ما الذي جناه الحكام ممن كانوا معولاً لتدمير الكيان الاجتماعي؟ وما الذي جناه من كان عاملاً لجمع الناس وتماسك المجتمعات والشعوب؟، لا نتحدث كثيراً النموذج الاول، فنحن بحاجة الى النموذج الايجابي الذي ينقذنا من التشرذم والتفرق والتي تعد أحد عوامل الازمات التي تعيشها شعوبنا الاسلامية، وأعظم نموذج مشرق؛ النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، الذي تمر هذه الايام ذكرى مولد الشريف، فقد كان جمع الناس مع اختلاف انتماءاتهم ومستوياتهم تحت خيمة الرسالة والدين، من معاجز النبي الأكرم أقرّ له بها معظم المفكرين والباحثين في العالم.
وفي السطور التالية التي تقرأ المقطع الصوتي لسماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- تأكيد من سماحته على الاهمية العظمى لمنهجية الجمع بين مكونات المجتمع كأحد عوامل نجاح وبقاء الانظمة السياسية، والعكس صحيح تماماً؛ حيث ان منهج التفريق والتمزيق، ربما يفيد الانظمة الديكتاتورية لبعض الوقت، بيد أنه يتسبب في نشر الكراهية وترسيخ ثقافة "الأنا" واللامسؤولية إزاء الجماعة، ومن ثمّ لن يذوق الشعب طعم الحرية والاستقلال والكرامة والوحدة ايضاً.
يقول سماحة الامام الشيرازي:
"من أهم ما يجب علينا عمله؛ جمع الناس، وهذا ما يمكن أن نستلهه من سيرة رسول الله، صلى الله عليه وآله، عندما كان يجعل من الكافر منافقاً ومن المنافق مؤمناً، وهذا يعد من أجمل الخطوات التي اتخذها رسول الله في مسيرته، فقد كانت له قدرة هائلة في جمع الناس، وهذا ما مكنه من صنع قوة كبيرة تقف بوجه أعدائه.
إن أولى مهام الانبياء والأئمة؛ جمع الناس، وهل يعني جمع الناس ان يكونوا من امثال سلمان وأبوذر الغفاري؟ كلا، بل الانبياء والمرسلين كانوا يقتنعون بالواحد من المئة من الناس، بمعنى أن النبي يكتفي بنسبة واحد بالمئة من الصلاح في نفس كل انسان، وليبقى له نسبة تسة وتسعين من الضلال والكفر، أما اذا بلغ النسبة مئة بالمئة، حينئذ يقاتله النبي الاكرم، وقد جاء في الآية الكريمة من سورة نوح، على لسان هذا النبي العظيم، عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}. بمعنى أن العذاب ينزل من السماء عندما تنعدم كل الاحتمالات بوجود الإيمان في النفوس، فحتى لو أمهل الله قوم نوح مئات السنين، لتعاقب الكفر في أجيالهم الواحد بعد الآخر، وفي آية أخرى تأكيد على هذه السنّة الإلهية: {...لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، بمعنى أن يزول من اصلابهم أي احتمال بالصلاح، آنئذ ينزل العذاب الإلهي.
ولابد من الالتفات الى أن عملية جمع الناس سهلٌ في القول، لان في المجتمع اتجاهات وآراء مختلفة، فمنهم من يبحث عن الشهرة، ومنهم من يبحث عن الشهوة وهكذا، وعندما يقول النبي الأكرم: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت" إشارة الى هذه الحقيقة، لان جمع التناقضات من أصعب المهام، بمعنى أن تجمع بين أبي ذر الغفاري المخلص للدين مئة بالمئة، وبين أبو هريرة المخلص للدنيا مئة بالمئة! او تجمع بين علي بن أبي طالب، الذي لا يرى ينحرف عن الحق مقدار شعرة واحدة، وبين معاوية!
ان المجتمع خليط غير متجانس من المنحرفين اخلاقياً، والمنحرفين فكرياً، ومن البسطاء، ومن العلماء، ولابد من جمع هؤلاء في إطار واحد، فليس بالضرورة ان تعيش مع اثنين من الاصدقاء ممن هم مثلك في الاخلاص والايمان، وإنما تقيم العلاقة مع من هو مثل أبو سفيان الذي لم يؤمن بالله قط، ومن هو مثل أبو ذر الغفاري، الذي يضحي ويموت جوعاً من اجل الدين والايمان بالله.
ثم ان تعلم هذا الامر من رسول الله، ومن الأئمة المعصومين، عليهم السلام، أمر صعب، وتطبيقه على ارض الواقع أصعب بكثير، لان جميع الناس يظهرون التديّن والالتزام بالفرائض، بل ويشاركون في الطقوس العبادية والدينية والزيارات، سواءً المؤمن منهم والمنافق، إنما المهم استيعاب هذا الجمع وصهرهم في بوتقة واحدة لتحقيق خدمة للدين والأمة، كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله.
ينقل أن الرئيس العراقي الاسبق عبد السلام عارف، جمع شخصيات بارزة في العراق للتشاور معهم فيما يجب فعله لإدارة البلاد، وفتح باب المداخلات للحاضرين ليدلي كلٌ برأيه، وكان بين الحاضرين شخصية بارزة يدعى عبد العزيز العقيلي، وكان مرشحاً لأن يكون رئيساً للوزراء، فقال له متسائلاً: ما صانعٌ أنت بالعراق...؟! فقال عبد السلام عارف: وكيف...؟! قال: انك تقسم الشعب العراقي الى اسلامي وشيوعي ورأسمالي وقومي وإقطاعي و.... فهل تتمكن بتفريق الناس من قيادة البلاد؟!
ما أروعها من كلمة (تفريق الناس) تخرج من فم هذا الانسان، بغض النظر عن نواياه واهدافه، ولنا ان نتسائل:
هل الجبهة الدينية من خلال تفريق الناس ان تحقق شيئاً؟!
الآية القرآنية تجيب على هذا السؤال: {...وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}، وفي آية أخرى يوضح الله –تعالى- هذه الحقيقة؛ {...فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فأيّ كلمة هذه (كلاً وعد الله الحسنى)! بمعنى أن النبي جمع الناس وفضل بعضهم على بعض بالجهاد، ولكن؛ يبقى لكل شخص فرصة من الله بالتغيير والصلاح، وهذا ما كان يتجسد في القوة العسكرية للنبي الأكرم، التي كانت تضم المؤمن والمنافق، لذا نلاحظ في التاريخ ان حوالي ثلثمائة شخص انسحبوا من احدى الغزوات، فجاءت الآية الكريمة بتقريعهم: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ...}، ورغم أن الفرار من الزحف والقتال بين يدي رسول الله، يعد معصية عظمى، إلا ان هؤلاء كانوا مجموعون تحت خيمة النبي وتحت خيمة الرسالة.
إن جمع الناس لا يكون بأداء الصلوات جماعة أو من خلال الصيام وغيرها، وإنما من خلال معرفة السيرة النبوية، فينبغي أولاً: مطالعة هذه السيرة بدقة عالية، لنفهم كيف عاش النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على الأقل نطالع عشرة كتب عن حياته الشريفة، وثانياً: الاهتمام بفقه السيرة، بمعنى فهم العلاقة بين الاحكام، ولماذا عمل النبي هذا العمل، ولم يعمل بذاك العمل. يقول الامام الصادق، عليه السلام: "أنتم أعلم الناس اذا عرفتم معاني كلماتنا".
البعض من الناس، لمجرد سماعة حديث معين، يسارع الى إنكاره، بينما اللازم؛ التحقيق والبحث والمراجعة، فهنالك الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيّد، وغير ذلك كثير".
ما الذي يجمع الناس؟
من يفكر بالسلطة والحكم، وبمستقبله السياسي، لن يفكر بمستقبل شعبه مهما ادعى، فهو يتوسّل بأقصر الطرق للوصول الى مبتغاه، وإن كان على حساب الشعب في قادم الأيام، لذا نجده يثير الرغبات النفسية الجامحة مثل؛ حب المال والجاه والشهرة وحتى الجنس لاستمالة افراد المجتمع وجمعهم حول شخصه، يلهجون باسمه، ويرفعون صوره في كل مكان، ويجرون خلفه مصفقين يهتفون لحياته، فهم مجتمعون متحدون حوله.
واثبتت التجارب ان الحاكم الديكتاتور لم يتمكن من الوقوف يوماً واحداً على قمة السلطة إلا بواسطة تفريق شرائح المجتمع وتمزيق أواصر الأسرة والعائلة، ومن ابرز هؤلاء صدام، الذي بلغت به الصلافة أن يفتخر ويتباهى على شاشة التلفاز بان لديه مواطن عرافي يقتل ابنه الهارب من الخدمة العسكرية! أو ان يكون الطفل الصغير مخبراً علنياً وليس سرياً على أبويه وسائر افراد الأسرة وما يتحدثان به داخل البيت، وايضاً تسميم العلاقة بين الطالب والمعلم، وبين الموظف والمراجع وبين سائر افراد المجتمع، هذا فضلاً عن خلق الفجوات العرقية والطائفية في كيان الشعب العراقي.
ان منهج الجمع بين المكونات الاجتماعية التي يدعو اليها سماحة الامام الشيرازي مستلهماً من سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، انما ترمي الى فائدة المجتمع نفسه، فقد تحول عرب الجزيرة العربية من قبائل متناحرة "شعارهم الخوف ودثارهم السيف"، معرضون دائماً لهجمات القوى الكبرى آنذاك، الى قوة عسكرية قاهرة يخشاها الشرق والغرب، وقد استفاد من هذه الكرامة؛ المؤمن والمنافق، والفقير والغني، الحر والعبد، فما هي العوامل التي جمعت هؤلاء تحت خيمة الاسلام؟
الباحثون في شأن السيرة النبوية يشيرون الى عوامل عدّة استفاد منها الرسول الاكرم، أبرزها؛ تحطيم الحواجز النفسية بين الناس من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والانصار لدى وصوله يثرب (المدينة) مهاجراً من مدينته مكة، وإلغاء جميع الفوارق الطبقية والعرقية والمناطقية، ونشر المفاهيم القرآنية الداعية الى اعتماد مبدأ التقوى كميزان لتقييم الافراد؛ {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
هذه الخطوة كانت من بين الخطوات التي دفعت بالكفار والمشركين للتخلّي عن كفرهم وشركهم بالله، والدخول الى الاسلام كخطوة أولى باتجاه الايمان، فالاسلام الظاهري والسطحي لعامة المشركين في مكة والجزيرة العربية، هو ما كان يريده رسول الله في بداية دعوته، ولم يكن يتوقع أن يتحول الناس فجأة من عبادة الأصنام الى الايمان الكامل والعميق بالله وبتعاليمه وأحكامه، أو أن يكون شخص مثل أبو سفيان مطابقاً لصفات شخص مثل أبو ذر الغفاري، وهذا يفسر حكمة استيعاب النبي وصبره على وجود المنافقين في صفوف المسلمين، وحتى بين افراد جيشه.
وإذن؛ فان الانجاز الحضاري للنبي الاكرم، حول الانسان المشرك الى انسان مسلم ومنافق، كما حول المسلم المنافق الى مؤمن، كما يشير الى هذا؛ سماحة الامام الشيرازي، وهذا بفضل السياسة الحكيمة التي اتبعها النبي مع مجتمع الجزيرة العربية، بأن تمكن من جمع مختلف مكونات المجتمع تحت خيمة واحدة؛ من منافق ومؤمن وطالب شهرة وطالب مال وغير ذلك، والجميع يخدمون قضية واحدة.
ولكن؛ نتساءل عمن قلب المعادلة الحضارية التي أرساها النبي، وعمد الى تفريق الناس وتمزيق النسيج الاجتماعي، كيف سيكون المآل؟
انه ببساطة؛ تحول الانسان المؤمن الى منافق، والمنافق الى كافر، وهذا ما لاحظناه بشكل غريب في بلادنا الاسلامية، فالنفاق والازدواجية وإنكار الخالق والإلحاد وغيرها من علائم الابتعاد عن الايمان، لم تكن ظاهرة للعيان في العقود الماضية، بينما اصبح اليوم التحول العكسي حالة رائجة بين شريحة واسعة في المجتمع لاسيما الشباب، حتى باتت الثقة والمصداقية عملة نادرة بين الناس رغم الاجواء الايمانية السائدة، أما الذي كان يمارس النفاق في الاجواء الايمانية، فانه وجد في نفسه الشجاعة لأن يتقدم نحو التشكيك بالخالق وبالقيم الدينية ومصداقيتها وفائدة الصلاة والدعاء والتوبة والإصلاح وغيرها من المفاهيم.
فهم السيرة النبوية
إن جمع المتناقضين في المجتمع الواحد تحت خيمة واحدة، أمرٌ سهل بالكلام، كما يشير الى ذلك سماحة الامام الشيرازي، فالقضية بحاجة الى صبر عظيم وطول أناة وقدرة كبيرة على استيعاب مختلف اشكال السلوكيات والانتماءات والتوجهات، فالنبي لم يجمع حوله المؤمنون والمتقون والزهاد ويشكل من خلالهم تجمعاً او تنظيماً كما يفعل البعض اليوم، وإنما جمع المؤمن والمنافق، والجاهل والعالم، والغني والفقير، واذا كان تعلّم هذه الطريقة من التعامل مع الناس امراً صعباً، فان تطبيقه على ارض الواقع أصعب بكثير، كما يشير الى ذلك سماحة الامام الشيرازي.
فما السبيل للاستفادة من هذا الدرس العظيم لانقاذ بلادنا من التمزق والتشرذم؟
هذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي في حديثه، بأن الاستفادة من التجربة الحضارية للنبي الاكرم، ممكنة بفهم سيرته المباركة من خلال المطالعة الدقيقة لها والتوقف عند المواقف المميزة والتأمل في الكلمات والوصايا، ومحاولة معرفة اسباب اتخاذ هذا الموقف، او الدعوة الى ذاك الامر، ومثلاً؛ لماذا يختار النبي شخصاً مثل اسامة بن زيد، ذلك الشاب الصغير ليكون قائداً للجيش الاسلامي الجرار لمحاربة الروم، مع وجود رجالات قريش وصناديدها، والشخصيات البارزة من الصحابة، ثم يؤكد على المسلمين كافة، بأن "لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة"، او السبب في منح ابو سفيان وابنه معاوية وعدد ممن كانوا في زعامة الشرك والكفر والعداء للإسلام، كل واحد منهم مائة بعير، وهو رقم كبير جداً، ولم يكن النبي مجبراً على ذلك، إنما هنالك حكمة وفلسفة في القضية لابد من التأمل فيها والتعمق في دلالاتها لتكوين صورة متكاملة لنظام اجتماعي يمكن ايجاد مصاديق عملية له في الواقع الذي نعيشه.
اضف تعليق