تحتاج أمة المسلمين في عموم العالم الى مراجعة شاملة ودقيقة لركائز الفكر الحسيني، فهذه الركائز تنطوي على خرائط عمل بالغة الوضوح والدقة والبيان، بإمكانها أن تضع أقدام الأمة و(عقولها) على الجادة الصواب خصوصا أننا نعيش في عالم مضطرب يغص بعقد التطرف ومواطن الإرهاب، لذلك يحتاج العالم نفسه الى حالة استقرار وثبات تقوم على الفكر العادل الذي يقدّم كرامة الإنسان وحقوقه على كل شيء.
وهناك كلمة للإمام الحسين عليه السلام، يوردها الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، هذه الكلمة تقدم رؤية تامة عمّا يهدف إليه الحسين من خروجه وإعلان ثورته على الجبروت الأموي المنحرف، متمثلا بالحاكم الطائش يزيد الذي أساء للإسلام مع أنه من أعظم الأديان التي نقلت البشرية من أتون الظلام الى ربوع العلم والمعرفة وسبل الخلاص.
في هذه الكلمة التي تعود الى الإمام الحسين (ع)، وذكرها الإمام الشيرازي في كتابه المذكور، تظهر الأهداف الحسينية بكل جلاء للعالم أجمع، إذ يرد في كتاب الإمام الشيرازي: (لقد علّل الإمام الحسين عليه السلام ثورته الخالدة بقوله: اللّهمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ انّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنّا تَنافُساً في سُلْطان وَلا التماساً مِنْ فُضول الحُطام ولكنْ لِنُرِيَ المَعالِم مِنْ دينِكَ ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بِلادِكَ ويَأمَنَ المَظْلومونَ مِنْ عِبادِكَ وَيُعْمَلُ بِفَرائِضِكَ وَأحْكامِكَ).
إذاً هذه هي أسباب الثورة الحسينية وهذه ركائزها، فلا تنافس على سلطان، ولا رغبة في حطام الدنيا، ولكن هي وقفة المناصر للدين، وترسيخ منهج الإصلاح في بلاد المسلمين، بعد أن عاث الحاكم المنحرف فسادا في البلاد والعباد، ولم يعد الصمت أو الصبر أو السكوت أو التغاضي مقبولا على درجة انحراف يزيد، فهبَّ الإمام الحسين هو وجموع الثائرين، معلنا الرفض القاطع للظلم والانحراف الأموي.
أما على صعيد العصر الراهن وكيفية توظيف الفكر الحسيني للنهوض مجددا، بعد رحلة السبات والكبوات المتتابعة التي مر بها المسلمون، لابد من التجديد والتحديث بالفكر والعمل وإدارة السلطة وفق مبادئ العدالة والحرية، فقد قطعت البشرية مراحل كبيرة في طريق التطور، في مجالات السياسة وإدارة الحكم ونشر الديمقراطية، وحققت تقدما في الاقتصاد العالمي وفي التعليم والصحة وسواها، لكن من باب العدل والإنصاف، أن نؤكد على مواطئ الخلل التي رافقت مسيرة البشرية ولا تزال ترافقها حتى الآن، وهي في مجملها إلحاق الأذى بالفقراء، وعدم معالجة موجات الجوع التي تضرب بعض الأمم والجماعات، فضلا عن الحرمان الذي يطول مجتمعات أخرى.
نور الإمام الحسين يضيء العالم
وامتدادا من أعماق التاريخ، بقي الظلام معششا مستداما، طالما بقي الحكام الظالمون يتحكمون بالمسلمين وبالعالم أجمع، والحقيقة ليست هناك مغالاة في الوصف الذي يؤكد على أن البشرية تعيش في حالة ظلام، على الرغم مما حققته من تطورات هائلة في مجالات الحياة، ولكن طالما هناك ظلم وقهر ومجاعات تتعرض لها جماعات تتوزع الأرض وتقطنها، فإن الظلام لا يزال حاضرا، والسبب دائما هو الابتعاد عن السياسة الحكيمة السليمة التي تدير وتدبر شؤون الناس المختلفة بالسبل الصحيحة والعادلة، ولكن الحكام ابتعدوا كثيرا عن منهج الحسين (عليه السلام)، ولهذا السبب يعيش المسلمون والعالم كله في حالة احتقان أربكت العالم كله.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (تعيش اليوم في ظلام دامس من الجهل وتغرق في لُجج من الفوضى والاضطراب والقلق، ولا علاج لها إذا أرادت النجاة إلاّ بالاستضاءة بأنوار هؤلاء الأطهار، وركوب سفينتهم فإنهم عِدل الكتاب الحكيم، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي مُخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعِتْرَتي ما إنْ تَمَسَّكتُمْ بهما لَنْ تَضِلّوا مِنْ بَعْدي أبداً).
إن ما يؤكد عليه الإمام الشيرازي، هو الفشل السياسي في إدارة شؤون المسلمين، بسبب عدم الالتزام بالمنهج القويم للأئمة الأطهار والركوب في سفينة الإنقاذ القادرة على درء مخاطر النفوس وجشعها، حيث تضعف النفس وتستجيب لكل رغباتها إذا كانت خارج المنهج الحسيني، وحينذاك تبلغ من الظلم والأذى الكثير الذي غالبا ما يلحق بالضعفاء والفقراء، لهذا لابد ان تكون هناك حالة من التوافق والتقارب والاتحاد بين المسلمين عموما، ليس قولا فقط، وإنما عملا في ارض الواقع.
علما أن نشر مبادئ الفكر الحسيني ودفع الناس للإيمان بها، يتطلب في البداية نشرها، وإطلاع الناس عليها، ولكن شيء من هذا لا يحدث على وجه الدقة أو وفق العمل المطلوب، ومما لا شك فيه أن إزاحة الظلم ونشر الحق والسلام، يحتاج الى جهد كبير، يتمثل بالترويج للمبادئ الإنسانية العظيمة للفكر الحسيني والتي تدعو الى المساواة ورفع الحيف والظلم عن كواهل الفقراء، ولكن في الواقع لم يقم المسلمون بهذه المهمة على وجه الدقة أو على الوجه المطلوب، فالتبليغ والترويج ونشر الفكر الحسيني لا يزال أقل مما هو مطلوب.
من هنا يتساءل الإمام الشيرازي عن أسباب عدم التبليغ فيقول: (أليس من المؤسف أن لا يكون للمسلمين في غير أقطارهم حتى مئة مبلّغ؟! بينما تدلّ الإحصاءات على أن للمسيحيين في أفريقيا عشرة آلاف مبشّر، وفي آسيا تسعون ألف مبشّر، مهمّتهم تنصير الآسيويين والأفريقيين، وهم مزودون بكلّ وسائل الحياة والتقدّم، وقد تمكّنوا من تنصير عشرات الملايين في هاتين القارّتين).
برمجة نشر الفكر الحسيني
إن ما جاء في كلمة الإمام الحسين في أعلاه، تضع النقاط فوق الحروف، وتوضح ما هو المطلوب من أجل الاستفادة من الثورة الحسينية ودروسها، لذلك لابد من التحرك السليم والمبرمج لنشر المنهج الحسيني بين المسلمين ولا بأس من أن يعرف الآخرون من غير المسلمين طبيعة المنهج الحسيني، وما يدعو إليه من حرية في الفكر والسلوك والإبداع وتطوير الحياة على أسس سليمة تقوم على مبادئ العدل والمساواة والتسامح، والأهم في هذا كله هو وضع خرائط عمل للإصلاح يُعمَل بها كمنهج لا مجال .
من المؤسف حقا ان يفشل المسلمون في استثمار طاقاتهم وثرواتهم المادية والفكرية في مواكبة العصر، واستثمار فرص التقدم، والسبب دائما ، الخمول واللامبالاة والنكوص والتراجع عن أداء الأدوار المطلوبة، لتحسين الحياة، سواء على مستوى الحكومات او الأفراد أيضا، لذا تسود فوضى واضحة في إدارة شؤون الرعية، ويتم التجاوز على الحقوق الأساسية للأفراد والشعوب، فضلا عن إهمال قضية العلم والتطور وإهمال النخب لدورها الأساس في هذا المجال المعرفي والفكري، حتى يبدو الأمر وكأن المسلمين في حالة نوم وعليهم إنهاء حالة السبات.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (لقد نام المسلمون طويلاً طويلاً حتى قُسِّمَتْ بلادهم، ونُهِبَتْ أموالهم، وهُتِكَتْ أعراضهم، وأريقَتْ دماءهم).
إن التمسك بالفكر الحسيني والإصلاح، ورؤية خرائط العمل الفكري والمادي، تدعونا كمسلمين للعودة الى الجذور الفكرية العظيمة التي تتمثل بمبادئ الفكر الحسيني، وأهمية نشرها عبر وسائل التوصيل المتعددة لاسيما أن العالم يضج اليوم بوسائل إعلام وتوصيل هائلة ومتاحة للجميع، ولكن هذا الهدف يستدعي استقطاب طاقات متميزة وعقول لها قصب السبق في العلم.
من هنا يرى الإمام الشيرازي بأن: (استقطاب القوى الإسلامية رجالاً من علماء وأطباء ومفكّرين ومعدّات من دور نشر ومكتبات ومطابع ومدارس وغيرها، فإن جمع القدرات من أهمّ أقسام الحزم للوصول إلى الهدف، فإن البحار تتكوّن من قطرات الأمطار، والصحارى تتألف من حبّات الرمال).
اضف تعليق