"...من الاسباب التي سببت تخلف المسلمين وتعاظم أزماتهم ومشاكلهم؛ الصفات النفسية غير الحسنة، مثل؛ الكبر، والغرور، والفردية، فهذه وغيرها تسبب في تحطيم الانسان، وأي انسان كان في العالم، وإلا لماذا اصبحنا مجمع الرذائل –والعياذ بالله- فاين الصبر؟ أين الحلم؟ أين العلم؟ وأين التعاون؟ أين خدمة الآخرين؟ أين الواقعية؟ أين الحقيقة؟ ونادراً ما نجد هذه الصفات بين المسلمين، وهذه تمثل مشكلة كبيرة في الامة، فاذا ما عادت صفاتنا، صفات واقعية، نبقى على حالنا المزري والمأساوي.
يقول الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ثم إننا نتعلم الاخلاق من رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكيف طبقها على أرض الواقع، وأوجد لها مصاديق حقيقية، ابرزها تعامله مع ألدّ أعدائه في مكة بعد فتحها، وفي مقدمتهم؛ أبي سفيان، الذي قاد الحروب العسكرية والنفسية ضد رسول الله، طيلة عشرين عاماً، بما أوتي من قوة، فقد حاربه بنفسه وبماله وزوجته (هند) وولده وعشيرته، مع ذلك؛ عندما يدخل مكة، يطلق مقولته الشهيرة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، بمعنى ليس فقط هو آمن، وإنما يحظى بامتياز، بل وقارنه بالكعبة المشرفة، "من دخل الكعبة فهو آمن"، ثم توجه الى رؤوس الشرك في مكة، قائلاً: ما ضنكم أني صانعٌ بكم؟! قالوا: أخٌ كريم وابن أخ كريم.
هذه المقولة لم تأت لغرض الدعاية الانتخابية ولهدف كسب ود الناس، كما يفعل بعض الساسة في بلادنا، عندما يعد بشيء ويظهر بصورة معينة، ثم يناقضها بعد انتفاء الحاجة اليها، وإنما كانت بداية لعلاقة جديدة مع مشركي قريش الذين دخلوا الاسلام فيما بعد، وحصل أن وقعت غزوة حنين، والتي وقعت بعد فترة وجيزة من فتح مكة، فتوجه الى أبي سفيان قائلاً: "كما كنت زعيماً في حرب الكفار، هل تريد ان تكون زعيماً في حرب المسلمين؟ فأجاب: نعم يارسول الله، فقال له توجه مع جماعتك الى جيش المسلمين، وحارب أبو سفيان مع رسول الله، وبعد انتصار المسلمين في هذه الحرب، أكرمه النبي بمائة بعير، كما أكرم ابنه معاوية وابنه الثاني يزيد، كلٌ مائة بعير، والبعير في ذلك الوقت كان يعادل سيارة حديثة في زماننا الحاضر.
بهذه الاخلاق تمكن الرسول الأكرم من التقدم في بناء الحضارة الاسلامية.
الأخلاق بين الربح والخسارة
عندما اجتمعت كلمة المفكرين والعلماء والمصلحين في العالم على أن الاخلاق من عوامل نشوء وبقاء وتقدم الأمم، إنما بواقع الاحتكام الى هذا الركن الثقافي في تعاملات الناس فيما بينهم، وإلا فان افراد المجتمع تحكمهم المصالح والنزعات والرغبات النفسية، فاذا كانت الأولوية لهذا الجانب، فان الصفات الاخلاقية مثل؛ الصدق والامانة والوفاء وغيرها، يتفرض ان تدور في مدارها، لا أن تكون هي المحور في السلوك والتصرفات وفي مجمل حياة الانسان والمجتمع.
وحتى لا نخوض في الاسباب المؤدية الى تخلف البلاد الاسلامية وهزيمة المسلمين اقتصادياً وسياسياً ونفسياً ايضاً، نسلط الضوء على سبب واحد يتعلق بالجانب الاخلاقي في حياة افراد الامة، فقد كان الاخلاق عنواناً للمجتمع وللأمة جمعاء، يسود التراحم والتكافل والصدق والامانة جميع نواحي المجتمع، بينما في الوقت الحاضر، يكاد ينحصر الاخلاق ليكون عنواناً ضيقاً لافراد معينين يعرفهم الناس بأسمائهم؛ فذاك الانسان الصادق! أو ذاك البائع النزيه! أو ذاك المعلم المخلص، او هذا الجار الأمين، وهكذا... وبات الناس اليوم يتحسرون على الأيام الخوالي التي كان الجار يترك داره مفتوحاً لجاره، كما لو تركه لأخيه او افراد عائلته، أو يسافر ويأمن على زوجته وبناته رغم الانقطاع الطويل، او يشتري أية سلعة من مواد غذائية او دوائية او منزلية وهو آمن من الغش والتدليس. فما السبب وراء؟!
انه الانكفاء على الذات والتقوقع في أطر ضيقة تلبي حاجة الانسان الخاصة، ولا شأن لها بالآخرين، لنبدأ من البيت الصغير الذي تسكنه أسرة صغيرة، فان رب الأسرة يفكر بتوفير أفضل سبل العيش لافراد اسرته من ماء عذب وكهرباء مستمرة وأثاث جميل وأجهزة كهربائية حديثة، بل ودار وسيعة وفارهة وربما الى جانب كل ذلك؛ سيارة من طراز حديث، فاذا توفر كل ذلك، ما الذي يدفع لأن ينقل تفكيره الى ما وراء الجدار، ليجد جاره ما اذا كان يتمتع بكل هذه النعم الموفورة له أم لا؟ وهل ان ابنائه يذهبون الى المدرسة بنفس المستلزمات الجميلة المتوفرة لابنائه؟
في هذه الايام تحديداً، نجد البعض يغدقون على ابنائهم التلاميذ بكل شيء حتى يكملوا مراحل الدراسة حتى الجامعة ليصلوا الى الدراسات الجامعية المرموقة في كليات مثل؛ الطب، أو الهندسة، أو العلوم، بينما نلاحظ طلبة من شرائح اخرى تعيش على الكفاف، تكافح وتناضل من أجل النجاح في الامتحانات وتصل بشقّ الأنفس الى ما تريد في الجامعة، فتصل أو لا تصل، فيما نلاحظ عزوف نسبة لا بأس بها من البنين والبنات عن الدراسة لقلّة ذات اليد وعدم تمكن أولياء الأمور من تغطية تكاليف الدراسة.
إن التفاتة من صاحب الدار المترفّه مع أسرته، الى جاره ومحاولة مساعدته للخروج من ضنك العيش، يعني لدى الكثير نوعاً من الخسارة، فهو عليه أن يتنازل عن شيء امكاناته و امواله، في حين تسود النظرية الغريبة في الوقت الحاضر، بأن "المال لم يأت بالهيّن، لذا على الفقير والمحتاج بذل المزيد للوصول الى وصلت اليه".
وإن كان يصدق هذا على الجانب الاقتصادي والمعيشي في اوساط المجتمع، فانه يصدق ايضاً على الجانب الاجتماعي والانساني، مثالٌ بسيط على هذا؛ إفشاء السلام، فهناك من يتصور بأن الآخرين هم من يجب ان يبدأوا بالسلام عليه! أو ان يتوقفوا حتى تعبر سيارته او أن يخدمه الناس وليس من شأن أحد انتقاده او ادانته وإن كان مخطئاً، فان لم يفعل كل هذا فانه يكون في صف الخاسرين والضعفاء!
التفكير الخاص بامتلاك اسباب القوة المالية او الجاه او حتى المنزلة العلمية والاجتماعية، تضع العصي في عجلة التقدم للبلد والامة، وما نلاحظه من علائم التخلف و اتباع الغرب ثقافياً واقتصادياً وايضاً سياسياً، فهو يعود الى الجذور الاخلاقية التي تجعل البعض مثله كمثل الشجرة الخضراء الواسعة الاغصان والجميلة المنظر، بيد أنها لا تقدم شيئاً لاحد، بينما نلاحظ سنبلة واحدة من القمح، تحمل عشرات الحبوب من الحنطة التي تمثل أغنى مادة غذائية للانسان، وفي سورة البقرة يمثل القرآن الكريم بروعة بالغة كيف يسهم الانسان في تقدم مجتمعه وأمته، فيما يتعلق بالانفاق: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
البنية التحتية
يطالب سماحة الامام الشيرازي في المقطع الصوتي الذي دوناه أعلاه، بأن تكون للصفات الاخلاقية مصاديق على ارض الواقع، ويستشهد سماحته بسيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وكيف تعامل مع أعدائه فضلاً عن افراد المجتمع الاسلامي، وهذا يعني أن التطبيق العملي بحاجة الى بنية تحتية في النفس الانسانية وفي طريقة التفكير حتى تتجاوز لقلقة اللسان وتصل الى أعماق النفوس وتترك أثرها في حياة المجتمع والامة. تمثل
إن الايمان من شأنه توفير هذه البنية التحتية في نفس الانسان، كونها أهم وأبرز عامل ملزم للسلوك والتصرفات، وهذا مصداق حديث النبي الأكرم: "الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان"، وعندما يتجلّى الايمان بمستوياته المختلفة، فانه يساعد على ترسيخ القيم الاخلاقية ويفتح آفاق بعيدة خارج الأطر الضيقة والمصالح المادية الزائلة، وتضع الانسان أمام حقيقة مصيرية بأنه لا ينتهي في حدود سنوات حياته المادية في هذه الدنيا، إنما هنالك معادلة الثواب والعقاب في عالم الآخرة.
وفي كتابه "الفكر الاسلامي مواجهة حضارية" يشير المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي الى معطيات وفوائد للانسان، ومن جملة الفوائد؛ الفلاح في الآخرة بفضل التحلّي بالصفات الحسنة والخلق الرفيع، فالذي يكون {قلبه مطئمناً بالايمان} وأن أمامه الجزاء الأوفى، من المؤكد أن يجعل الخلق الرفيع منهجاً ثابتاً في الحياة، وهذا يفسّر الحديث الشريف: "المؤمن لا يكذب" أو "المؤمن لا يزني".
والفائدة الاخرى: الفلاح في الدنيا وهي "السعادة التي تنشأ من تزاوج عاملين: القضاء على اسباب الشقاء، وتوفير سبب الفلاح"، ومن اسباب الشقاء التي يذكرها المرجع المدرسي، ويتحدث عن طريقة القضاء عليها؛ الخلق السيئ، من حسد، وحقد، وغرور، وكبر، وسوء ظن، وغيرها من مساوئ الخُلق، ويأتي "الايمان ليقلع جذور الفساد من قلب صاحبه ويجعل نفسه نقية راضية مرضية"، والانسان المؤمن تتغير نظرته المادية فيستهين بالحياة وما فيها من رذائل ومنزلقات نحو الانحراف والفساد.
وفي سيرة أهل البيت، عليهم السلام، احاديث وفيرة عن دور حسن الخلق في تحقيق الحياة الكريمة للانسان، وايضاً في خلق حالة من الانسجام والتآلف الاجتماعي لما من شأنه المساعدة على تحقيق اهداف وطموحات كبرى ليس للانسان الفرد وحسب، وانم لافراد المجتمع والامة جمعاء.
اضف تعليق