التطورات السياسية في العالم الاسلامي وانعكاساتها على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وايضاً على قضايا الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، جعل من الحج فرصة للقاء بين المسلمين من مختلف بلاد العالم، وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وايضاً القضايا التي يواجهونها، فهنالك قادمون من بلاد ديمقراطية ومتقدمة في بعض الجوانب...
حج بيت الله الحرام، من الفرائض الدينية التي تستلزم السفر باعداد كبيرة صوب مكان واحد، وهو؛ مكة المكرمة، تصديقاً للآية الكريمة: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، (سورة الحج،27)، فالمسلمون من أي مكان بالعالم، يتوجهون الى هذه المدينة المقدسة، لأداء فريضة إلهية مرة واحدة في حياتهم، ثم يستحب لهم تكرارها في أعوام أُخر، ولم نقرأ في تاريخنا، وجود أزمة او مشكلة حصلت في طريق وفود الحجاج أو في اقامتهم بمكة المكرمة، وايضاً في المدينة المنورة، حيث كان المسلمون يتوجهون من بلادهم الى مكة المكرمة دون أن يوقفهم أحد.
ورب رافض للمقارنة بين الازمان البعيدة والزمن الحاضر، فعدد سكان المسلمين لم يكن بالرقم الكبير حالياً، وهذا صحيح، بيد أن امكانات ذلك الزمان ايضاً لا يمكن مقارنتها مع امكانات الزمن الحاضر، مع ذلك نشهد الشكوى والتأفف من زحام الحجاج والحاجة الى مزيد من الامكانيات، وما يرافق ذلك من تحديد رقم معين لكل بلد يسمح له بارسال حجاجه الى الديار المقدسة.
هذه السنّة السيئة التي وضعها حكام السعودية في الوقت الحاضر، تُضاف الى الحدود المصطنعة التي مزقت البلاد الاسلامية، بمعنى أن فريضة الحج ايضاً طالتها أيدي التمزيق والتفريق، كون الحج يمثل مناسبة ذات بعد اجتماعي عالمي، والى ذلك يشير سماحة الامام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي الذي يسترجع ذكرياته عن ذهاب المسلمين في ثلاثينات القرن الماضي الى الحج من دون ان يلزمهم جواز سفر او حدود او أي مانع آخر.
فما السبب في ذلك...؟
بداية؛ نقرأ ما جاء في هذا المقطع الصوتي الذي يعود الى ثمانينات القرن الماضي:
"رأيت قليلاً من الاسلام قبل خمسين سنة، والاسلام الذي نبحث عنه، ليس الصلاة والصيام والحج، وحسب، فهذا موجود وقائم في كل بالعالم، وحتى في اسرائيل، فلا مانع لديهم من أن تؤدي فرائضك الدينية، بل ونسمع من اذاعة اسرائيل تهنئة للمسليمن بمناسبة عيد الاضحى المبارك، كما تقام صلاة الجمعة هناك (في مدينة القدس)، إنما الاسلام الذي جاء به رسول الله، صل الله عليه وآله، وتم نسخه في السنوات الماضية، ومنها ذاك الاسلام الأصيل، ما يتعلق بسفر الحج، فقد رأيت بنفسي أن الناس كانوا يذهبون الى الحج من دون جواز سفر، كما كان السفر بين العراق وايران والشام والجزيرة العربية ايضاً من دون وجود لجواز سفر، لان لم تكن الحدود بين البلاد الاسلامية اساساً.
فالمسلون لم يعرفوا في ثلاثينات القرن الماضي، ما نشهده اليوم من اجراءات معقدة وغريبة من اجل السفر الى الحج، من أموال طائلة تودع في المصارف في حساب "الدولة" ومن الاجراءات الغريبة والعجيبة للحصول على الجواز الخاص للسفر الى الحج، وغير ذلك كثير.
وما أذكره جيداً، أن تكلفة السفر للحاج العراقي كانت آنذاك تسعة دنانير فقط، فيما اذا اراد العراقي السفر لزيارة الامام الرضا، عليه السلام، في خراسان، فعليه تسديد مبلغ عشرة دنانير فقط، وحتى اتذكر نوع الحافلات التي كانت تقل المسافرين آنذاك".
لماذا يخشون إطلاق اعداد الحجاج؟
التطورات السياسية في العالم الاسلامي وانعكاساتها على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وايضاً على قضايا الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، جعل من الحج فرصة للقاء بين المسلمين من مختلف بلاد العالم، وعلى اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وايضاً القضايا التي يواجهونها، فهنالك قادمون من بلاد ديمقراطية ومتقدمة في بعض الجوانب، بيد أنها بحاجة الى تأصيل للفكر والثقافة ليكون الاسلام مواكباً للتطورات العلمية والسياسية، فيما هنالك قادمون من بلاد الديكتاتورية المحتاجة الى دعم وتضامن للخلاص من أزمة الحكم العادل، كما هنالك القادمون من بلاد المهجر والمقيمين في بلاد الغرب، ومختلف بلاد العالم، وما يواجهونه من اشكالية الاندماج والهوية.
هذه اللقاءات من شأنها تبادل التجارب والافكار واثارة اسئلة عن السبل الكفيلة للتغيير او الإصلاح، مما يؤدي –بدوره- الى تجاوز السياسات المتبعة للانظمة الحاكمة وانتزاع حق التفكير من الحكام، يكفي الاشارة الى مثال بسيط من مناسك الحج، وتحديداً في مِنى، عندما لاحظت بنفسي أن خيام الحجاج العراقيين مرمية أقصى المنطقة بعيداً عن خيام المسلمين الآخرين، الى درجة أن وجدت منطقة مبيت الحجاج العراقيين خلف الخط الشرعي المرسوم على الارض المحدد لمنطقة منى، ولمن يريد المبيت عليه تجاوز هذا الخط للدخول الى مِنى!! وعند السؤال عن السر في ذلك، اتضح ان القضية تعود الى عهد النظام الصدامي البائد.
ولمن يلاحظ الاجراءات المعقدة والغريبة لاصدار جوزات السفر الخاصة بالحج، يجد انها تستهدف روح الحج ومحتواها الاساس، ومنها ما اشار اليه القرآن الكريم: (...ليشهدوا منافع لهم). فالمنفعة عامة وليست شخصية، بينما الحاج في أي بلد بالعالم يفكر كيف يوصل نفسه الى الديار المقدسة ويؤدي فريضة الحج، وقد سمعت بنفسي أن عدداً من الحجاج العراقيين دفعوا "رشوة" الى الموظفين المعنيين فقط للحصول على جواز سفرهم ولئلا يتعرض للفقدان ويذهب مقعده الى شخص آخر!
أما اذا كان السفر بنفس مطمئنة وراحة بال وروح ايجابية، فان الحاج سيفكر بما هو أكبر وكثر عمقاً من مجرد السفر والانتقال من بلده الى الديار المقدسة، من تقديم يد العون الى اخوانه المسلمين في أي مكان، او التعرف على المزيد من اوضاعهم ومشاكلهم، بل حتى الاستفادة من تجارب حياتهم.
هذا ما نلاحظه في مدينة كربلاء المقدسة وسائر المدن المقدسة في العراق عندما تستقبل ملايين الزائرين في مواسم الزيارة المليونية، ولاسيما في زيارة الاربعين التي باتت تفوق الحضور العالمي من حيث العدد، أعداد حجاج بيت الله الحرام، بيد ان المفارقة الغريبة، بين مدينة كربلاء المقدسة في شكلها الحالي، ومدينة مكرمة المكرمة وما تتمتع به من امكانات هائلة ربما يكون بامكانها ان تسع اعداد كبيرة من الحجاج، ولكن؛ لدى البحث في الانترنت وجدنا أن أعداد الوافدين الى الديار المقدسة لهذا العام بلغ 1مليون وحوالي 500الف حاج حتى تاريخ 14-8-2018، علماً أن المصادر الرسمية في السعودية تتحدث عن وجود اكثر من الفين فندق في مكة المكرمة والمدينة المنورة، مع كل ذلك، نجد المسؤولين السعوديين يحددون اعداداً معينة لكل بلد مسموح له بإرسال حجاج يؤدوا فريضة الحج.
هذا التحديد يجعل المعنيين في البلاد الاسلامية في مطلق الحرية للعبث بحقوق المسلمين في أداء هذه الفريضة، وقد سمعت من إمرأة كبيرة في السن، اشتكت الى الموظف في "هيئة الحج" من عدم ظهور اسمها في قائمة الحجاج، بأن هذا يعني "أنك غير مستطاعة، وتنطبق عليك الآية القرآنية: (...من استطاع اليه سبيلا)"!!.
نعم؛ من الممكن جداً على المسؤولين المعنيين في البلاد الاسلامية اعداد منهج خاص يخدم المسلمين الراغبين بأداء هذه الفريضة، وينظم الرحلات السنوية، كأن يعطي الأولوية لكبار السن، وايضاً لمحدودي الدخل ومساعدتهم الى أداء هذه الفريضة العظيمة، وتأجيل من يرغب بتكرار أداء مناسك الحج لحين الانتهاء من جميع المكلفين والمستطيعين في هذا البلد او ذاك.
اضف تعليق