ان الاقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة والبناء والاعمار لا يأتي فقط من دوائر الدولة، وإنما من احزاب ومنظمات ومؤسسات مجتمعية واقتصادية، كما هو الحال في الدول المتحضرة في العالم، حيث نلاحظ التنافس على تقديم الافضل وكسب الزبون، من ابسط الاشياء من مواد غذائية واساسية منزلية، الى مسائل الاتصالات والطيران والبناء وغيرها...
مقدمة:
عندما يتحدث المفكرون والعلماء والمصلحون، شفهياً أم كتبياً، فانهم يقدمون اطروحات ذات ابعاد واسعة تشمل مختلف جوانب حياة الانسان، فهم يناقشون الازمات في جذورها ومناشئها، وليس فقط في نتائجها الآنية وما يعاني منه الناس في الزمن الحاضر، ولذا نجد تلك الطروحات على شكل كتب يعاد طباعها عشرات المرات، يبحث عن أحفاد أولئك الذين كانوا يسمعون ويتابعون نشاطات ذلك المفكر او ذلك العالم المصلح في زمانه، وربما تعلموا ذلك من القرآن الكريم الذي يسرد قصص أقوام عاشوا قبل آلاف السنين، بيد ان الآيات الكريمة التي تبين طريقة حياتهم وأعمالهم ثم مآلاتهم، تقدم للقارئ عبر الزمن، القوانين والسنن الإلهية والمعادلات الثابتة، التي انطبقت على قوم هود الذين تعرضوا للعذاب والدمار بسبب جريمة قتل أقدم عليها شخص واحد لفصيل ناقة صالح، وهي تنطبق اليوم ايضاً على أي شعب او مجتمع يكرر خطأ قوم هود، وهي مسألة المسؤولية الجماعية.
وعندما نستمع الى احاديث سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- وايضاً الى مؤلفاته وهو يتطرق الى ما يجب ان يكون الوضع في عراق المستقبل، يتجلى امامنا المنطق القرآني، وقد أجمع العديد من الباحثين على أنه –رحمه الله- صاحب نبوءات عدّة عما يجري في العراق اليوم من فقدان للأمن والاستقرار وتفشي الفساد والمحاصصة وأزمات خانقة لا تُعد.
وفي هذا المقطع الصوتي يستضيف سماحة الامام الشيرازي وفداً من المشاركين في الانتفاضة الشعبانية، هاجروا الى ايران بعد عمليات القمع الوحشي من قبل عناصر الطاغية البائد، وذلك في شهر نيسان عام 1991، ويقدم سماحته للضيوف خمسة عوامل بامكان العراق من خلالها النهوض من جديد وتحقيق الازدهار والامان والتقدم.
الانتصار في صدق النوايا
بعد الترحيب بوفد مجاهدي الانتفاضة الشعبانية والدعاء لهم بالعودة الى العراق سالمين غانمين، يستهل سماحته حديثه بأن "جهادكم مشكور، وعملكم مبرور، وانتفاضتكم مباركة، وهذه الانتفاضة ستستمر في العراق حتى تعطي النتيجة الكاملة، ومن عادة الأمم التي تنهض وتنتفض فانها لن تسكن حتى تنتهي الى نتيجة طيبة.
ثم يؤكد سماحته للمنتفضين بأن الصدق في النوايا، هو ما توفرت عليه الانتفاضة الشعبانية وما حمله المنتفضون في نفوسهم، واستشهد بحديث للإمام علي، عليه السلام، بأن "...فلما عرف الله منّا الصدق أنزل علينا النصر"، واضاف: "بأن وجودكم هنا (في ايران) دليل صدقكم، وسقوط الشهداء في هذه الانتفاضة، هو دليل صدقكم ايضاً، كما ان هجرتكم وتهجيركم، دليل على صدقكم، بل وخراب بلادكم هو دليل على صدقكم ايضاً، فيصدق عليكم حديث الامام علي، عليه السلام".
ثم توجه سماحة الامام الشيرازي الى الضيوف بخمس قضايا تصنع مستقبل العراق ايجابياً:
أولاً: التوكل على الله –تعالى-
وأوضح سماحته الحقيقة الثابتة التي بينها الله –تعالى- في القرآن الكريم، بأن كل شيء في الحياة والكون صائر اليه لا محالة، لذا ليس للانسان إلا ان يتوكل على الله –تعالى- وليس الى غيره، وتلى الآية الكريمة: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
ثانياً: دولة الاكثرية الشيعية
أكد سماحة الامام الشيرازي على ضرورة ان يكون الحكم في العراق بيد الاغلبية الشيعية بحكم النسبة الاكبر لسكان العراق، وقال: "يجب ان نعرف أن حكم الاكثرية هو الواجب في حكم الاسلام، لان الاسلام يعتمد على الاكثرية، وبناءً على هذا، فان الحكومة المستقبلية في العراق يجب ان تكون شيعية، بمعنى أن تكون الاذاعة والتلفزيون، والاوقاف، والمدارس، والجامعات، والجيش، وجميع مرافق الدولة يجب ان تكون ذات صبغة شيعية، نعم؛ نعطي لأخواننا السنة حقوقهم، ولاتعني الاكثرية انتهاك حقوق الاقلية، وانتم ابناء الاكثرية، قدمتهم التضحيات والدماء، وتعرضتم للاعتقال والاعدامات والتشريد كونكم شيعة، لذا يجب ان تكون الحكومة المستقبلية شيعية، وأنتم اعوانها ورجالها، سواء في الدوائر الحكومية، او في القوات المسلحة، او ضمن شريحة المثقفين، ثم إن مراعاة حقوق الاكثرية يقره القانون الاسلامي، كما يقره القانون الديمقراطي".
ثالثاً: حرية الاحزاب الوطنية
دعا سماحة الامام الشيرازي الى ان يكون في عراق المستقبل حرية للاحزاب الوطنية والتي عرفها بانها "التي تريد بناء البلد، من مستشفيات ومطارات، ومنشآت خدمية وغيرها، لذا يجب ان تسود في العراق حرية الاحزاب؛ من اسلامية و وطنية، ثم يسود بين هذه الاحزاب التنافس المشروع، لان الله –تعالى- جعل التنافس في كل شيء، حتى في الوصول الى الجنة، قال –تعالى-: {...وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ}، ويكون التنافس في الانتخابات البلدية والنيابية على تقديم الأفضل، فيأتي الاكفأ فالاكفأ، ولدينا في بعض المصادر العلمية، أن الاحزاب كانت موجودة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقد صنعهم النبي بنفسه؛ فكانت هنالك احزاب اسلامية، كما كانت هنالك احزاب وطنية".
رابعاً: الشورى في المرجعية الدينية
يبين سماحته في هذه النقطة بأن "العراق مهوى قلوب الشيعة في العالم، بوجود الأئمة المعصومين، عليهم السلام، في المدن المقدسة، وبوجود الحوزة العلمية، وبوجود الفقهاء والعلماء والصالحين، وهذا يستوجب ان تكون القيادة المرجعية بشكل شوروي، وقد مدح الله –تعالى- المسلمين بأن {... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، فأن يقلّد الناس المراجع المتعددين فهذا حسنٌ، فيما يتعلق بالصلاة والصيام وسائر الاحكام الاسلامية، ولكن؛ في القضايا العامة التي تهم الشيعة والمسلمين في العالم، فيجب ان تكون ثمة شورى بين مراجع الدين، والنبي الكرم، وهو متصل بالوحي والسماء، مع ذلك، فان الله –تعالى- يأمره بأن يستشير الناس، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}.
رابعاً: وبما أن في العالم اليوم حوالي 700مليون شيعي في العالم، بما يعني نصف نفوس المسلمين في العالم، والعراق مهوى قلوب هؤلاء الشيعة، الامر الذي يستدعي ان تكون المرجعية الدينية لجميع هؤلاء الشيعة بشكل شوروي".
خامساً: إعادة بناء العراق
"تعرض العراق للهدم مرتين؛ الاولى في غزو الكويت، والثانية في هذه الانتفاضة الشعبانية، فعليكم انتم تحمل مسؤولية بناءه من جديد، وعلى كل شخص الاسهام في عملية البناء بما يليق بشأن العراق، حتى يعود الى العراق الرخاء والأمن والسلام، بحيث يجد جميع افراد الشعب فرص العمل، وفي الحديث الشريف: "من لا معاش له لا معاد له".
هذه الأمور الخمسة أمانة في اعناقنا، وهي أمانة في اعناقكم ايضاً عندما تعودون الى العراق انشاء الله تعالى، وكل واحد مسؤول عن هذه الامور الخمسة".
فقدان معادلة الحقوق والواجبات في العراق
لو غظينا النظر عن نمط الحكم في العراق وهويته، كون القضية لا ترتبط بإرادة مرجع دين ولا بجماعة سياسية مهما كانت متنفذة ومؤثرة، سواءً ذهب الى الشيعة أم بقي بيد السُنة، وإنما يخضع لمصالح اقليمية ودولية، الى جانب الواقع الاجتماعي على الارض، لوجدنا أن المشكلة في العراق تعود بالدرجة الاولى الى فقدان حالة التوازن والتعاطي المرن مع القضايا ذات الاهتمام المشترك بين عامة الشعب العراقي، وهذا يشير اليه سماحة الامام الراحل في هذا المقطع الصوتي.
فالحريات السياسية، والشورى في القيادة المرجعية الدينية، وإعادة البناء، تستدعي حالة من العدالة والانصاف في التعامل مع الازمات والبحث عن حل لها، فالمطلوب في العراق ليس فقط أن يكون الحكم شيعياً، وان تكون الاكثرية هي الحاكمة، وإنما القضية أبعد من ذلك بكثير، فهي تشمل أبعاد واسعة من الحياة ليتسنّى لهذا الحكم الجديد (الشيعي) أن يحقق الامن والاستقرار، ليس للشيعة والاكثرية وحسب، وإنما لجميع افراد الشعب العراقي.
وقد أجمع المفكرون والعلماء على أن اللامسؤولية الجماعية والتمحور حول الذات وما تستدعيه من مصالح ورغبات، هي من السمات البارزة للشعب المتخلف، بينما نلاحظ العكس، في شعوب خرجت من حروب أهلية وخارجية مدمرة وهيمنة استعمارية، وهي تستند على ثقافة المسؤولية الجماعية، والالتزام بمبدأ وقانون الحقوق والواجبات، من أبسط فرد في المجتمع الى أهم فرد، من حيث العلم والمال والوجاهة الاجتماعية، ففي بلاد مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، نشاهد تخلّي القيادة عن النزعة الفردية، وإفساح المجال أما ابناء الشعب للعمل والانتاج والتملك ايضاً، وزرع الشعور بالمسؤولية في نفوس جميع افراد الشعب بلا استثناء، بانهم مسؤولون عن تقدم وازدهار بلدهم، كما أنهم ربما يكونوا عامل هزيمة وانهيار لبلدهم.
وإذن؛ فان الخطوة الشجاعة امامنا – من جملة خطوات- في العراق للخروج من كل ما نشهده من أزمات ونكبات، الالتزام بمبدأ الحقوق والواجبات، فكما يبحث الشعب عن حقوقه من خدمات وأمن و فرص عمل وسكن، فان عليه واجبات الالتزام بالنظام والقانون واحترام حقوق الآخرين، ليسهموا بشكل حقيقي في بناء بلدهم، وتحقيق الازدهار لانفسهم. و ذات الامر ينطبق على الاحزاب السياسية وأهل الحكم الذين يجدون من حقهم التسيّد وفق معادلة الاكثرية، فان عليهم الاقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة فالبناء والاعمار لا يأتي فقط من دوائر الدولة، وإنما من احزاب ومنظمات ومؤسسات مجتمعية واقتصادية، كما هو الحال في الدول المتحضرة في العالم، حيث نلاحظ التنافس على تقديم الافضل وكسب الزبون، من ابسط الاشياء من مواد غذائية واساسية منزلية، الى مسائل الاتصالات والطيران والبناء وغيرها.
اضف تعليق