لا شك أن ظلم بعض الحكومات وصل الذروة، فلم تعد الأمور قابلة للمزيد، وما على المسؤولين والساسة إلا إصلاح الأمر بينهم وبين الجماهير، وفقا لمعايير الإنصاف والعدالة وحفظ المعادلة الدقيقة بين الحقوق والواجبات، والمطلوب اليوم من الحكومات العربية والاسلامية أن تنصف شعوبها، وأن تتعامل معها وفق رؤية الاسلام التي تدعو الى إنصاف الجماهير، وتغليب مصالحها على مصالح الحكام، والانظمة الحاكمة، لكن الذي حدث ولا يزال يحدث، أن بعض الانظمة السياسية والحكومات التي تتشدق بانتسابها للاسلام، وتعلن بأنها تعمل وفق تعاليمه، وانها تقدم لشعوبها ما تستحقه من حياة حرة، فإنها لا تزال تقول ما لا تفعل، منذ أن تربعت على عروش الحكم، الأمر الذي يجب التنبّه إليه والكف عن إهمال الأمة والتجاوز على حقوق الجماهير التي لم تعد قادرة على غض الطرف عن المسؤول الخاطئ والمنحرف.
إن المسؤولية في العلاقة بين المواطن والحاكم ينبغي أن تقوم على الشورى والدستور الذي يكتبه الشعب ويوافق عليه في انتخابات نزيهة معلنة، بعيدا عن التسلط والتجبّر والتعالي السلطوي الذي لا يؤدي إلا الى نبذ الحكام وإسقاطهم، مهما كان جبروتهم، ولهذا ينبغي على العرب والمسلمين، الحكام منهم والسياسيين على وجه التحديد، الاتعاظ مما حدث ويحدث، وقراءة صفحات التأريخ ايضا، لكي يبحثوا ويعثروا على التجارب النموذجية في حكم الشعب، ولدينا في حكومة الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام، نموذجا رائعا في حكم الناس وإدارة شؤونهم، بالحق والعدل والرحمة والمساواة، وتنظيم العلاقة والمسؤولية بين الحاكم والمحكوم على أفضل وجه.
في هذا الخصوص نقرأ في كتاب الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين) مقاطع من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه الموجّه الى مالك الأشتر حين ولاه على مصر، مخاطبا إياه ومنبّها له في كتابه عليه السلام:
(أشعر قلبك الرحمة لهم فإنك فوقهم. أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضاء الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة).
لا ينبغي المساواة بين المحسن والمسيء
فالرحمة بالمحكوم ينبغي أن تتقدم أعمال وأقوال الحاكم، وكذلك إنصافه، كذلك ما يبدر من خاصة الحكم من ذويه وحاشيته، حيث اعتاد الحكام العرب والمسلمين (شكلا)، أن يفسحوا المجال واسعا لأبنائهم ومساعديهم، للتجاوز على حقوق الناس، لذلك يرد في الكتاب نفسه تأكيد الامام علي عليه السلام: (إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطعمة، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بالحق لك، وأرفقهم بأهل الورع والصدق، ثم حثهم على أن لا يطروك وأن لا يبحجوك بباطل لم تفعله).
ولا ينبغي المساواة بين المحسن والمسيء، فلكل منهما مكانته سواء في الثواب او العقاب او المنزلة بين الناس، اذ يوصي الامام علي عليه السلام مالك الاشتر والي مصر قائلا:
(ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على ذلك، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه). ويذكّر الامام علي عليه السلام بأن المجتمع يتكون من طبقات متباينة، ولكن بعضها يصلح بعضا، وبعضها يكمّل بعضا، وكما ورد ذلك في كتاب الامام الشيرازي نفسه:
(واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها الجنود، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف، وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجارة وأهل الصناعات).
يتضح من مضامين هذا الكتاب أنه يقدم دروسا لحكام الحاضر، ويوجه المسؤولين على الكيفية التي تقوم عليها العلاقة التبادلية بين الطرفين، فهذه الوصايا وغيرها من الأفعال القائمة على الارض، تقدم للساسة والحكام المسلمين والعرب وغيرهم، دروسا واضحة ونموذجية لطرائق التعامل مع المجتمع، وادارة شؤون الناس، بما يجعلهم مستقرين مندفعين نحو العمل والابداع في ميادين الحياة كافة، وينبّه أمير المؤمنين عليه السلام، مالك الاشتر على كيفية التعامل مع مساعديه وموظفيه، الذين يديرون شؤون الناس، ويؤكد على مراقبتهم وخلق عوامل النجاح التي تساعدهم، على اداء عملهم بنجاح.
درس بليغ في استخدام السلطة
حيث يتأكد ذلك في هذه الوصية التي أوردها الامام الشيرازي لتوضيح المضمون المقصود، إذ يرد في الكتاب المذكور:
(اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم. ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة. أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، ثم تفقد أعمالهم).
إن الدرس الذي ينبغي أن يتعلمه المسؤولون واضح وبليغ في سياسة الامام علي (ع)، ذلك أن الحكومات والانظمة التي لا تزال تغوص في وحل الاخطاء السياسية، تتحمل الخلل في العلاقة بين المواطن والمسؤول، وذلك من خلال تنصيب الاشخاص غير المناسبين على ادارة شؤون الناس، حيث يستشري الفساد ويستمر التجاوز على المال العام، وهذا بسبب عدم الاختيار السليم للموظفين، وبسبب تقاعس الحكومة في محاسبة المفسدين، وقد يكون السبب رؤوس الانظمة نفسها، لأنها تشترك بالفساد مع موظفيها، وهذا ما يشكل تجاوزا واعتداء سافرا على حقوق المجتمع وخاصة الطبقة الفقيرة.
ولذلك يؤكد الامام علي عليه السلام على مالك الاشتر، بوجوب المراعاة التامة للطبقة المحرومة، كما نقرأ ذلك في كتاب الامام الشيرازي:
(ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، اجعل لهم قسماً من بيت المال ولا تشخص عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ثقتك من أهل الخشية والتواضع ليرفع إليك أمورهم، واجعل لذوي الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه).
إن مضمون الكتاب الموجه الى مالك الأشتر عبارة عن درس بليغ للحاكم أولا، ومن ثم يمكن أن ينهل منه المواطن أيضا، باعتبار أن عليه واجبات ينبغي الالتزام بها، وهكذا تقدم حكومة الإمام علي عليه السلام، نموذجا عظيما وراقيا في صيغة الحكم، لجميع القادة والسياسيين المعاصرين العرب والمسلمين، وما عليهم سوى الإطلاع العميق على هذه التجربة الخلاقة، وفهم دروسها، ثم تطبيقها واقعا، في ادارة الحكم، تحقيقا لما تفترضه مسؤولية الحكم، من الحكام إزاء شعوبهم ومجتمعاتهم، على أن المواطن مشمول بهذه المسؤولية التبادلية التي تهدف أولا وأخيرا الى قيام دولة قوية متوازنة ومتقدمة.
اضف تعليق