ومقنع للآخرين، ويمتلك من الحجج التي تجعلهُ متفوقا على آراء الآخرين وأفكارهم، سيكون هو الأقوى والأقدر.
ولكن ما هو الرأي العام وما مدى أهميته في عالم اليوم، لاسيما أن الرأي العام يحتاجه الأفراد في صراعاتهم ومعاركهم الفكرية وحتى العضلية أو المادية، مثلما تحتاجه الجماعات المختلفة صعوداً إلى الدول في معاركها والأمم في صراعاتها الفكرية وسواها، فما هو المقصود بالرأي العام تحديدا بحسب آراء المفكرين والعلماء؟ والمختصين عموما.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمهُ الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الرأي العام ودوره في المجتمع):
(إن الرأي العام هو موقف جماعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً).
ونظراً لأهمية الرأي العام في بلورة وتوجيه القوى والإرادات في اتجاه مناصر للدولة أو الطرف الذي يخوض صراعا ما، فقد اهتمت القوى العالمية، الدول والأمم والحكومات، باستثناء المسلمين، بهذا الركن المهم من أركان كسب المعارك والمنازلات بمختلف أشكالها، والخطوة الأولى التي نالت الاهتمام أو العنصر الأهم هو الإعلام، فقد ركّزت الأمم والدول المتصارعة على وسائل الإعلام المختلفة وتوجيهها وإدخالها في معمعة الصراع، واستخدام أفضل الأساليب والطرق والوسائل الإعلامية إلى جانبها.
كما أنها فهمت بأن من يكسب الإعلام سوف يكسب الصراع في النهاية، والإعلام هنا يتم توجيهه نحو العقول لتنويرها وتوجيهها لغرض كسبها والحصول على دعمها، فيما يخص أهداف الأمة وخططها وما ترمي إليه في صراعها مع هذا الطرف أو ذاك، وسعيها للنجاح في هذا التوجّه أو ذاك، سواءً كان صراعا مع جهة أو دولة خارجية، أو حتى من أجل كسب معركة داخلية، فالإعلام له دور حاسم في صنع وتوجيه الرأي العام الذي سوف يتبلور بالنتيجة ليصبّ في صالح الدولة من خلال مناصرة الأغلبية لها ولأهدافها.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(لقد اهتمت الدوائر العالمية ـ غير المسلمين طبعاً ـ بوسائل الإعلام المختلفة لتوجيه الأفكار والعقول نحو خططها ومصالحها الخاصة، لكي تحقق مطامعها في الدول التي لم تصل إلى مستوى عالٍ من الكفاءة في إدارة الإعلام والاستفادة من الرأي العام لصالحها).
أساليب داعمة لصوت الحقّ
إن صناعة الرأي العام لا يعتمد القوة ولا القسر ولا الإجبار، فقد تصنع لك القوة نصرا آنيا على الآخر، وقد يستسلم لك تحت منطق القوة، ولكن هذا النصر المادي لن يكون أبدياً، أما النصر الحقيقي فهو يتم عبر الأفكار والتحكم بالعقول وإقناعها بما تراه وما تريده، فتزرع في العقول آرائك بالفهم والإقناع وكلما كانت مساحة الفهم أوسع، يكون الرأي العام الأكبر في صالحك، لذلك فإن صوت الحق والفضيلة والأفكار السليمة لا يمكن نشرها بالسلاح أو بالمعارك العسكرية، فهذا النوع من المعارك يحقق نصرا ماديا سيزول بمجرد أن يستردّ الطرف الآخر قواه.
ولكن إذا تم التغلب على الطرف الغريم من خلال الرأي العام عبر الإقناع، فإنه سوف يكون نصرا أكثر ثباتا من نصر السلاح والقوة والإجبار، حتى الأسلحة الذرية لا يمكنها إجبار العقول على أفكار ليست سليمة!.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الموضوع:
(إنَّ صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف).
لذلك يمكن القول بطريقة حاسمة أن صناعة الرأي العام لا يمكن أن تتم بالقوة، ومن يسعى لبلورة رأي عام مناصر له عليه اللجوء إلى استخدام الأساليب السلمية المقبولة والمعقولة، وتجنّب اعتماد القوة والإكراه، وفي حال تم كسب الرأي العام، فإن تحقيق الهدف والتغلّب على الطرف المناوئ سوف يكون محسوما، فالحوار الهادف، والاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي سوف يضمن كسب أكثرية العقول وبالتالي تحقيق النتائج المرتقبة من صناعة الرأي العام لصالحنا.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:
(يمكن إيصال الحق عبر الطرق السلمية المشروعة، من الأقلام والمنابر، ومختلف طرق الحوار الهادف، وعبر الاستفادة من أساليب الإعلام الموجه الحديثة، كالصحف والإذاعات والقنوات الفضائية والإنترنت، وغيرها).
تكوين جماعات مناوئة للتحريف
إننا كمسلمين نعيش في عالم يضجّ بالصراعات، وهناك من يرى من الإسلام والمسلمين عدوّا لهم، فالحضارة الغربية كما يقول بعض مفكريها لا يشكل لها ندّا سوى الإسلام، وبعضهم يقول إذا أراد الغرب أن يبقى متسيّدا العالم عليه أن يحد من خطورة الإسلام عليه، وبغض النظر عن مدى حقيقة هذه الآراء ومدى واقعيتها، لكنها بالفعل ترى في الفكر الإسلامي خطرا عليها، وهذا ينبغي أن يتم أخذه بالحسبان، ولابد من الاستعداد له، عبر تكوين راي عام إسلامي واعٍ وفاهم لما يدور حوله من أساليب الصراع.
إننا نحتاجُ إلى صناعة رأي عام من خلال التثقيف والتوعية الدائمة، ولابد من معرفة أهداف الآخرين ووضعها في الحجم الحقيقي لها، ولا يصحّ أن نتعامل معها بأقلِّ من حجمها وتأثيرها، إن الحرب التي يشنها الغرب هي حرب لكسب الرأي العام من خلال أساليب الغزو الثقافي واعتماد أدوات العولمة لنشر الفكر المزيّف، واعتماد الطرق والوسائل الإعلامية وفق طرائق منحرفة هدفها السيطرة على العقول وحرفها عن مبادئها، وبالتالي سوف يسهل عليها صنع رأي عام مؤيد لها ومناوئ للإسلام والمسلمين، لذلك ينبغي تحصين الرأي العام وتوعيته وتثقيفه وجعله في الصورة الصحيحة للأهداف المعادية ومصادرها.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:
(لابد لأمتنا من الحصانة الفكرية والإعلامية في هذا الخضم المتلاطم من التحوير والغزو الفكري والإعلام المزيف والصحافة المنحرفة.. ولابد للرأي العام من توجيه وإرشاد عبر العلماء والمثقفين).
إننا بالطبع لا نرغب بالحروب، ولا ندعو لها، مع أية جهة أو طرف كان، ولكن علينا أن ندافع عن أنفسنا ومبادئنا وثقافتنا وعقائدنا لأنها تشكل هويتنا وخصوصيتنا، ومن دونها سوف نتحول إلى مسخ لا هوية ولا شخصية له، لذلك نحن بحاجة إلى مقارعة التحريف الفكري عن طريق تكوين جماعات سلمية تقوم بهذه المواجهة الفكرية والثقافية لحماية الرأي العام والعقول من الانجراف فيما يخطط له الطرف المناوئ للإسلام، ولابد أن تتضح الأمور لهذه الجماعات لاسيما من يتصدى لهذه المهمة بأن دورها يتركّز على فضح الأفكار الغريبة والدعايات المزيفة، وصناعة رأي عام إيجابي يرفض -عن طريق الفهم والإقناع- كل الموجات الثقافية والفكرية المنحرفة.
يقول الإمام الشيرازي: لابد من (إيجاد الجماعات السلمية المضادة للتحريف والتحوير الفكري، لكي تصنع الرأي العام الإيجابي، وترد الدعوات الزائفة، وتفضح الدعايات الكاذبة).
اضف تعليق