ليس دائما تعمل الدولة بالحكمة ولا لنفع المجتمع، وإن كانت ترفع هذا الشعار غالبا، سواء أكان في الدولة الاستبدادية أو الدولة الديمقراطية. إذ في الدولة الدكتاتورية إنما يكون العمل للحاكم الأخذ بزمام الحكم، وفي الدولة الديمقراطية إنما يكون العمل للأكثرية لوضوح أن تعارض مصالح الجماعات...
قد يُطلق مصطلح (الدولة) فيراد به (السلطة التنفيذية) فيقال إن الدولة أنشأت المدينة الفلانية، أو أن الدولة تعقبت الجناة؛ فألقت القبض عليهم. وقد يُطلق مصطلح (الدولة) فيراد به كل مؤسسات الدولة، سواء التشريعية أو التنفيذية أو القضائية. فيقال إن الدولة شرعت قانون الحريات العامة وطبقته، وأن الدولة حكمت على فلان لأنه خرق قانون الحريات وتجاوز الآداب العامة، حيث يقصد هنا مجمل أجهزة الدولة. وقد يُطلق مصطلح (الدولة) فيراد به ما يشمل الأمة أو الشعب أيضا. فيقال دولة العراق ودولة الكويت. فان الدولة يراد بها حينئذ - بالإضافة إلى سلطاتها الثلاثة- مجموع السكان. والدولة المقصودة هنا هي الدولة بالمعنى الثاني، أي مجموع القوى السياسية والتشريعية والقضائية وتشكيلاتها الفرعية التي تقود البلد وتديره.
والسؤال الأهم هنا كيف تكون الدولة بمؤسساتها المختلفة دولة صالحة، منبثقة من الشعب، خادمة للناس، وأعمالها مرضية عند أكثرية مواطنيها؟ وكيف يمكن أن تكون الدولة بمؤسساتها المختلفة دولة طالحة، ظالمة لشعبها، وأعمالها مرفوضة ومستنكرة عند أكثرية مواطنيها؟
يرى المرجع الراحل الإمام محمد الشيرازي أن على الدولة (الحكومة) تحري الغرض الصالح، لحفظ مصالح الأمة والتقدم بها إلى الإمام، والغرض الصالح يتجلى في ثلاثة أمور:
الأول: أن يكون الهدف مطابقا للعقل والمنطق (وفي الدولة الإسلامية يكون مطابقا للإسلام أيضا) بان تكون الدول عاملة للحسن في كل الشؤون، مجتنبة عن القبيح، فيوجب عملها حفظ الأنفس والأعراض والأموال للكل، فلا استبداد؛ ولا اعتباط؛ ولا ترفيع أو تخفيض لفرد أو جماعة على حساب الآخرين، ومن خرج عن القانون العقلي والشرعي (في الدولة المتشرعة) عوقب بقدر خروجه بما يقتضيه العقل والشرع فقط.
والثاني: أن يتجه الهدف الطيب للدولة لصالح الفرد، وذلك بتأمين المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمركب والدواء؛ والزواج له إلى سائر حاجاته؛ وحفظه من الخوف والقلق، ثم بحفظ حقوقه بعدم تعدي الآخرين عليه؛ سواء كان المعتدي في الخارج كالدولة الأجنبية؛ أو في الداخل كالسراق؛ ومن إليهم، ثم بتهيئة وسائل الإنماء والتقدم بما يكفل النهوض به. فقد قال علي عليه السلام في حكمة بعثة الأنبياء (ليثيروا لهم دفائن العقول) وقد ورد في الحديث أيضا (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
والثالث: أن يتجه الهدف الطيب للدولة لصالح الجماعات، سواء كانت جماعات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو صحية أو غيرها، وليس للدولة في نظر الإسلام التدخل في شؤون الجماعات أو وضع قوانين لها وتقييدها بقيود إطلاقا، إلا يما يوجب الضرر على الآخرين بما لا يجوز تحمله شرعا.
فإذا اتبعت الدولة (الحكومة) سياسة العقل والمنطق، وحققت مصالح الأفراد والجماعات دون التدخل في شؤونهم، أو الحد من حريتهم، إلا بما يوجب وقوع الضرر على الآخرين؛ فتتدخل لرفض ذلك الضرر، تكون الدولة دولة صالحة ومرضية عند عموم أبناء الأمة، والعكس صحيح أيضا، فليس دائما تعمل الدولة بالحكمة ولا لنفع المجتمع، وإن كانت ترفع هذا الشعار غالبا، سواء أكان في الدولة الاستبدادية أو الدولة الديمقراطية. إذ في الدولة الدكتاتورية إنما يكون العمل للحاكم الأخذ بزمام الحكم، وفي الدولة الديمقراطية إنما يكون العمل للأكثرية لوضوح أن تعارض مصالح الجماعات وعدم إمكان جمعها يجعل الدولة ترجع العمل لمصالح الأكثرية على حساب مصالح الأقلية.
في الواقع، يفرق الإمام الشيرازي بين نوعين من الدولة، فيرى أن الدولة الاستبدادية لا يمكن أن تكون دولة صالحة، ذلك لأن الدولة الديكتاتورية غير مرتبط بالشعب، ولذا؛ إذا تحدث الناس عن الحكومة جاءوا بضمير الغائب، فقالوا (هم فعلوا) أو (هم قرروا) أو (هم منعوا) بينما يرى أن الدولة الديمقراطية أو الاستشارية يمكن أن تكون دولة صالحة، ذلك لأن الحكومات الاستشارية (الديمقراطية) مرتبطة بالشعب، بل هي جزء منهم، ولذا يأتي الناس بضمير المتكلم فيقولون (نحن قلنا) أو (نحن عملنا) والسر واضح؛ إذا أن في الحكومة الاستبدادية لا يكون العمل للناس، فلماذا يقولون (نحن) بينما في الحكومة الاستشارية الناس يصنعون القرار بأكثرية الآراء مباشرة، كما في انتخاب رئيس الجمهورية والنواب، أو نوابهم يصنعون القرار، وصنع الوكيل صنع الأصيل. ولذا يقولون (انتخبنا) و(قررنا) والأقلية التي لم تنتخب أيضا تنسب إلى نفسها، لأنه قبلت بأن الأكثرية إذا حكمت فالحكم حكمها، فالمنتخب انتخب حسب قبولها الأكثرية.
ومع ذلك؛ يستدرك الإمام الشيرازي، فيقول: ليس كل الحكومات الديمقراطية أو الاستشارية هي حكومات صالحة، ومقبولة عند الناس، فالانتخابات ليست دليلا كافيا على وجود حكومة صالحة ممثلة على نحو الحقيقة للأمة؛ فان الناس قد ينتخبون إنسانا، ثم يسئ التصرف فيعزل، فان أمكن تنحيته وإلا تنحوا عنه، وحينئذ لا يقولون (قررنا) بل يقولون (قرر) كما أن الناس قد يبقون مع الحاكم، لكنهم يخالفون قراره، وحينئذ لا يقولون (قررنا) بل يقولون (قرر).
ولهذا يشترط الإمام الشيرازي لتكون الدولة (الحكومة) دولة صالحة، وممثلة لإرادة الشعب، ثلاثة شروط هي: (1- أن يكون الحكم استشاريا.2- إذا بقي الشعب مع الحاكم.3- أن يكون الشعب مع القرار)، والحاكم إذا فقد أحد هذه الثلاثة، فهو غاصب لحق الأمة، مهما تردى برداء النزاهة؛ لان الحق حق الأمة، فكيف يأتي أو يبقى أو يتصرف بدون رضاهم، وفي الإسلام شرط رابع وهو أن يكون الحاكم مرضيا لله ولرسوله.
نخلص مما تقدم إن على الدولة بقواها الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية مسؤوليات أساسية، لابد أن تقوم بها، وهي واجب عليها للأمة، فان قامت بها على الوجه الصحيح والسليم، تكون الدولة دولة صالحة وخادمة للأمة، وبسببها تكون الأمة رشيدة، وإن قصرت وتخاذلت، ولم تقوم بمهامها، سواء قصر بعض السلطات أو كلها، فان الدولة بمجموعها تكون دولة ضارة ومعطلة لمنافع الأمة ومصالحها، وبسببها تتخلف الأمة وتتأخر عن مستقبلها.
وفي هذا الإطار حدد السيد محمد الشيرازي عدة مهمات للدولة بقواها الثلاثة، وهي مهمات لابد أن تقوم بها لمصلحة الناس، وهي:
1. تطبيق القوانين: الواجب الأول والأهم للدولة هو تطبيق القوانين التي تشرعها، فعلى الدولة أن تطبق نصوص القانون على الأمة، ولا تحيد عنها إرضاء لفئة أو لحاكم، ولا يجب أن يحد الحاكم عن تطبيق القانون إلا لضرورة من خلال اللجوء إلى القوانين الثانوية الاستثنائية على قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو قاعدة (الأهم والمهم)، ومنها ما إذا رأى الحاكم الذي بيده الأمر الصلاح في العفو أو ما شابه ذلك، كما عفي رسول الله صلى عن أهل مكة، وكما عفي علي عليه السلام عن أهل البصرة. ويرى الإمام كما أن أفراد الأمة ملزمون بتطبيق القانون واحترامه، فان مؤسسات الدولة وموظفيها هم أيضا ملزمون بتطبيق القانون واحترامه، فإذا لم تعمل جهة من جهات الدولة بالقانون عوقبت على ذلك العقوبة القانونية اللازمة كما يعاقب الافراد غير الملتزمين.
2. مراعاة حقوق الإنسان: يرى الإمام الشيرازي أن من أهم واجبات الدولة بمؤسساتها المختلفة هي مراعاة حقوق الإنسان، حيث يقول (وحقوق الإنسان هي مستقى القانون، سواء في الإسلام، أو في الدول الديمقراطية، أما الدول الديكتاتورية فمستقى القانون فيها رأي الديكتاتور، فالإسلام جعل الإنسان محور العالم. قال سبحانه وتعالى (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) وفي الحديث القدسي (خلقت الأشياء لأجلك وأنت خلقتك لأجلي،) وحيث أن القانون الإسلامي وضع لأجل الإنسان؛ فالقاسم المشترك في قوانين الإسلام السياسية والاقتصادية والعبادية والجزائية والشخصية هو فائدة الإنسان إبقاء وإنماء).
3. مراعاة العدالة والإحسان: المراد بالعدالة في اصطلاح القانون هو ما يسميه الإسلام (بالإحسان) والاصطلاح الإسلامي أقرب إلى الحقيقية. وكيف كان فهناك (مساواة) و(عدل) و(إحسان) قال الله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فالمساواة معناه التساوي، وقد يكون التساوي عدلا، وقد لا يكون عدلا. فإذا ساوى الأخوين في الإرث كان تساويا وعدلا؛ وإذا ساوى الكبير والصغير في إعطاء قماش اللباس كان تساويا لا عدلا؛ وإذا أعطاهما متفاوتا كلا بقدر حاجته كان عدلا لا مساواة.
4. توفير الرفاهية للأمة: يرى السيد محمد الشيرازي أن الرفاهية التي هي واجبة على الدولة بقواها الثلاثة، هي عبارة عن أن يكون التشريع والتنفيذ والقضاء موجبا للرفاه بقدر الإمكان، فالقانون يلزم أن يكون بحيث يسبب وجود العمل لكل عامل، ويجعل الأجر المجزي الكافي لكل عامل مع وضع ساعات العمل بقدر اليسر لا بقدر العسر، وتكون للعمال الإجازات والعطلات... وتسهيل وسائل الزواج بإعطاء المزيد لذلك منحا وسلفا... وتسهيل وسائل العلاج والدراسة والسياحة وما أشبه ذلك مثل المدارس والمستشفيات ودور العجزة والحدائق ودور الرياضة وترطيب الهواء بالتشجير وتكثير المياه في المناطق الحارة ومد الجسور والطرق وتكثير وسائل المواصلات...
5. مراعاة حسن التدبير: ويأتي بعد ذلك حسن التدبير من الدولة في الشؤون العامة والخاصة، وذلك إما بالعمل الإيجابي بان تسهر الدولة على صالح الأمة، وتبادر إلى إنجاح طلبها وإسعافها في الساعات الحرجة، فالدولة ليس إلا خادمة للأمة ووكيلة لها، والدائرة ليست محل إهانة المواطن وإرهاقه، بل محل إكرامه وتسهيل أمره، فعلى الموظف أن يسرع في إعطاء المراجع حاجته، وفي إرشاده إلى موضع حاجته إن لم تكن حاجته عنده. وإما بالعمل السلبي؛ وذلك بان لا يوضع القانون ولا ينفذ القانون الذي يبنى على التعسف والتجاوز، وما يوجب عدم أمن واستقرار المواطن من جهة نفسه أو ماله أو عرضه، فان اللازم على الدولة أن تكون بحيث يشعر المواطن تحت لوائها بالراحة الجسدية والفكرية، لا بالقلق والعذاب، ولا يسمح للدولة بأي حال من الأحوال أن تفضل مواطنا على مواطن، وطبقة على طبقة في جعل القانون أو تنفيذه، بل اللازم عليها النظر إليهم على حد سواء.
6. مراعاة النظام: فان القانون العادل وتطبيق القانون على الدوائر لا يكفي في سير النظام على ما يرام، بل اللازم حسن التدبير في الإدارة، وصنع جهاز المراقبة والتنسيق والكفاءة وما أشبه ذلك، فالأجهزة الثلاثة للدولة (التشريع والتنفيذ والقضاء) لابد أن تسود فيها روح تسيرها على أحسن وجه، وذلك بان تمكن تلك الروح من إعطاء الدولة حقها وإعطاء الفرد حقه.
.....................................
اضف تعليق