إن الدولة، أية دولة لا يمكنها أن تمتلك الصفات الراقية للدولة، ما لم يكن نظامها السياسي، استشاري، وكابينة حكومتها، الوزراء ورئيسهم، حرة، تدير أعمال واحتياجات الأمة وفق مبدأ الاستشارة، وفي حال ضعف أو غياب الشرط الأخير (الاستشارة)، لا يمكن لدولة العصر الحالي أن تضاهي الدول المتقدمة، فالحقيقة التي تم تأكيدها وتثبيتها في عالم السياسة، أن تقدم أية دولة مرتبط بصورة مصيرية من مبدأ الشورى، فحاكم الدولة هنا ينبغي عليه أن يكون استشاري أيضا، ولا يكفي للحاكم أن يطبق المبادئ الإسلامية في إدارة الدولة والأمة، فهناك حتمية في دولة العصر تتمثل بوجود مبدأ الشورى بصورة حاسمة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام): (لا يكفي للحاكم الإسلامي أن يُطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون تطبيق مبدأ الشورى الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام).
وقد انشغلت البشرية منذ نشوئها، كانت تبحث عن طريقة وأسلوب إداري يحقق لها الاستقرار والأمان وسلامة الوجود، مع تهيئة لوازم العيش الكريم، فمنذ أن بدأ الإنسان بالتحول من حالة عدم الاستقرار والجري وراء غذائه أينما كان، الى الثبات، بدأت أشكال عديدة من التجمعات البشرية تتكون هنا وهناك، ومع تطور هذه التجمعات، أخذت الحياة الجماعية تتعقد أكثر وتحتاج إلى إدارة وقيادة في مختلف شؤون الحياة، من هنا ظهرت الحاجة الى الزعامة والحكم لإدارة شؤون الناس، مقابل أن يتنازل هؤلاء الناس عن بعض حرياتهم لصالح الزعيم او الحاكم، أو شيخ العشيرة وما شابه.
وتعلّم البشر يوما بعد آخر، بعض الخطوات التي تنظّم العلاقة بين الأعلى والأدنى، أي الحاكم والمحكوم، وقد أثبتت جميع التجارب التاريخية التي تتعلق بحكم الأمم والشعوب، أن الحكم والسلطة يجب أن تتم وفق عقد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، على أن يلتزم الطرفان ببنود هذا العقد، وأن أي خلل في التنفيذ من أي طرف وخاصة الحاكم (المستأثر بالسلطة) سيؤدي الى بطلان العقد، كما أثبتت التجارب بشكل قاطع، أن احترام بنود العقد يؤدي الى بناء دولة مدنية ناجحة مستقرة.
الديمقراطية والشورى مبدآن متقاربان
إن التقارب بين الشورى والديمقراطية واضح، فكلاهما ضد الحكم الاستبدادي، كما أن مصطلح الاستشارة هنا، يقابل مصطلح الديمقراطية، أو انتهاج المبدأ الديمقراطي في إدارة الحكم، لذلك في غياب الاستشارة، لا يمكن بناء دولة مدنية، تحمي الجميع وتعدل بين الجميع، وإذا حدث خلل في معادلة الاستشارة تساوي الحكم، بمعنى الاستشارة تعادل الحكم، فإن كل شيء يتعلق بحياة الشعب او الأمة سيختّل، وسوف تحدث صراعات وتعقيدات تؤدي بالنتيجة الى فقدان الثقة بين الحاكم والمواطن، لذا لابد من تدخّل الاستشارة في جميع شؤون الأمة، لضمان استمرارية الحياة ونشاط الناس بطريقة عادلة.
يقول الإمام الشيرازي، حول هذه النقطة المهمة: إنّ (كل شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه).
وثمة دلالة حاسمة على تسيير العلاقة بين السلطة والمواطن وفق قواعد استشارية تضمن الاشتغال بمبدأ العدالة، وهكذا تتضح لنا القيمة الكبرى للاستشارة في تحقيق عملية التوازن في السلطة، لأن عدم الاستشارة سيؤدي حتما الى تركيز السلطة المستبدة في النظام الحاكم ومن ينتمي إليه من الحاشية والمعاونين والمقربين أيضا، وبالتالي سوف يسود نظام اللاعدالة في التعامل مع الكفاءات والقدرات والمهارات التي يتمتع بها افرد الأمة او الشعب، من هنا فإن الاستشارة والتقدم صنوان لا يفترقان، بمعنى أن الديمقراطية الراسخة غالبا ما تقود الشعب نحو التطور والازدهار، أما غياب أو ضعف الاستشارة والديمقراطية، سيؤدى قطعا الى توليف وصنع دكتاتور، قد يبدأ هادئا متوازنا، لكن بذرة الطغيان في داخله ستنمو وتكبر عاجلا أم آجلا، وهذا لا يخدم الأمة، وما يناسبها هي اعتماد مبدأ الشورى الذي سيسهم بقوة في نشر العدالة بين الناس، ومن ثم ظهور الكفاءات في جميع المجالات.
نلاحظ ذلك في قول يقول الإمام الشيرازي الحاسم: (إذا طبِّقت الاستشارة، تظهر الكفاءات، وتتقدم عجلة الحياة إلى الأمام بسرعة كبيرة).
ويرى المهتمون أن هناك تناقضا شديدا بين الشورى والاستبداد، وهذا هو سر نجاح الحكومات التي تنحو الى تغليب الاستشارة على رأي الفرد الواحد، فاختصار الجميع في رأي وعقل واحد فيه خطورة جسيمة، لذا فإن الشورى كما هو متفق بين الجميع، تعمل على مقارعة وإضعاف الاستبداد، وهنا تحديدا تكمن أهمية الشورى في إدارة شؤون الدولة المدنية، لذلك يتضمن العقد القائم بين الحاكم والمواطن، إلزاما تاما بمبدأ الشورى في إدارة البلاد، وأن الحاكم الذي يحيد عن هذا الشرط سوف يخرج عن التزامه ببنود العقد، ولذلك يلجأ مثل هؤلاء الحكام الى سرقة السلطة والاستئثار بها من خلال عدم الالتزام بمضامين العقد المبرم مع المواطن.
الفوائد الجمة لمبدأ الشورى
ولابد من أن نفهم ونطّلع على الفوائد الجمة التي تتحقق في ظل مبدأ الشورى، فهي لا تستثني جانبا من جوانب الحياة، وكل الأمور مهما كانت صغيرة او كبيرة، ينبغي أن تخضع للشورى، لذلك من غير الجائز ولا المقبول، أن تسمح الأمة أن يحلّ الاستبداد محل الشورى في الحكم، حتى في أصغر مفاصل الدولة والحكومة والشعب.
من هنا يرى الإمام الشيرازي: أن الشورى تشمل (أي أمر مرتبط بقطاع من الأَمة صغيراً وكبيراً، فالاستبداد في الأمة بالحكم محرم، حراماً بحجم الأمة).
لذلك لا يصح أن نسمح للفردية أن تقوّض مساعي الجماعة، ومن محاسن الشورى أنها تسمح للجميع بالمشاركة في الرأي والنقاش ولا تكمم الأفواه، أما الفردية فهي تختصر جميع الأفكار والآراء في رأي واحد، هو رأي الحاكم.
وعلينا أن نفهم بأن مبدأ الشورى، على الرغم من أنه يسمح بالتداول والنقاش في الصياغات كافة، ولكنه لا يسمح للحاكم والحكومة بالتجاوز على المال العام أو العبث بالقواعد المحسومة، وعدم العدالة في توزيع الثروات، لأن العقد الذي يبرم بين الحاكم والمواطن، يجيز للحاكم التصرف بالثروات التي تعود للمواطنين، أو ما يسمى بالمال العام، ولكن هذا لا يعني أن الحاكم يتصرف بهذا المال، أو بنفوس المواطنين في الحروب مثلا كما يرغب هو، أو كما تفرض عليه رغباته التي قد تكون خاطئة.
ولدينا شواهد عديدة عن ذلك، كما في الحكام الطواغيت الذين لا تملأ شهيتهم سوى إراقة الدماء، وقد قدّم لنا التاريخ قصصا كثيرة عن مثل هؤلاء الحكام المستبدين الذين زجوا بشعوبهم في معارك وحروب طاحنة من اجل صنع المجد الشخصي لا أكثر، من دون أن يعبأ الدكتاتور بالخسائر الجسيمة التي تطال أرواح وممتلكات الأمة.
من هنا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: (يجب الأخذ بالمشورة بقدر تحقق إجازة التصرف في المال والنفس لا أكثر ولا أقل).
وهذا الأمر بطبيعة الحال، يحملنا مسؤولية كمواطنين وحكام، للالتزام بمبدأ الشورى التي تساعدنا على حفظ الحقوق، وهي بمثابة صمام الأمان الذي يمنع من الانزلاق في الانحراف، وهذه هي ذروة ما تمنحه الشورى للدول والأمم والحكومات التي تعمل في إطارها لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار والتقدم.
اضف تعليق