q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الإجراءات الرشيدة لتقدمّ المسلمين

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

مفردة الرشاد كما يعرّفها أو يصفها الفلاسفة والمفكرون، بأنها تعني تحويل الفكر الى حزمة من الإجراءات السديدة، فإدارة الدولة الناجحة تشي بوجود نظام سياسي واعٍ وحرّ يقف وراءه فكر وقائد حكيم، وكذا إدارة الأسرة بطريقة جيدة، تؤكد أن قائد هذه الأسرة يتّسم بالرشاد والحكمة، ولا شك أن عامل الاقتصاد له دور حاسم في نجاح الدولة، وحتى الأسرة الحديثة، ينبغي أن تسلك سلوكا اقتصاديا يتناسب ودخلها المالي وقدرتها الشرائية، وتضع معظم الأسر ميزانية مالية مسبقة لمصروفاتها، حتى يتطابق المصروف مع ما لديها من أموال، وكثير من الناس يذهبون الى الادّخار، ذرةً ذرةً وقطرةً قطرة، حتى يصبح القليل كثيرا.

هذا الأسلوب من الادخار لا يقتصر على الأسرة بل هناك دول متقدمة في عالم اليوم، انتهجت هذا الأسلوب، لأنه يضمن لها مع مرور الزمن مخزونا كبيرا مما تحتفظ به من أموال أو أشياء، وتدرك هذه الدول والشعوب التي باتت في المقدمة اليوم، بأن الذرة التي تحتفظ بها اليوم وتزيدها ذرة يوم غد، وأخرى في اليوم الذي يلي ذلك، كلها تتجمع لتصبح خزينا كبيرا يمكن الاستفادة منه عندما تشحّ الأموال والأشياء، ولكن للأسف لم يُفِدْ المسلمون من هذا الأسلوب، لأنهم لم يطبقوا ولم يحترموا قانون (الذرات والقطرات)، فيما استفاد منه أعداؤهم.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الذرات والقطرات): (هناك الكثير من أعداء المسلمين أخذوا بقانون - الذرات والقطرات - فتقدموا علينا).

وطالما أن المسلمين لا يدركون هذا القانون، ولا يعيرونه اهتمامهم، فإنهم سوف يبقون مستقرين في صف الدول المتأخرة، لأنهم لا يردون أن يدركوا بأن الأشياء الصغيرة والبالغة الصغر (كالذرة) أو (القطرة)، يمكن أن تكبر وتستمر في الكبر، كمّا ونوعاً، لذلك ظلّوا يراوحون في مكانهم، سياسيا واقتصاديا بالأخص، فيما غيرهم ممن أعطى اهتماما صحيحا لقانون (الذرات والقطرات)، تقدم على المسلمين، وهذا يدعو الدول الإسلامية وأنظمتها ومجتمعاتها الى إعادة النظر في هذه القضية.

وهذا ما يركّز عليه الإمام الشيرازي قائلا: (نعم: القطرات تتجمع، والذرات تتراكم، والقليلات تنتهي إلى الكثيرات بإذنه سبحانه).

العمل يخضع للذرة والقطرة

لا يتعلق هذا الأمر بالجانب الاقتصادي فقط، وإنما يكاد يكون قانونا شاملا، تخضع له جميع الموجودات، حتى غير البشرية، فهل لاحظتم كيف يبني الطائر عشه، إنه يطوف الأمكنة في أيام عديدة وفي جولات طيران متعددة يجمع في كل مرة عودا أو قشة أو أي شيء يصلح لبناء عشه، وهكذا يستمر الطائر بجمع (ذرات الأشياء) ويصنع منها (بيتا) له وللقادمين الجدد.

وإذا كان هذا المخلوق غير العاقل يهتم بقانون (الذرات والقطرات)، ويواظب على جمع الأشياء الصغيرة ولا يكل ولا يملّ ولا يجزع، فما بال الإنسان لا يفهم هذا الإجراء الأهم، وإذا كان يفهمه، لماذا لا يطبقه، كما هو الحال ماضيا وحاضرا بالنسبة للكثير من المسلمين، فإنهم في الحقيقة لا يقرّون بـ (الذرات والقطرات)، وإلا لكانوا اليوم من أعظم التجمعات البشرية في العالم، لكن للأسف لم يدركوا أن النتيجة النهائية تتوقف على مدى التزامهم بهذا الأمر.

لذا يقول الإمام الشيرازي في كتابه نفسه حول هذه القضية: إن (العمل ذرةً ذرة وقطرة قطرة سلباً أو إيجاباً يؤثر في النتيجة كذلك، كما هو ثابت في الحكمة.(

ولا يزال أسلوب التحجج والتذرّع قائما من البعض، فهناك من يقول، أما أن تعمل عملا ضخما أو لا داعي لذلك أصلا، أي أنهم ضد التراكمية القليلة والبطيئة للأشياء، وهم لا يعترفون بجمع الذرات الصغيرة، ولا يرون بهذا العمل أية جدوى، لأنهم لا يقتنعون بجمع القليل تراكميا، وإنما يريدون إنجاز الأمور والخطوات الكبيرة دفعة واحدة، ولهذا السبب تأخر المسلمون كثيرا عن أقرانهم، لأنهم (جماعات وأفراد)، لم يدركوا أهمية وعظمة هذا القانون التراكمي الحاسم.

كذلك هم لم يدركوا بأن الحياة نفسها عبارة عن ذرات وقطرات، لهذا أثّر ذلك كثيرا على حياة الأسرة والمجموع، لأن حاصل أعمال وسلوكيات العائلات، هي التي تؤلّف بالنتيجة فعاليات وأنشطة المجتمع، وهذا دليل على أن النسبة الأعلى من العائلات، لا تعتمد الإجراءات التراكمية للادخار، وقد لا تعترف بأن تراكم القطرات يمكن أن يصنع بحراً عملاقا، ولكن هذه هي الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها ونطبقها حتى يمكننا اللحاق بالعالم المتقدم الذي احترم منهج (الذرات والقطرات)، فحقق نجاحا وتقدماً واستقراراً.

يشير الإمام الشيرازي الى ذلك بقوله: (ما يقوله البعض من أن اللازم أن يعمل الإنسان إما عملاً كبيراً أو يترك ـ كما أصبحت عادة كثير من الناس وحتى بعض العاملين ـ فهو غير صحيح، فإنهم بقولهم: (أو يترك) أخّروا المسلمين كافة، لأن الحياة ذرات وقطرات).

اجمعوا الذرات والقطرات وإن طال الزمان

ولأن الإمام الشيرازي ذو خبرة علمية إجرائية، قدم أهمية جمع (الذرات والقطرات) في مؤلَّف أو كتاب أو مجلّد، لكي يطلع الناس على أهميته، فلا سبيل لتقدم المسلمين طالما ظلوا بعيدين عن إدراك القيمة الكبيرة التي يقدمها هذا النمط من الإجراء للإنسان، فردا كان أو مجتمعا، ولذلك لم يألُ الإمام الشيرازي جهدا في نشر هذه الحقيقة بين المسلمين أينما كانوا.

وقد خصص سماحته (رحمه الله)، الكثير من وقته وجهده البحثي، لكي يقدّم للمسلمين معلومات قيّمة ومحسومة النتائج، ولو أخذ المسلمون (وكان عليهم أن يفعلوا) بما قدم لهم الإمام الشيرازي من ملاحظات ودروس ومعلومات دقيقة عن أهمية تراكم (الذرات والقطرات) مع مرور الزمن، لكان موقعهم الآن غير هذا الذي هم يسكنون فيه ضمن البلدان المتأخرة.

بالطبع مثل هذا الكلام ليس انتقاصا، أو نوعا من الملامة غير المجدية، وإنما تصب جميع ملاحظات الإمام الشيرازي في أهمية جمع (الذرات والقطرات) لتحقيق التطور المنشود، وعلينا أن نعترف أنه لا سبيل أمام المسلمين نحو التقدم (كما كان عهدهم وموقعهم في السابق)، ما لم يؤمنوا ويدركوا إدراكا علميا عمليا وفلسفيا، بأن عليهم فهم هذا المنهج الحياتي الشامل بصورة دقيقة، وإذا قاموا بهذا فعلا، فإن التقدم والاستقرار الذي ينشدونه سوف يكون في متناول أيديهم.

لذلك ينبغي التكرار الزمني لجمع الذرات والقطرات، وإبداء المطاولة في ذلك، لأن هذا الأسلوب هو أهم سبب من الأسباب التي تضمن تحقيق الأهداف المبتغاة، لذلك على الجميع (الفرد والجماعة)، أن يهتموا أكبر الاهتمام بالقطرات الصغيرة الحجم، فيجمعوها لتكثر وتكبر مع مرور الزمن، وهذا هو الإجراء الحكيم الذي يضمن للمسلمين تقدما ملحوظا ومضمونا في ميادين الحياة كافة، بالتساوق والتواصل والاستمرارية مع أقرانهم من البلدان والأمم الأخرى.

وقد ورد هذا التأكيد للإمام الشيرازي، كما في قوله: (إن التكرار زماناً، وجمع الذرات والقطرات عدداً، من أسباب الوصول إلى النتائج المطلوبة، فاللازم على الإنسان أن يهتم بالقطرات فيجمعها ولو طال الزمان).

اضف تعليق